غزة- تكافح “أم محمد” وزوجها، يوميا، من أجل توفير الطعام والمياه لأسرتهما، والحليب لطفلهما الرضيع، الذي ولدته بعملية قيصرية في مستشفى العودة بمخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة.
وعلى وقع مخاطر جمة نتيجة الغارات العنيفة، نزحت أم محمد وأسرتها المكونة من 5 أفراد، من منطقة إلى أخرى، حيث منزل والدتها في المخيم ذاته، واستخدمت في حديثها للجزيرة نت كلمة “مأساوي” بشكل متكرر، لوصف الواقع المعيشي المنهار في مناطق شمال القطاع.
لم يكن موعد ولادة أم محمد (39 عاما) قد حان، عندما شعرت بآلام المخاض، وقطعت بضع مئات من الأمتار سيرا على الأقدام، متعالية على آلامها ومخاطر الحركة ليلا، للوصول إلى المستشفى، حيث وضعت مولودها -ولأول مرة- بعملية قيصرية، تعتقد أنها ناجمة عن الخوف الشديد.
وشهد مخيم جباليا، وهو الأكثر اكتظاظا بالسكان بين مخيمات اللاجئين الثمانية في القطاع، مجازر مروعة هي الأعنف خلال الحرب الإسرائيلية المتصاعدة للأسبوع الخامس على التوالي.
هذه المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين داخل منازلهم السكنية، جعلت أم محمد تتكتم على اسم عائلتها، خشية وحرصا، وقالت: “يريدون إبادتنا بالقتل والجوع، يسقطون علينا الصواريخ دون إنذار ويبيدون عائلات بأكملها”.
حرب التجويع
ولا تتوفر لأم محمد التغذية المناسبة، التي تمكنها من إرضاع مولودها، حيث فرغت المحال التجارية من السلع والمواد الغذائية، فيما الأسواق خاوية من الخضار، لتعذر وصول المزارعين إلى أراضيهم ومزارعهم المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي.
وتعزل إسرائيل مدينة غزة وشمالها، عن مدن جنوب القطاع التي تعتبر “السلة الغذائية”، وتمنع تدفق السلع والمحاصيل من جنوب القطاع لشماله، وفي الوقت نفسه تواصل منع توريد السلع الغذائية وكافة الإمدادات الإنسانية، بما فيها الوقود، عبر معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، المغلق منذ اندلاع الحرب في السابع من الشهر الماضي.
وتقيم أم محمد في منزل مكتظ بـ6 أسر مكونة من 35 فردا، يعيشون طوال اليوم على وجبة طعام واحدة وبسيطة، والقليل من المياه الصالحة للشرب، حتى أنهم اضطروا في أيام كثيرة إلى شرب مياه مالحة وغير معالجة.
وتترجم معاناة هذه الأسر ما ذهب إليه “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” من أن إسرائيل صعّدت في الساعات الأخيرة بشكل حاد من “حرب التجويع” التي تمارسها بحق المدنيين في القطاع، لمفاقمة الوضع المعيشي الذي وصل لمستويات كارثية، كأداة للإخضاع.
وقال مدير المرصد الدكتور رامي عبدو للجزيرة نت “إن إسرائيل تقدم الدليل تلو الدليل على انتهاجها حرب التجويع، عبر استهدافها المباشر للمخابز والمصانع والمحال التجارية والأسواق ومحطات وآبار وخزانات المياه، إضافة إلى قصف المولدات الكهربائية ووحدات الطاقة الشمسية، التي تعتمد عليها المرافق الحيوية من منشآت تجارية ومطاعم ومؤسسات مدنية، للحفاظ على الحد الأدنى من عملها، في ظل انقطاع تام للكهرباء، ونفاد الوقود”.
وأدت أزمة انقطاع الكهرباء إلى تعطيل الإمدادات الغذائية من خلال التأثير في التبريد وري المحاصيل، في وقت فقد أكثر من 15 ألف مزارع محاصيلهم، ولم يتمكن نحو 10 آلاف من مربي الماشية والدواجن من الحصول على العلف الكافي لها، وفقد الكثير منهم حيواناتهم وطيورهم، وحتى حياتهم نفسها، بالاستهداف الإسرائيلي خلال محاولتهم الوصول إلى مزارعهم.
