تشهد مناطق شمال غرب سوريا احتجاجات مستمرة ضد هيئة تحرير الشام، وقائدها أبو محمد الجولاني، فيما وصف بأنه أكبر تحد يواجه الهيئة في منطقة إدلب وريف حلب.
وقد انطلقت الاحتجاجات على إثر ما بات يعرف بقضية “عملاء التحالف” التي تسبّبت في أزمة داخلية وشعبية، تصاعدت حتى وصلت حدّ تهديد تماسك الهيئة واستمرار سيطرتها.
بدأت القضية في منتصف 2023 عندما أقدمت الجهات الأمنية في الهيئة على اعتقال المئات من عناصرها وقياداتها وجلّهم من الجناح العسكري، بالإضافة إلى آخرين ووجهت إليهم تهمة العمالة أو التخابر مع “التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة” أو مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد أو مع روسيا.
واستمرت عمليات التحقيق والاعتقالات لشهور، وشملت قادة بارزين مثل الأمين العام لمنطقة إدلب الملقب بـ”أبو محجن الحسكاوي”، وأحد مؤسسي الهيئة وأبرز قياداتها الملقب بـ”أبو ماريا القحطاني”، اللذين تم الإفراج عنهما بعد شهور من اعتقالهما وسط أجواء احتفالية من قبل أتباعهما.
وبينما كانت التحقيقات والاعتقالات مستمرة، تم الإفراج عن عدد من المعتقلين ممن لم تثبت عليهم تهمة التخابر، وبمجرد الإفراج عنهم اشتكى هؤلاء من واقع التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون.
إزاء ما سبق، شعر قادة الجناح العسكري بالخطر، إضافة إلى تنامي مشاعر الغضب في أوساط الهيئة، وبدأت تتعالى أصوات بعض القيادات للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين العسكريين في سجون الأمن التابعة للهيئة.
نتائج الضغوط
وأسفرت هذه الضغوط في تحقيق عدة نتائج تم تنفيذها على شكل خطوات متدرجة أبرزها:
- الإفراج عن معظم المعتقلين على دفعات، ممن تعرضوا للتعذيب ولم تثبت عليهم التهمة، وإغلاق قضية “عملاء التحالف” رسميا في 26 يناير/كانون الثاني 2024.
- اعتقال الأمنيين المسؤولين عن التحقيق في القضية.
- تشكيل لجنة قضائية لمتابعة تبعات القضية وتقدير حالة المتضررين وتعويضهم ومحاسبة مرتكبي التعديات والانتهاكات.
- وقد أكد على تنفيذ هذه الخطوات -إلى جانب خطوات أخرى- الشرعي العام (رئيس المجلس الأعلى للإفتاء) في هيئة تحرير الشام “عبد الرحيم عطون”، عبر قناته في تطبيق “تليغرام”، في الأول من مارس/آذار 2024.
صراع الأجنحة يظهر للعلن
ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فقد تسربت لوسائل التواصل الصراعات الداخلية بين أجنحة الهيئة، ونشر نشطاء وشخصيات كانت مقربة أو محسوبة على الهيئة شهادات عن قصص التعذيب والانتهاكات في معتقلات الهيئة.
وتسبب ذلك في خروج مظاهرات شعبية توسعت بشكل مضطرد إلى عشرات النقاط في مناطق سيطرة الهيئة وباقي مناطق سيطرة المعارضة.
وتضمنت المظاهرات أحيانا كلمات لوجهاء من أبناء المناطق وشخصيات محسوبة على الهيئة أو كانت تعمل ضمن صفوفها.
وقد طالب المحتجون بالإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المتورطين من مرتكبي الانتهاكات والتعدي على الآخرين، وإصلاح منظومة الحكم، بحسب عشرات المقاطع التي تبثها حسابات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المحلية.
3 فئات وخليط من الأهداف
تتنوع مشارب وتوجهات المحتجين وتتباين أهدافهم؛ بين من يركز على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإنهاء وجود الهيئة، ومن يطالب بتنحي الجولاني عن قيادتها وحلّ جهاز الأمن العام، ومن يكتفي بالمطالبة بإصلاحات في إدارة وتسيير شؤون المنطقة، ومن يتحدث عن دعاوى ومظالم شخصية ويدعو لرد الحقوق.
