فرنسا تتوجه لشرق أفريقيا بعد تقلص نفوذها في غربها

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

شهدت السنوات الأخيرة تحولا ملحوظا في السياسة الخارجية الفرنسية نحو شرق أفريقيا، وذلك بعد تراجع نفوذها التقليدي في منطقة الساحل، وهو ما يعكس استجابتها للتحديات المتزايدة في تلك المنطقة، بما في ذلك صعود حكام عسكريين جدد أعلنوا القطيعة مع المستعمر السابق منفتحين في الآن نفسه على منافسي باريس، وعلى رأسهم روسيا وتركيا.

وقد ترافق هذا التدهور لدور فرنسا في تلك المنطقة مع سعيها لتعزيز روابطها مع دول شرق أفريقيا من خلال انخراطها في العديد من الإستراتيجيات المتضمنة لجوانب سياسية واقتصادية وعسكرية، بهدف استعادة مكانتها وتعزيز وجودها في القارة الأفريقية.

وفي هذا الشأن، أشارت ورقة صادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إلى أنه حتى التسعينيات من القرن الماضي كانت منطقة غرب أفريقيا ومواردها تبدو وكأنها في متناول فرنسا، إذ كانت لا تزال قادرة بـ”500 رجل على تغيير مسار التاريخ”، حسب تعبير وزير الخارجية لويس دي غيرينغود عام 1978.

ودفع هذا الانقلاب في التوازنات التي بنتها باريس لعقود لحماية نفوذها في القارة السمراء صناع السياسة الخارجية الفرنسية إلى إعادة النظر وصياغة إستراتيجيات جديدة تحكم علاقاتهم بأفريقيا، وتعمل على تعويض خسائرها المتتالية وكبح تراجع وزنها الدولي من خلال منحها نوعا من التوازن بالالتفات إلى مناطق بعيدة عن مجالات نفوذها التقليدية (شمال وغرب أفريقيا).

تنافس جيوسياسي

ويبدو أن التوجه نحو شرق أفريقيا أصبح من ملامح التحول البارزة، إذ تتصف سواحله المطلة على المحيط الهندي -وفق المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات- بالأولوية والأهمية الإستراتيجية لباريس التي تعتبرها إحدى المناطق التي تشكل مسرحا لتوترات دولية متنامية بين بكين وواشنطن، وهو ما دفع فرنسا إلى تعزيز وجودها فيها من خلال بناء شراكات متزايدة مع دول مثل كينيا وتنزانيا.

وهكذا يتحول الشرق الأفريقي إلى نقطة تنافس جيوسياسي جديد لا تحاول فرنسا من خلال تطوير وجودها فيه مزاحمة النفوذ الصيني المتصاعد هناك فقط، بل كذلك وقف تمدد نفوذ تركيا التي تحولت إلى أحد اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، إذ يغذي هذا التنافس تحول كل من أنقرة وبكين إلى أحد الورثة الرئيسيين لنفوذ فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي.

وفي هذا السياق، يمثل القرن الأفريقي بإطلالته على البحر الأحمر والمحيط الهندي بوابة مغرية لأي قوة راغبة في لعب أدوار محورية في العديد من الملفات الحيوية التي تتجاوز أفريقيا إلى الشرق الأوسط والتجارة الدولية، مع تصاعد أهمية هذه الممرات المائية عالميا وما يلوح في الأفق من ترتيبات أمنية دولية جديدة جنوب البحر الأحمر على خلفية استهداف الحوثيين المصالح الإسرائيلية.

وفي مؤشر على تصاعد اهتمام باريس بهذه البقعة الحيوية من شرق أفريقيا برز خلال السنوات الأخيرة جهد فرنسي حثيث لتطوير علاقاتها مع دول المنطقة -وعلى رأسها إثيوبيا- والاستفادة من نفوذها التاريخي في جيبوتي.

قواعد فرنسية

تستخدم فرنسا مظلة واسعة من الأدوات في سعيها لبناء نفوذها في شرق أفريقيا، وتبرز في هذا السياق محورية الحضور العسكري الفرنسي المتمثل في احتضان جيبوتي أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج، والتي يختصرها تصريح إيمانويل ماكرون بأنه من المتعذر تنفيذ إستراتيجية بلاده في منطقة المحيطين الهادي والهندي “من دون القوات الفرنسية في جيبوتي”.