وتبرز آثار حرب التجويع بشكل جلي -بحسب عبدو- في مدينة غزة ومدن وبلدات شمال القطاع، ويعمل المرصد حاليا على توثيق حالات لأطفال يعتقد الأطباء أنهم توفوا بسبب الجفاف الناجم عن الجوع الشديد. ويقول: إن “سكان غزة وشمالها يقضون يومهم بحثا عن الطعام والماء”.
خبز مغمس بالدم
ويحظر القانون الدولي الإنساني، بشكل حازم، استخدام التجويع، كوسيلة من وسائل الحرب. وباعتبارها القوة المحتلة في غزة، فإن إسرائيل ملزمة بتوفير احتياجات سكان غزة وحمايتهم.
ووفقا لمدير “الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” فإن إسرائيل وبدلا عن ذلك، لم تكتف بالحصار المطبق واستهداف ما تبقى من سبل الحياة في غزة، بل عمدت إلى استهداف المدنيين في أثناء “الرحلة الشاقة” بالبحث عن الطعام والماء، وقصفتهم في “طوابير” المخابز وفي الأسواق.
ومن بين حالات كثيرة وثّقها الأورومتوسطي، أشار عبدو إلى حالتي يحيى كحيل وأولاده الثلاثة وابنته، الذين استشهدوا جميعا في غارة جوية إسرائيلية استهدفتهم لدى عودتهم إلى جلب بعض الطعام من منزلهم الذي نزحوا منه في مدينة غزة، كما استشهد سامي عاشور ونجله عبد الله في استهداف إسرائيلي في أثناء بحثهم عن الطعام.
هذا الاستهداف المتزامن مع هجمات إسرائيلية طالت تدمير المنطقة الزراعية المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي شرق غزة، ومخازن الدقيق وقوارب الصيادين، فضلا عن مراكز التموين للمنظمات الإغاثية، لا سيما وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أكبر مصدر للمساعدات الإنسانية في القطاع، يؤشر وفقا لعبدو إلى “انفجار وشيك ومجاعة في قطاع غزة”.
إبادة جماعية
واستخدم رئيس “المكتب الإعلامي الحكومي” سلامة معروف، المصطلح ذاته متفقا مع عبدو بأن الاحتلال ينتهج “سياسة حرب التجويع” إلى جانب أدوات القصف والحصار، وقال للجزيرة نت إن إسرائيل “تدمر كل سبل ومقومات الحياة، خاصة في مدينة غزة وشمالها”.
وتشن إسرائيل -بحسب وصف معروف- “حرب إبادة جماعية”، وبالتزامن مع الغارات الجوية المكثفة، تمنع وصول المواد الغذائية والوقود إلى مدينة غزة والشمال، ودمرت غالبية آبار وخزانات المياه في بلدتي بيت لاهيا وبيت حانون، ومخيم جباليا، ويتعذر على طواقم البلديات الوصول إليها وإعادة إمدادات المياه للسكان.
وبموازاة ذلك، فإن 2% فقط من المساعدات الإنسانية دخلت القطاع عبر معبر رفح البري مع مصر، يتم توزيع المواد الغذائية منها، وهي محدودة للغاية على النازحين في الجنوب، فيما يمنع الاحتلال وصولها إلى مناطق شمال القطاع، ووفقا لمعروف.
وتشير تقديرات “برنامج الأغذية العالمي” إلى أن المخزون الحالي من السلع الغذائية الأساسية ستكون كافية لـ4 أيام على الأكثر قبل أن تنفد بشكل نهائي، في وقت أصيبت الحركة التجارية بالشلل بسبب الدمار واسع النطاق، وانعدام الأمن، ونقص الوقود.
وبسؤاله عن الخيارات المتاحة لمواجهة حرب التجويع، قال معروف “إن السؤال يجب أن يوجه إلى المجتمع الدولي الذي يقر بالنكبة الإنسانية في غزة ولا يحرك ساكنا لإغاثة المنكوبين، أما نحن فليس أمامنا سوى الصبر والصمود حتى الرمق الأخير”.