قضاء فرنسا بمواجهة نظام الأسد.. هل تفتح المحاكمات بابا للعدالة بسوريا؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

مع إصدار القضاء الفرنسي أول أمس الجمعة، حكما بالسجن مدى الحياة على 3 مسؤولين في النظام السوري، تتعزز الآمال بإمكانية تفعيل آليات مكافحة الإفلات من العقاب، وتحقيق العدالة في جميع الجرائم التي تعرض لها السوريون.

وجرت محاكمة المتهمين غيابيا، بعد إدانتهم، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وطلبت ممثلة النيابة العامة، الإبقاء على مفاعيل مذكرات التوقيف الدولية، الصادرة بحق كل من علي مملوك، وجميل حسن، وعبد السلام محمود، الذين شكلوا ركائز للنظام السوري.

وقامت المحاكمة الغيابية للمسؤولين الأمنيين بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وضلوعهم بمقتل مازن الدباغ وابنه باتريك وهما “فرنسيان من أصل سوري” داخل سجن مطار المزة العسكري، الذي تديره المخابرات الجوية جنوب غرب العاصمة دمشق.

واضطلع الثلاثة بأدوار مختلفة، في منظومة الأمن السورية، حيث تولى مملوك إدارة جهاز مخابرات أمن الدولة، ثم أصبح رئيسا لمكتب الأمن الوطني خلفا لهشام بختيار الذي قتل في عملية تفجير شهيرة جرت في دمشق، ثم مستشارا أمنيا للرئيس بشار الأسد.

وتولى جميل حسن إدارة جهاز المخابرات الجوية، في حين تولى عبد السلام محمود رئاسة فرع التحقيق بالإدارة نفسها.

شقيق مازن الدباغ عبيدة الدباغ وزوجته يحتفلان بعد صدور الحكم ضد 3 مسؤولين سوريين (الأوروبية)

موت تحت التعذيب

وثبت لقضاة التحقيق في اللائحة الاتهامية معاناة الضحيتين “مازن وباتريك” خلال فترة توقيفهما، مثل آلاف المعتقلين لدى المخابرات الجوية، من تعذيب قاس لدرجة أنهما ماتا بسببه.

واستمع قضاة المحكمة، لـ23 شاهدا بالقضية، من بينهم فارّين من الجيش السوري ومعتقلين سابقين في مركز الاحتجاز المذكور، كشفت إفاداتهم عن أنماط متكررة من القمع الممنهج وواسع النطاق، لأساليب تعذيب مرعبة، يتعرض لها ضحايا المركز، تشكل جميعها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وفي هذا الإطار، سبق لمسؤولين آخرين، أقل مرتبة، أن خضعوا لمحاكمات في أماكن متفرقة من أوروبا، كألمانيا والسويد وفرنسا وهولندا، بشأن انتهاكات مماثلة، أدت إلى مقتل الآلاف منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.

أهمية المحاكمة

واكتسبت المحاكمة بحسب خبير القانون الدولي المعتصم كيلاني أهمية كبيرة، لأنها تشكل جزءا أساسيا من الجهود المبذولة، لتحقيق العدالة السورية المنتظرة بشكل عام، والعدالة للضحايا وذويهم بشكل خاص، بعد أن تعطل الطريق إلى محكمة الجنايات الدولية.

وفي حديثه للجزيرة نت أوضح كيلاني أن سوريا لم تصادق على نظام روما الأساسي، الذي أنشئت بموجبه محكمة الجنايات الدولية، كما فشلت محاولات استصدار قرار من مجلس الأمن لإحالة القضية السورية إليها، “ولذلك فإن مجرد محاكمتهم، هو أمر في غاية الأهمية من الناحية القانونية، على اعتبارهم رموزا أمنية، ولم يسبق قبلهم أن حوكمت شخصيات على هذا المستوى”.

