تتصاعد الدعوات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة في ظل تواصل العدوان الإسرائيلي، وسقوط عشرات آلاف الشهداء والجرحى، واستمرار المقاومة التي تلحق خسائر معتبرة في صفوف قوات الاحتلال.
ومنذ الهدن الإنسانية التي استمرت 7 أيام التي انتهت في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لم تتوقف الوساطات التي اشتركت فيها قطر ومصر والولايات المتحدة لإنجاز هدن جديدة أو وقف إطلاق النار، وفي القلب منها عملية تبادل للأسرى بين الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كخطوة مهمة لوقف الحرب المستمرة منذ أكثر من 110 أيام.
نضوج الظروف
وقد شهدنا في الأيام الأخيرة تسارعا في جهود الوساطة مرتبطة بتصاعد الدعوات في إسرائيل، خاصة من أهالي الأسرى الإسرائيليين لإنجاز هذه الصفقة، التي أصبحت حكومة بنيامين نتنياهو تسعى لها لتهدئة الساحة الداخلية، وتخفيف حدة الانتقادات الدولية والأميركية، لكن دون التعهد بوقف الحرب، والانسحاب من قطاع غزة.
وعلى الجانب الآخر، تريد حماس هذه الصفقة أن تكون شاملة لتكون مدخلا لوقف الحرب، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة.
ولو استعدنا الذاكرة لعرفنا أن إسرائيل هي أول من عرض هدنة محدودة تستمر بضعة أيام، بحيث تطلق حماس نحو 40 من النساء والمرضى وكبار السن، مقابل وعد بالإفراج عن عدد من كبار الأسرى الفلسطينيين ممن لديهم أحكام عالية، دون أن تربط ذلك بمرحلة أخرى، يتم فيها صفقة شاملة للتبادل تكون مدخلا لوقف الحرب.
وكان نصيب هذه المبادرة الرفض من حماس، واستمرت الخسائر الإسرائيلية في الحرب، مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، لتشمل إضافة لأهالي الأسرى، مجموعة من السياسيين والعسكريين السابقين.
ويقف رئيسا الوزراء الأسبقان إيهود أولمرت وإيهود باراك في صفوف المحتجين، وقد أكدا في موقفين منفصلين أنه لا يمكن تحقيق هدفي إسقاط حماس واستعادة الأسرى معا، وأنه يجب الذهاب لصفقة الأسرى مباشرة، بعد إخفاق الحملة العسكرية الإسرائيلية في تحجيم حماس، ضمن المدة الزمنية الضيقة المتاحة للحرب، وفقا للمطالب الأميركية.
المبادرة المصرية
وأدى ذلك لبلورة مبادرة مصرية بالتشاور مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تضمنت 3 مراحل للصفقة، تتضمن المرحلة الأولى منها ما ورد في المبادرة الإسرائيلية نفسه، وتتضمن الثانية التي تستمر لأسبوع آخر الإفراج عن المجندات.
وتختتم هذه المبادرة بمرحلة ثالثة تتضمن إطلاق حماس للأسرى الإسرائيليين، مقابل إطلاق إسرائيل لعدد متفق عليه من الأسرى الفلسطينيين، مع انسحاب قوات الاحتلال خارج القطاع، يلي الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين، بضمان من مصر وقطر والولايات المتحدة، على أن تُشكّل حكومة غير فصائلية تتولى إدارة القطاع والضفة.
ورغم أن حماس لم تعلن موقفا سلبيا من المبادرة التي تلقتها خلال زيارة وفد قيادي لها لمصر أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، فإنها أعلنت بوضوح أنها تصرّ على وقف إطلاق النار قبل الدخول في مفاوضات الأسرى.
وذلك لا يعني أنها تعارض المراحل في تنفيذ الصفقة، على عكس ما قد يُفهم من هذا الموقف، فالمقصود هو أن يكون التفاوض في ظل وقف النار، وصولا للوقف الشامل والانسحاب الإسرائيلي من غزة، مقابل صفقة التبادل.
مبادرات ومواقف
ولم تتوقف الأطراف المعنية عن تقديم مبادرات اشتركت جميعها بوضع مراحل للتنفيذ، وليس مرحلة واحدة، ولكن يبدو أن الخلاف لا يدور على المراحل، بل على تفاصيل هذه المراحل، ومآلاتها وتأثيرها في مستقبل الحرب.