وتزايدت أهمية هذه القاعدة بعد الانسحابات العسكرية المتتالية لباريس من منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وهو ما يفسر تحولها إلى نقطة انطلاق للقيام بمهام في أفريقيا وفق تصريح ماكرون في الزيارة ذاتها، والتي سبقها في يوليو/تموز 2024 اتفاق الرئيسين الفرنسي والجيبوتي على تجديد الشراكة الدفاعية بين البلدين.

وكان لافتا تصاعد العلاقات الفرنسية الإثيوبية، إذ لم تكتفِ باريس بتأييد سعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري باعتباره “مطلبا مشروعا” بحسب تعبير ماكرون، بل تعهدت فرنسا بدعم إعادة بناء البحرية الإثيوبية، وتم انتداب ضابط تعاون فرنسي للعمل مع رئيس الأركان البحرية لهذا الغرض ضمن اتفاقية تعاون دفاعي تم توقيعها عام 2019، والتي وفرت إطارا قانونيا لتبادل إرسال قوات من كل من البلدين إلى الآخر.

جيبوتي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج (الفرنسية)

نشاط اقتصادي متزايد

يمثل الجانب الاقتصادي ركنا مهما في إستراتيجية فرنسا تجاه شرق أفريقيا، إذ أعلن ماكرون إبان زيارته أديس أبابا في ديسمبر/كانون الأول 2024 عن “دعم أجندة الإصلاح الطموح” التي أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لتحرير اقتصاد بلاده.

وإلى جانب ذلك، تعهد الرئيس الفرنسي بتقديم دعم من الوكالة الفرنسية للتنمية بمبلغ 100 مليون يورو، مبينا تشجيعه جهود إعادة هيكلة ديون إثيوبيا في أعقاب توصلها إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تمويل قيمته 3.4 مليارات دولار.

كما تعد كينيا نقطة وصول للشركات الفرنسية إلى جميع أسواق شرق أفريقيا، إذ تهتم العديد من الشركات الفرنسية بالآفاق التي تقدمها السوق الكينية في مجالات، كالاتصالات والسياحة والأغذية الزراعية والطاقة وإدارة المياه والتوسع الحضري المتزايد.

وتعد فرنسا خامس أكبر مستثمر في كينيا، إذ تضاعف وجود الشركات الفرنسية فيها تقريبا من 50 إلى 140 شركة خلال العقد الماضي، وبلغ إجمالي التجارة بين الاتحاد الأوروبي -بما في ذلك فرنسا- وكينيا 3 مليارات يورو في عام 2023، بزيادة قدرها 16% مقارنة بعام 2018.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الكيني وليام روتو (يسار) يحييان بعضهما البعض (الفرنسية)

وفي يونيو/حزيران 2021 أطلقت فرنسا وكينيا حوارا إستراتيجيا، مع اتفاقية الشراكة الاقتصادية (إي بي إيه) الهادفة إلى تعزيز القيم المشتركة والسلام والأمن والاستقرار الديمقراطي في المنطقة، كما يقدم بنك “بي بي فرانس” تمويلا استثماريا وائتمان تصدير للشركات الكينية بحد أدنى للتمويل يبلغ مليون يورو لمدة تتراوح من سنتين إلى 12 سنة، بأسعار فائدة أوروبية تتراوح بين 4 و8%.

ومن جهة أخرى، تشهد تنزانيا نشاطا اقتصاديا فرنسيا متزايدا، إذ بلغ حجم التجارة بين البلدين 111 مليون يورو في عام 2023، بزيادة قدرها 10 ملايين يورو عن عام 2020، وتنشط الشركات الفرنسية بشكل أساسي في قطاعي النقل والطاقة، وهما أولويتان تم التأكيد عليهما خلال زيارة الوزير الفرنسي المفوض أوليفييه بيشت إلى تنزانيا في عام 2023.

وإلى جانب ذلك، وقّعت تنزانيا وفرنسا في مايو/أيار 2024 إعلانا مشتركا لتوسيع شراكتهما في 5 مجالات هي: التحول في مجال الطاقة والتخفيف من تغير المناخ، والبنية التحتية للنقل، والتنمية الزراعية، والاستثمارات في الاقتصاد الأزرق، ودعم المساواة بين الجنسين.

France's President Emmanuel Macron (R) shakes hands with Tanzania's President Samia Suluhu Hassan ahead of a meeting as part of the "Summit on Clean Cooking in Africa" at the Elysee Presidential Palace in Paris on May 14, 2024. (Photo by Ludovic MARIN / AFP)
ماكرون يصافح رئيسة تنزانيا سامية صولوحو (الفرنسية)

خلق القوة الناعمة في شرق القارة

تشير أرقام نشرتها السفارة الفرنسية في دار السلام إلى التزايد الكبير لأنشطة الوكالة الفرنسية للتنمية خلال السنوات الأخيرة في تنزانيا، إذ زاد التمويل من 50 مليون يورو سنويا خلال الفترة من 2010-2016 إلى متوسط ​​160 مليون يورو سنويا بين عامي 2017 و2023، إذ تبلغ قيمة المحفظة 1.3 مليار يورو، وتتضمن مشاريع هيكلية وشراكات مختلفة.