هذا التنوع أو التباين في سقف الخطاب والأهداف التي يرفعها المحتجون ما هو إلا انعكاس لتباين وتنوع الفئات المنخرطة في الاحتجاجات والتي تتضمن بشكل أساسي 3 فئات:
- الشباب الناشطون في الهيئات والمبادرات المدنية والإعلامية، والذين يشكون مما يسمونه تقييد الحريات وتغول المنطق الأمني والعسكري، ويمثلون الحراك المدني.
- أحزاب وجماعات تنشط في المنطقة ولديها رؤى وتوجهات منافسة للهيئة، في مقدمتها حزب التحرير الذي يُظهر فاعلية واضحة في تنظيم المظاهرات والدعوة إليها.
- العنصر الأهم والأكثر تنظيما ربما، هو المحتجون الفصائليون، وهم خليط من مجموعات وعناصر فصائلية منشقة أو في حالة خلاف مع الهيئة، وينشطون في مناطق محددة ينتمون إليها، ويتظاهرون ضد الجولاني والهيئة إلى جانب النشطاء المحليين.
نقطة تحول
مثلت المظاهرات نقطة تحول الأزمة من داخلية إلى عامة، فمنذ تأسيسها في 2017، مرت الهيئة بالعديد من المحطات والأزمات وعانت من انسحاب أطراف مهمة منها أو انقلابها عليها، في نهج أقرب ما يكون لعمليات تصفية مستمرة للصفوف في داخل الهيئة، ولكن هذه الهزات لم ترقَ إلى مستوى الأزمة الحالية التي تعتبر الأخطر كونها:
- فتحت المجال أمام التشكيك بشخص الجولاني وقيادته للهيئة واعتباره جزءا من المشكلة وليس الحل، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر، تلمس حالة التشكيك هذه في تغريدات صادرة عن مسؤولين سابقين في الهيئة، مثل المتحدث الإعلامي السابق باسمها، علي صابر (محمد العلي) الذي استقال من منصبه ونشر على الحسابات الخاصة به بيانات دعا فيها الجولاني إلى ترك دفة القيادة.
- تسببت في هز ثقة عناصر الهيئة والمجتمع المحلي بقيادة الهيئة ومفصلها الأمني، وقد برز هذا في الكلمات الملقاة في المظاهرات واللافتات المرفوعة فيها، والتي دعت لتنحية الهيئة والجولاني عن إدارة ما يسمونه المناطق المحررة.
- سلطت الضوء على حالات الاعتقال السياسي في المنطقة.
- أنتجت حالة من الاستقطاب الحاد داخل الهيئة بين قيادة المفصل الأمني وقيادة المفصل العسكري.
- انتقلت من الإطار الداخلي للهيئة إلى مظاهرات شعبية، واسعة نسبيا من حيث العدد أو نقاط التظاهر.
- ورغم أن مشاركة العناصر والمجموعات الفصائلية في الاحتجاجات كان لها أثرها في توسيع دائرة الاحتجاجات، فإنها في نفس الوقت ربما أثارت مخاوف في الأوساط الشعبية من أن يتم توظيفها في تصفية حسابات السلطة والنفوذ الفصائلية.
التوسع والوضع المعيشي
تُرجع العديد من المصادر السبب الرئيسي في تصاعد أزمة “عملاء التحالف” وتحولها إلى مظاهرات شعبية إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي في المنطقة، باعتباره عاملا أساسيا في تصاعد حدة الاستياء الشعبي.
ووفق شريحة معينة، فإن استفحال الأزمة المعيشية سببه إدارة المنطقة من قبل الهيئة “المصنفة على قوائم الإرهاب” واحتكار شخصيات محددة للموارد الاقتصادية.
بينما تعتبر مصادر أخرى أنّ السبب الفعلي للتوترات، هو محاولات الهيئة التمدد وضم مناطق ومرافق حيوية إلى سيطرتها، هي في الأصل ضمن سيطرة ما يسمى الجيش الوطني والحكومة السورية المؤقتة.
وقد شنت الهيئة خلال عامي 2022 و2023 أربع حملات عسكرية، بهدف تعزيز نفوذها في مناطق المعارضة، وسيطرت خلالها على معبر “الحمران” الحيوي، الذي يربط مناطق المعارضة بمناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية.
وعلى إثر هذا التوسع توترت علاقات الهيئة بفصائل الجيش الوطني والمجتمع المحلي في مناطق الاشتباك.