وقد اكتسبت المبادرات زخما كبيرا مع تلقي الاحتلال ضربات عنيفة في غزة، أحدثت المزيد من التفاعل الداخلي مع وقف النار، إضافة لاشتداد الضغوط الأميركية، والقضية التي رفعتها جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.
ولذلك شهدنا غزارة في التسريبات التي أوردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية عن المبادرات التي قُدمت ومواقف الأطراف منها، بينما اكتفت حماس باستقبال المبادرات ومناقشتها مع الوسيطين المصري والقطري، والرد عليها دون التطرق لذلك في الإعلام، وهو النهج الذي اتبعه الوسطاء بشكل عام.
ومن خلال ما سُرّب، بالإضافة للمواقف المعلنة للأطراف المختلفة، نستطيع أن نلخص المواقف كالتالي:
الموقف الإسرائيلي
لا يريد وقفا دائما لإطلاق النار في المرحلة الحالية طالما لم يحقق هدف إضعاف حماس، مدعوما بذلك من الموقف الأميركي، ولا يريد التعهد بالانسحاب الكامل من غزة، طالما أنه لم يُنهِ مهمته فيها، رغم أن الموقف الأميركي يريد منه ذلك، ولكنه يعطيه مهلة غير محددة للإنجاز. ولا يريد الالتزام بمبدأ “الكل مقابل الكل”
ولا يريد نتنياهو أن يبدو مهزوما في أي اتفاق، في الوقت نفسه الذي يبحث فيه عن مخرج من استمرار إخفاق جيشه في تحقيق إنجاز على الأرض، ولذلك نجده يصعِّد على الأرض، خاصة في خان يونس جنوب قطاع غزة، حيث يعتقد أنه يمكن أن يحقق إنجازا أو نصرا بقتل أو اعتقال قادة حماس أو جزء منهم، ليظهر بعد ذلك أنه دخل عملية التفاوض من موقع المنتصر.
كما يحرص نتنياهو دائما على القول إن الضغط العسكري هو الذي سيجبر حماس على إجراء عملية تبادل، رغم أن الهدن الإنسانية تمت في ضوء وقف إطلاق النار، حيث أخفقت القوة العسكرية بعد ذلك في إطلاق أي أسير لدى حماس.
غير أنه يواجه ضغطا متصاعدا، وانتقادات حادة لاستمراره بالحرب، الأمر الذي يعدّه كثير من الإسرائيليين بأنه ينبع من رغبته في البقاء في الحكم.
كما أنه صرّح لصحيفة هآرتس، أنه إذا وافق على إنهاء الحرب فسيوجب ذلك التوقيع على ضمانات دولية لا يمكن انتهاكها، وإذا اقترن ذلك بقوله إن “إسرائيل مستعدة لتقديم تنازلات من أجل صفقة جديدة”، فهذا يعني أنه سيقبل وقف الحرب دون تحقيق هدف القضاء على حماس، ودون وجود ضمانات يستطيع من خلالها القول إنه خرج منتصرا، ويؤكد هذا ما سبق وقاله لعائلات الأسرى “إننا إذا أوقفنا القتال، فلن نتمكن من استئنافه”.
إلا أن نتنياهو لا يزال يخضع للوزيرين المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اللذين يهددان بالانسحاب من الحكومة في حال وقف الحرب، وهو ما يدفع نتنياهو لمداراتهما حتى لا يتسببا بسقوط الحكومة، مما قد يسفر عن خضوع نتنياهو للمحاكمة بقضايا الفساد المرفوعة ضده.
موقف حماس
لا تمانع أن تبدأ الصفقة بالإفراج عن فئات مدنية، مثل: النساء وكبار السن والمرضى، وقد يصل عدد هؤلاء إلى 40، على أن يكون ذلك جزءا من تصور شامل لصفقة تنتهي بوقف النار، وترفض أن تكون هذه مجرد مرحلة يستفيد منها نتنياهو لتخفيف الضغط عليه جماهيريا، ثم يعيد استئناف الحرب.
وتشترط الحركة:
- أن تبدأ المرحلة الأولى بوقف النار، وصولا لإتمام الصفقة الكاملة.