ولفت إلى أن ملاحقة مرتكبي الفظائع في سوريا أمام القضاء في بلد ثالث، من خلال ما يعرف بالولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية، هو أفضل الخيارات المتاحة في الوقت الراهن لضحايا نظام الأسد.

وتتمتع المحاكم الفرنسية بموجب الاختصاص الخارجي أو مبدأ الولاية القضائية العالمية، بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة ضد المواطنين الفرنسيين أو أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة.

وبناءً على ذلك، تم إجراء تحقيق جنائي في واقعة مقتل أفراد عائلة الدباغ داخل سجون نظام دمشق، ثم أحيل ملف القضية إلى المحكمة، وقد رحبت العائلة بقرار المحكمة.

رئيس المخابرات الجوية السورية السابق جميل حسن، ورئيس جهاز استخبارات الأمن القومي السوري السابق علي مملوك (كومبو لو أمكن)
المدير السابق للمخابرات الجوية السورية جميل حسن (يمين) والمدير السابق لمكتب الأمن الوطني علي مملوك (الجزيرة)

وحدة متخصصة

وتولت وحدة جرائم الحرب الفرنسية التي أنشئت في عام 2012، التحقيق في قضية عائلة الدباغ، من ضمن 10 قضايا تتعلق بجرائم من هذا النوع ارتكبت في سوريا.

وهذه الوحدة متخصصة وتتكون من فريق مؤلف من 5 مدعين عامين، و3 قضاة تحقيق مستقلين، وفريق من المحققين المتخصصين، وهم يعملون حصريا في قضايا دولية تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

وكان قضاة التحقيق المسؤولون عن القضية قد أصدروا عام 2018 أوامر توقيف دولية، ضد المدانين الثلاثة، بتهمة المشاركة في جرائم ضد الإنسانية، والتعذيب، والاختفاء القسري، وجرائم حرب.

وفي بداية عام 2023 طلب المدعي العام الفرنسي، توجيه لائحة اتهام ضد الثلاثة أمام محكمة باريس الجنائية، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية.

زوار الفجر

وتعود فصول القضية إلى الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013، حيث قبض قبل ساعات قليلة من موعد أذان الفجر على باتريك الدباغ (20 عاما) من منزله في حي المزة في العاصمة دمشق، على يد مجموعة أمنية زعموا أنهم ينتمون إلى المخابرات الجوية السورية، من دون أن يفصحوا عن مبررات اعتقاله.

وفي اليوم التالي، عادت المجموعة بالتوقيت نفسه، برفقة ما يقرب من 12 جنديا مسلحا، واتهموا والد باتريك مازن الدباغ بعدم تربية ابنه بشكل صحيح، وألقوا القبض عليه، زاعمين أنهم سيعلمونه كيف ينشئ ولده.

وتوجز حنان دباغ زوجة شقيق الضحية مازن، التي انضمت إلى القضية كطرف مدني، ما حصل في تلك الليلة بقولها: “لم يسلم أي شيء في المنزل من الأذى، فقد فتش عناصر المخابرات الجوية خلال المداهمتين جميع محتوياته، وصادروا موبايلات أفراد الأسرة، وأجهزة الكمبيوتر، وما وقع بين أيديهم من أموال تخص العائلة، كما صادروا السيارة التي كان يستقلها مازن”.

وتضيف للجزيرة نت أن العناصر الأمنية اقتادت الوالد وابنه إلى مركز احتجاز في مطار المزة العسكري، ومنذ ذلك الحين، لم يعرف أي شيء عن مصيرهما.

وتابعت أن العائلة تلقت في يوليو/تموز 2018 إخطارا رسميا بوفاة مازن وباتريك، ووفقا للوثائق فقد توفي باتريك في 21 يناير/كانون الثاني 2014، بينما توفي مازن في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أي بعد 4 سنوات تقريبا على وفاة باتريك.