أسباب أخرى
وبالإضافة إلى ما سبق، تمكن الإشارة إلى جملة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تتداخل مع بعضها البعض وتقف خلف تعقد “أزمة العمالة” وتوسعها إلى دائرة الحراك الشعبي، أبرزها:
- تصاعد دور ونفوذ الجهاز الأمني وإقدامه على اعتقال وتعذيب قيادات عسكرية وميدانية ذات ثقل تنظيمي أو اجتماعي من داخل الهيئة وخارجها، وهو ما أقر به الجولاني في كلمته التي ألقاها في الأول من فبراير/شباط 2024 وحاول فيها شرح تطورات الأزمة من وجهة نظره.
- تجاوزات وانتهاكات عناصر وأجهزة الهيئة الأمنية والعسكرية بحق المدنيين أو التيارات والفصائل الأخرى، وهؤلاء عبروا عن مطالبهم في المظاهرات.
- خلافات مستمرة نابعة من مواجهات داخلية بين قيادات وتيارات ومجموعات سابقة وحالية في الهيئة، للتنافس على السلطة أو الموارد، وانتهت في الغالب إلى انسحاب أطراف ومجموعات معينة من الهيئة وتحولها إلى خندق المعارضين لها.
- المظالم والدعاوى المتراكمة عبر سنوات من سيطرة الهيئة، والتي وجدت في هذه الأزمة الفرصة للتعبير عن نفسها والمطالبة بالمحاسبة ورد الحقوق.
- الرغبة في التحول من هيمنة الحالة الفصائلية والعسكرية، إلى إدارة مدنية لا تتبع للحالة الفصائلية، وهذا تكرر بشكل مستمر في الدعوات والمظاهرات التي نشطت على هامش أزمة “عملاء التحالف”، ونصت عليه مبادرات وبيانات الجهات التي تفاعلت مع المظاهرات في إدلب، وكان من أبرزها بيان المجلس الإسلامي السوري الذي دعا إلى اختيار قيادة كفؤة منبثقةٍ عن الإرادة الحرّة للشعب.
التداعيات ومحاولات الاحتواء
ساهمت هذه الأزمة في تسليط الضوء على العديد من الملفات والقضايا الحساسة في المنطقة التي يحكمها الجولاني عبر الهيئة وحكومة الإنقاذ، وفي مقدمتها الملف الأمني والاقتصادي، كما أعطت الفرصة لمعارضي الهيئة للضغط عليها لإدخال تعديلات في نهجها الأمني أو الإداري.
وأفسحت الأزمة المجال لجهات وفصائل أخرى للتعبير عن رغبتها في المشاركة في القرار العسكري والحكم بالمنطقة.
ورغم تصاعد وتيرة الاحتجاجات والخطاب التجريمي الذي ساد المظاهرات والشعارات المرفوعة فيها، إلا أن الهيئة حرصت على عدم الاصطدام مع المحتجين وتجنبت بشكل واضح استخدام القوة المفرطة، وأظهرت قيادتها توجها صريحا لاحتواء الأزمة ومحاولة التجاوب مع مطالب المحتجين سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الشعبي العام.
وبدا هذا واضحا في كلمة الجولاني التي قدم فيها تصوره عن الأزمة وتطوراتها في الأول من فبراير/شباط 2024.
وحتى الآن، نجحت جهود الاحتواء التي بذلتها الهيئة في تحجيم الضرر الذي كان من الممكن أن يلحق بها، وما زالت تسعى لامتصاص غضب الشارع باتباع إجراءات حذرة تتضمن إدخال تعديلات هيكلية في “حكومة الإنقاذ” وجهاز الأمن والانفتاح أكثر على النشطاء والفاعلين والوجهاء المحليين، وتقديم الوعود بالإصلاح والمحاسبة، مع التحذير من تجاوز الخطوط الحمراء.
في هذه الأثناء، تواصل كرة الاحتجاجات التدحرج، ولا تزال احتمالات التصعيد واردة، خصوصا أن الخطوات الفعلية التي قدمتها الهيئة على الصعيد الداخلي (الأمني والعسكري) أو على الصعيد الحوكمي والاقتصادي، تعتبر محدودة بالمقارنة مع سقف مطالب الاحتجاجات التي تبدو أعلى من قدرة أو استعداد الهيئة.