- أن تنتهي أي صفقة بالوقف الشامل لإطلاق النار، وانسحاب قوات الاحتلال الكامل من قطاع غزة.
- وجود ضمانات تتعلق بعدم اعتداء إسرائيل على غزة، أو إعادة اعتقال المفرج عنهم من الفلسطينيين.
ولا تزال حماس تمتلك قوة عسكرية تستطيع بها إلحاق خسائر معتبرة بالاحتلال، والدليل على ذلك عملية المغازي التي قتلت بها 21 جنديا إسرائيليا دفعة واحدة، من خلال تفجير مزدوج لدبابة ومنزل مفخخ بجنود الاحتلال، حيث ستزيد مثل هذه العمليات النوعية من مفاعيل الأزمة داخل إسرائيل، من خلال تصعيد المطالبات بإنجاز صفقة شاملة مع حماس، حتى لو أدت لوقف الحرب.
وضع معقد
إلا أن حركة حماس التي تملك ورقة الأسرى، بالإضافة لفاعلية المقاومة، تواجه وضعا معقدا يستدعي مسارعتها لوقف الحرب، ويتمثل باحتمال نفاد ذخيرتها مع طول الوقت، إضافة إلى المعاناة الخانقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الحصار الخانق، فضلا عن الخسائر المدنية الثقيلة.
ويزيد من ذلك، انتهاء الرهان على ارتفاع سقف ما يُسمّى بمحور الممانعة للمشاركة الفاعلة في المعركة، وفتح جبهات للقتال خاصة في لبنان مع الكيان، بشكل قد يؤدي لتحفيف الضغط على غزة، وربما وقف الحرب في النهاية.
ولذلك فهي تبدي مرونة من ناحية، ومن ناحية أخرى تحاول الضغط على حكومة الاحتلال، من خلال استمرار توجيه حرب نفسية تحرّض فيها جمهورها للضغط على نتنياهو بالتحذير من خطر قتل الأسرى في حال استمرار العدوان الإسرائيلي، وهو بالفعل ما حصل مع بعضهم.
وفي هذا السياق قال مسؤول كبير في حماس لوكالة رويترز إن أحد العروض التي قدمتها “إسرائيل”، هو إنهاء الحرب إذا أخرجت “حماس” 6 من كبار القادة من غزة، لكنه أضاف أن “حماس” ترفض “قطعا” هذا الاقتراح.
وقال المصدر إن القائمة تضم مدبري هجمات طوفان الأقصى، وهم: رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار ورئيس الجهاز العسكري محمد الضيف، بالإضافة إلى القيادي مروان عيسى بالإضافة للقائد العسكري محمد السنوار. بالإضافة إلى اسمين آخرين من قادة الكتائب سبق أن تحدثت عنهما المصادر الإسرائيلية وهما: رافع سلامة، وعز الدين الحداد.
غير أنه من المهم الإشارة إلى أن هذا المقترح لم يُضمّن في أي من المبادرات، وإنما نُقل من خلال الوسطاء شفهيا، ورُفض كما أسلفنا.
إلى أين؟
ويبدو أنه رغم استمرار التباعد في المواقف، فإن المبعوث الأميركي للشرق الأوسط بريت مكغورك لا يزال ينشط في المنطقة، وكذلك تتحرك الوساطة القطرية والمصرية.
وقد سُرّب مقطع لنتنياهو هاجم فيه وساطة قطر، واتهمها بدعم حماس، واتهم واشنطن بأنها لا تضغط عليها، إلا أن ذلك يدخل في إطار الضغوط لإنجاز صفقة، على الرغم من التوازن الذي تتمتع به الوساطة القطرية، الذي مكّنها من ترتيب هدن إنسانية سلسة وناجحة.
وقال مسؤول مطلع على المفاوضات لرويترز إن حماس” سعت إلى هدنة تستمر أشهرا عدة، في حين أرادت إسرائيل إطلاق سراح جميع المحتجزين خلال أسابيع.
وأضاف إنه خلال الأسابيع القليلة الماضية، تمكن وسطاء أميركيون وقطريون من تقريب الجانبين من الاتفاق على عملية مدتها 30 يوما، تشمل إطلاق سراح جميع المحتجزين، ودخول المزيد من المساعدات إلى غزة، والإفراج عن سجناء فلسطينيين.
وقال مسؤول فلسطيني إن “حماس” تريد من الولايات المتحدة ومصر وقطر ضمان التنفيذ، وتشعر بالقلق من أن حكومة نتنياهو ستستأنف القتال بمجرد أن تطلق “حماس” سراح المحتجزين المدنيين، حتى لو ظل الجنود الإسرائيليون محتجزين.
وقال مصدر أميركي لرويترز -أيضا- إن حماس سعت خلال هذه الجولة إلى إطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، بما في ذلك أولئك الذين شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (صفقة الكل مقابل الكل)، وهو ما زالت إسرائيل تعارضه.
ورغم صعوبة المفاوضات، واستمرار تهديدات نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بالاستمرار بالحرب حتى تحقيق النصر، فإن حكومة الاحتلال تدرك أنها تتفاوض مع فئة مختلفة عن المنظمة، وفي ظروف مختلفة.
تجربة عرفات
وجاء في تقرير لشبكة NBC الأميركية، أن “غيرشون باسكن” الذي توسط في صفقة شاليط يقول إن “السنوار لن يكرر تجربة ياسر عرفات في 1982 ولن يقبل بإبعاده خارج قطاع غزة، وسيبقى يقاتل حتى النهاية، وقد يفضل الموت وهو لا يخاف من ذلك؛ لأنه يؤمن أن الحياة في هذا العالم قصيرة، لكن العيش في الجنة سيكون أبديا”.
كما كشفت صحيفة وول ستريت جورنال، اليوم السبت، عن تقرير سري للاستخبارات الأميركية يشير إلى أن حركة حماس لا تزال تمتلك ذخائر تكفي لضرب إسرائيل لمدة أشهر قادمة، وأن هدف تدمير الحركة لم يتحقق، رغم الحملة الجوية والبرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة
ولذلك، فإن نتنياهو يعيش حالة من الضغط قد تدفعه لتقديم تنازلات، وهذا ما يدعو له كثير من الخبراء الأمنيين، خاصة مع تصاعد عمليات المقاومة.
ويقول الخبير ناحوم برنياع إن “الاستنتاج واضح: لا توجد انتصارات مطلقة في جولات الحروب في الحلبة الفلسطينية. وما تعلمناه في حروبنا هو أن الذي يتطلّع إلى تحقيق أمور أكثر مما هو قادر على إحرازه في ميدان القتال، ستحل عليه كارثة”.
عض الأصابع
وأشار إلى أن الوضع في إسرائيل حاليا، مشابه للوضع خلال احتلال جنوب لبنان، حيث كان وجود الجيش الإسرائيلي في لبنان يحظى بتأييد شعبي واسع، لكنّ كارثة المروحيات التي تسببت بمقتل حوالي 72 جنديا باصطدام مروحيتين في فبراير/شباط 1997، قلبت الوضع رأسا على عقب.
وتابع أن تلك الحادثة أدت إلى تصاعدت الاحتجاجات، واضطر المرشحان لرئاسة الحكومة آنذاك، إيهود باراك وبنيامين نتنياهو، للتعهد بالانسحاب إلى حدود خط وقف إطلاق النار.
ويضيف أن “نتنياهو يعِدُنا يوميا بأن الحرب ستستمر حتى الانتصار المطلق على حماس. وهو لا يوضح طبيعة هذا الانتصار، وأي واقع سيُنشئ. ومهمة المستوى السياسي هي تحويل إنجاز عسكري إلى اتفاق، وإلى مستقبل بالإمكان العيش فيه. ونتنياهو أعفى نفسه من المسؤولية تجاه المستقبل”.
الخلاصة أن مفاوضات وقف النار وإطلاق الأسرى لا تزال تعمل، وكلا الطرفين بحاجة لها، وهي تتركز على تنفيذ الصفقة على مراحل وليس دفعة واحدة، ولذلك ستستمر حالة عض الأصابع، بينما ستعتمد النتيجة النهائية للصفقة على تطورات الميدان، وتداعياتها على الطرفين ميدانيا، وعلى الطرف الإسرائيلي تحديدا في الشق السياسي الشعبي.