ويعتبر مركز احتجاز مطار المزة العسكري، الذي شهد مقتل عائلة الدباغ، أحد أسوأ مراكز التعذيب التابعة لنظام الأسد، وقد شهد بحسب اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، معدل وفيات تجاوزت غيره من مراكز الاعتقال المنتشرة، بنسبة كبيرة.

آلاف المغيبين قسريا

وترى حنان الدباغ أن الوصول إلى محكمة الجنايات الفرنسية، هو بمثابة إنجاز عظيم، وإنجاز أولي على صعيد مكافحة الإفلات من العقاب، فالاختفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة والوفيات في السجون السورية؛ أمور ما تزال مستمرة، وتواصل السلطات عرقلة جهود العائلات، التي تبحث عن مصير ذويها وأقاربها المحتجزين.

وأشارت إلى أن السلطات الرسمية، ترسل إخطارات وفاة إدارية للمحتجزين، دون أية تفاصيل عن ظروف الوفاة، أو سببها، أو مكان دفنها، كما ترفض تسليم جثامين الضحايا.

وتشكو الأمم المتحدة من عجزها عن الوصول إلى مواقع الاحتجاز، والأشخاص الموقوفين داخل السجون السورية.

وترى مسؤولة الشؤون السياسية في الأمم المتحدة “روز ماري أ. ديكارلو” أن هذا الفشل جعل المنظمة الدولية تفتقر إلى إحصاءات رسمية حول عدد المعتقلين والمفقودين”.

وقالت ديكارلو في إحاطة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: في الوقت الذي تبدو فيه الأمم المتحدة غير قادرة على التحقق، تشير التقارير إلى أن أكثر من 100 ألف شخص قد تعرضوا للاعتقال أو الاختفاء على يد الحكومة السورية. وأن العديد من العائلات ليس لديها معلومات عن مصير أحبابها.

ونفت ديكارلو إمكانية وصول المراقبين الدوليين إلى مراكز الاحتجاز التي يستخدمها النظام، أو سجلات المشافي، ومواقع الدفن الخاصة بضحايا التعذيب، مشيرة إلى أن بعض العائلات دفعت مبالغ هائلة من أجل الحصول على معلومات عن أحبابها، ولكن من دون جدوى في كثير من الأحيان.

ورأت أن الأمور تتفاقم أكثر، في ضوء ارتفاع عدد الوفيات أثناء الاحتجاز، بسبب صعوبة الحصول على شهادات وفاة، أو تسليم الرفات، التي يخفي تغييبها الأسباب الحقيقية لموت الضحايا.

epa11367452 Lawyer Clemence Bectarte (C), and President of Human Rights League, Patrick Baudouin (L) talk to the press after the verdict of the case against three Syrian officials for their complicity in crimes against humanity, in Paris, France, 24 May 2024. After a trial in absentia for four days, the Assize Court in Paris declared that Ali Mamlouk, Jamil Hassan and Abdel Salam Mahmoud are guilty for complicity in crimes against humanity and the war crime of complicity in their role in the deaths of two French-Syrians 'Mazen Dabbagh and his son Patrick'. The court sentenced them to life imprisonment. EPA-EFE/Mohammed Badra
المحامية كليمنس بيكتارت، تتحدث للصحافة بعد صدور الحكم في باريس (الأوروبية)

اعتقالات تعسفية

وتشير تقديرات غير رسمية، إلى أن ما بين 250 ألف ومليون مدني، تعرضوا للاعتقال والاحتجاز من قبل القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها، منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام.

ويحتجز المعتقلون بصورة تعسفية أو غير قانونية داخل شبكة من مراكز الاحتجاز السرية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد.

ولم يتخذ بحق الغالبية العظمى منهم أي إجراء قانوني نظامي، كما لم يتم توفير تمثيل قانوني لهم أو لعائلاتهم.

واعتبر الكاتب الصحفي عمر البنية قرار المحكمة مسار عدالة لا بد منه، ووثيقة إدانة قانونية لنظام الأسد من جهة قضائية مستقلة، ودليل قاطع على تورط رموزه في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري.