وعام 2020 وقّعت فرنسا وكينيا سلسلة اتفاقيات تمويل بقيمة 142 مليون يورو لدعم برامج تنموية مختلفة تتضمن الاستجابة للطوارئ الصحية، وفتح المناطق الريفية، والنقل العام، والوصول إلى المياه والصرف الصحي في كينيا.

كما تعهدت الوكالة الفرنسية للتنمية بتقديم مليار يورو لبرنامج لتوفير الكهرباء لمن لا يتمتعون بها جنوب الصحراء، إذ تضمّن البرنامج تركيب شبكات صغيرة تعمل بالطاقة المتجددة توفر إمكانية وصول الكهرباء إلى 100 ألف نسمة في كينيا.

وتنشط الوكالة الفرنسية للتنمية الدولية في جيبوتي، إذ تنخرط في مشاريع مختلفة، منها ما هو مرتبط على سبيل المثال بدعم النظام الصحي، وتعزيز كفاءة الطاقة في المباني، وتطوير القطاع المالي لمكافحة عدم المساواة.

ويمثل النشاط الثقافي ملمحا آخر للسياسة الفرنسية في شرق أفريقيا، وتتجلى أوضح نماذجه في إثيوبيا، إذ تعهدت فرنسا بدعم تجديد وترويج كنائس الكهوف في لاليبيلا، وشكلت لذلك الغرض فريقا فرنسيا متعدد التخصصات بتمويل أولي قدره مليون يورو.

كما ساهمت الوكالة الفرنسية للتنمية ومؤسسة خبراء فرنسا أيضا في تجديد آخر قصور الإمبراطور هيلا سيلاسي وتحويله إلى معلم سياحي، وشارك ماكرون في افتتاحه في ديسمبر/كانون الأول 2024.

ووفقا للسفارة الفرنسية في أديس أبابا، فإن فرع “أليانس فرانسيز” -وهي منظمة تهدف إلى ترويج اللغة والثقافة الفرنسية في أنحاء العالم- بالعاصمة الإثيوبية ومدينة ديرا داوا يشكلان المركزين الرئيسيين لسياسة القوة الناعمة الفرنسية في إثيوبيا، إذ يدعمان العديد من المشاريع، ومنها مشروع “حضانة الفرنكوفونية” الذي يهدف إلى ربط المؤسسات العامة والخاصة التي تقدم تعليم اللغة الفرنسية.

ماكرون (يمين) مع آبي أحمد عند وصولهما لزيارة قصر اليوبيل المقر السابق للإمبراطور هيلا سيلاسي الذي تم تجديده (الفرنسية)

آفاق الطموح الفرنسي

يبدو نجاح المساعي الفرنسية في بناء شبكات نفوذ لها في شرق أفريقيا محكوما بالعديد من العوامل، ويأتي على رأسها قدرتها على منافسة الخصوم الإستراتيجيين الذين رسخوا أقدامهم في المنطقة كالصين وتركيا، وهو ما يعني بذل باريس المزيد من الجهود والعمل على الاستفادة من التقاطعات الدولية للحصول على دعم غربي لطموحاتها، ولإقناع قادة المنطقة بالتداعيات الخطيرة من وجهة نظر باريس للتعاطي مع قوى مثل الصين وتركيا وروسيا.

وإلى جانب ما سبق، تواجه فرنسا تحديا آخر متعلقا بقدرتها على تجاوز إرثها الاستعماري والصورة التي خلّفها في أذهان الأفارقة، مما يمهد لقبول شعبي بها كشريك يعمل على تطوير روابطه بالمنطقة ضمن “شراكات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل، ولمصلحة جميع البلدان” كما صرح وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه من العاصمة الكينية نيروبي.

كذلك، سيظل إخفاق العمليات العسكرية الفرنسية في الساحل الأفريقي شبحا يحوم فوق محاولات باريس لتقديم نفسها شريكا أمنيا موثوقا في منطقة تشهد طيفا واسعا من التهديدات الممتدة من الإرهاب إلى أمن الممرات المائية، وليس انتهاء بتصدعات داخلية تنذر بتفجير عدد من دول المنطقة من الداخل.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *