غزة- “الحقونا، أسعفونا” نداءات استغاثة ممزوجة بصراخ أطفال ونساء، لم تكن إلا أصواتا مضللة صادرة عن مُسيّرات “كواد كابتر” إسرائيلية، لاستدراج سكان مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، خلال العملية العسكرية البرية التي استهدفت شمال المخيم واستمرت نحو أسبوع، مخلفة دمارا هائلا.
وخلال حربها الضارية على غزة المتصاعدة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، برزت هذه المسيرات على نحو ملحوظ ضمن أسلحة أخرى متنوعة تستخدمها قوات الاحتلال في ارتكاب ما تُجمع منظمات دولية ومحلية على وصفها بجرائم إبادة جماعية.
وطورت شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية “إلبيت سيستمز”، مُسيّرات “”كواد كابتر” كمروحية صغيرة الحجم، لأغراض التصوير والمراقبة، لكنها تحولت إلى سلاح جوي بعد تطوير شركة “سمارت شووتر” الإسرائيلية سلاحا آليا يتم تركيبه بها لإطلاق النار على الأهداف الثابتة والمتحركة.
خداع واستدراج
ورصدت فصائل المقاومة وهيئات حكومية وحقوقية كثافة استخدام الاحتلال لهذه المسيرات خلال اجتياحه للمدن والأحياء السكنية في القطاع، وتنشط بكثرة خلال ساعات الليل، لتمهيد الطريق لتوغل القوات البرية، خاصة في المناطق الضيقة والمكتظة.
“نجوتُ بأعجوبة من الكواد كابتر، واختبأت منها وسط ركام منزل مدمر في المخيم الجديد بالنصيرات، ومكثت تحت أحد أعمدة البيت بلا صوت وبالكاد أتنفس حتى تأكدت من ابتعادها، وهربت عبر شوارع ضيقة حتى وصلت لمنتصف المخيم”، يقول أحمد (24 عاما) للجزيرة نت.
سمع هذا الشاب -الذي تحفظ على كشف هويته- أصواتا كتلك التي تصدرها سيارات الإسعاف، خرج من منزله لتفقد الأمر، لكنه فوجئ بمسيرة كواد كابتر تلاحقه وتطلق النار، بيدَ أنه كان محظوظا فلم يُصب.
بعد انتهاء العملية العسكرية وانسحاب الاحتلال، عاد أحمد لتفقد منزله فوجده ركاما، ويقيم حاليا مع أسرته في خيمة بمدينة دير البلح وسط القطاع، ويقول: “استخدم الاحتلال كل الأسلحة ضدنا، ولم يتبق أمامه إلا ضربنا بقنبلة نووية”.
بدورها، عاشت أم محمد أبو جميزة وأسرتها ليلة مرعبة في أول أيام عيد الفطر المبارك داخل منزلها المتاخم لمنطقتي الزهراء والمغراقة شمال مخيم النصيرات.
وتقول للجزيرة نت “من بعد عصر ذلك اليوم وحتى الفجر قضينا ساعات مرعبة، لم تتوقف خلالها أصوات الانفجارات وإطلاق النار، وتصاحبها أصوات تطلقها المسيرات الصغيرة لأغان وصراخ أطفال ونساء”.
زحفت أم محمد وأفراد أسرتها واختبؤوا تحت سلم المنزل الذي تعرض لاحقا للتدمير الكلي، ومكثوا حتى الصباح “بالتسبيح والاستغفار والدعاء”، وغادروا من وسط القنابل الدخانية والكواد كابتر تحلق فوق رؤوسهم والانفجارات والرصاص في كل مكان.
لجأت أم محمد بأسرتها إلى منزل ابنتها في منطقة الحساينة القريبة من المخيم، وتوضح: “قضينا ليلة ثانية من الرعب، لم نستطع النوم طوال الليل، حيث التحليق المكثف للكواد كابتر حول المنزل وقد حطم رصاصها زجاج النوافذ، وكانت تصدر أصواتا غريبة لصراخ أطفال ومواء قطط وأغان مزعجة”.
وضع مرعب
من جهته، سلك المواطن تيسير إسماعيل بأسرته المكونة من 10 أفراد طريقا التفافية بين المزارع والأشجار للنجاة من مسيرات كواد كابتر التي كانت تحلق في محيط منزله، وتطلق النار بكثافة في كل الاتجاهات.
ويقول للجزيرة نت “طوال ساعات الليل نسمع أصواتا تصرخ وتطلب النجدة والإسعاف. الوضع كان مرعبا، لم أخرج من بيتي، لكن آخرين من الجيران خدعتهم الأصوات وخرجوا وباغتتهم المسيرات بإطلاق النار وقد أصيب بعضهم”.
ورصد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة توظيف جيش الاحتلال لهذه المسيرات في ممارسة الترهيب واستدراج المواطنين، عبر إطلاق أصوات ونداءات استغاثة مضللة وكاذبة.
وأفاد مدير المكتب إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت أنهم سجلوا خلال الأيام الماضية حوادث وإصابات ناجمة عن إطلاق هذه المسيرات أصوات صراخ أطفال لاستدراج المواطنين واستهدافهم.
وبحسب الثوابتة، فقد تعددت استخدامات الاحتلال لهذه المسيرات خلال الحرب الحالية، كإطلاق نداءات تحذيرية، وبيانات صوتية، والتصوير والمراقبة، وإطلاق النار، وأحدث ما قامت به هو إطلاق صرخات أطفال ونساء لخداع المواطنين واستدراجهم.
ويضيف أن الاحتلال الذي ارتكب 3 آلاف مجزرة ليس غريبا عليه ممارسة هذه الأساليب التضليلية من أجل القتل والإبادة، وفي هذا الإطار يأتي استخدامه لمسيرات كواد كابتر في مهام أمنية واستخبارية وهجومية، ومنها نوع انتحاري يتم تفجيره في الشخص أو الموقع المستهدف.
وتمهيدا لاقتحامه مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوبي القطاع، قبل نحو شهرين، استخدم الاحتلال مسيرة كواد كابتر في مخاطبة الطواقم الطبية والنازحين في المجمع وتحذيرهم ومطالبتهم بالخروج والمغادرة.
أساليب غير أخلاقية
وقال موظف فلسطيني يعمل في منظمة طبية دولية، طلب عدم ذكر اسمه، إنه كان شاهدا على تحليق مسيرة صغيرة على ارتفاع منخفض في أجواء المجمع، وبث رسائل صوتية مسجلة. فجر ذلك اليوم، استجاب هذا الموظف لأوامر إخلاء المجمع وخرج مع حشود من الموظفين والنازحين.
ويقول للجزيرة نت “رافقتنا عدة مسيرات كواد كابتر كانت تحوم فوق رؤوسنا وإلى جانبنا لبضعة كيلومترات حتى مغادرتنا نطاق خان يونس نحو مدينة رفح وسط أجواء من الرعب والإرهاب”.
ووثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أصواتا مسجلة تبثها هذه المسيرات لبكاء أطفال رضع وصرخات نساء، من أجل خداع المواطنين، الذين خرج عدد منهم بحثا عن مصدر هذه الأصوات لتقديم المساعدة، وتم استهدافهم وإصابتهم بالقنص المباشر.
ووفقا لشهادات وثقها المرصد، فإن هذا الأسلوب تضمن كذلك بث أصوات إطلاق نار واشتباكات مسلحة ودوي انفجارات وحركة آليات عسكرية، وبث أغان باللغتين العبرية والعربية، لترهيب المدنيين نفسيا والذين يعيشون في ظلام دامس ليلا، وسط صعوبة الاتصالات والتواصل مع العالم الخارجي.
وقال شاب من سكان مخيم النصيرات (20 عاما) -طلب عدم الكشف عن اسمه- لفريق الأورومتوسطي “كنا جالسين ليلا، فسمعنا أصوات فتيات ونساء يصرخن: تعالوا أسعفوني أنا مصابة، خرجنا لنرى ماذا يحدث، لم نجد أي نساء، لكن كواد كابتر أطلقت النار علينا بشكل مباشر”.
وتابع “فررتُ إلى الداخل وأصيب شخصان أمامي إصابات خطيرة في الرأس مباشرة. لم نستطع إسعافهما بسبب استمرار إطلاق النار”.
ووصف المرصد هذه الأساليب بأنها غير أخلاقية وغير إنسانية ينتهجها جيش الاحتلال ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، لإلحاق أضرار نفسية وجسدية شديدة بهم، في ظل استمرار جريمة الإبادة الجماعية.