وتوقع في تصريح للجزيرة نت أن يحرج القرار الأحزاب اليمينية الداعمة للنظام في أوروبا، وكذلك الشخصيات البرلمانية التي تدعو لإعادة العلاقات معه، مضيفا أن عدم امتثال النظام السوري لمطالب شعبه، يكشف عن عقلية لا تقيم وزنا لأي اعتبارات، ما تزال تمعن في انتهاج أساليب مروعة داخل السجون.

موقف النظام

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2023 قد تبنت قرارا بإنشاء مؤسسة دولية جديدة لمعرفة مصير المفقودين في سوريا، وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم، ووصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، القرار بالتاريخي.

وقال رئيس اللجنة باولو بينيرو إن هذه الخطوة طال انتظارها من قبل المجتمع الدولي، وقد جاءت أخيرا لمساعدة عائلات جميع من اختفوا قسرا، وخطفوا وعذبوا، واحتجزوا في الحبس التعسفي بمعزل عن الخارجي، على مدى السنوات الماضية.

في المقابل، رفض النظام السوري على لسان مندوبه الدائم لدى الأمم المتحدة بسام صباغ مشروع القرار، وأوضح أن “بلاده حريصة على التعامل مع هذه المسألة الإنسانية، إلا أنها ترفض نهج التسييس الذي تم السير به بشأنها”.

مناشدات للمجتمع الدولي

وفي السياق ذاته، أصدرت 26 منظمة دولية وإقليمية، في وقت سابق، بيانا ناشدت فيه المجتمع الدولي، أن يدعم مطالبها بضمان العدالة والحقيقة، والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين قسرا ضمن مراكز احتجاز سرية.

ورأت أن استمرار الحكومة السورية، بنهج الإخفاء القسري، الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية، إنما تمارسه لإسكات معارضيها، وزرع الخوف في مجتمعاتها المحلية، منذ بدء الاحتجاجات المدنية السلمية عام 2011.

وطالب البيان الحكومة، بالإفراج الفوري عن جميع المحتجزين السلميين، لحقوقهم الشرعية بحرية التعبير والتجمع، والكشف فورا عن مصير المختفيين.

كما طالب بوقف اعتقال المدنيين تعسفيا، واختطافهم واحتجازهم بسبب أنشطتهم السلمية والصحفية والإنسانية، وذلك تماشيا مع قرار مجلس الأمن رقم 2139 الذي يدعو إلى “الإفراج عن أي محتجزين بشكل تعسفي” في سوريا.

معركة من أجل الحقيقة

وفي هذا الصدد، أوضحت محامية الادعاء في القضية كليمانس بيكتارت أن مذكرات التوقيف الدولية، أظهرت كيف أن جدار الإفلات من العقاب الذي يحيط بكبار المسؤولين السوريين في أعلى المستويات، يمكن هدمه في خطوة غير مسبوقة نحو تحقيق العدالة لعائلة الدباغ ونحو الاعتراف بالفظائع المرتكبة بحق المحتجزين لدى النظام السوري.

وقالت في حوار مع مجلة “لوبس” الفرنسية إن “المحاكمة لا تتوقف عند جرائم الماضي، بل تتابع الانتهاكات التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، لأن الحكومة لا تزال في مكانها تعذب وتسجن وتقتل، كما أن اثنين من المتهمين لا يزالان جزءا من النظام السياسي السوري، وهو ما يعني أن قرار المحكمة يمكن أن يشمل رسميا نظاما يتكون من مجرمين ضد الإنسانية “على حد قولها”.

ونبهت بيكتارت إلى أن إضافة وصف الجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكمة أمر أساسي، يهدف إلى توصيف نظام القمع، وإظهار نظام الأسد كجزء من سياسة القمع المعمم ضد الشعب السوري، وأن المحاكمة معركة من أجل الحقيقة وضد القمع المنهجي المنظم من أعلى مستويات الدولة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *