باريس- في مقطع فيديو لا تتجاوز مدته دقيقة واحدة، كشف جندي فرنسي إسرائيلي يدعى يونيل أونونا عن جريمته في قطاع غزة أمام العالم بالصوت والصورة وكان ذلك كفيلا ليصبح دليلا موثقا تستخدمه جمعيات حقوقية وأطراف قانونية ضده.
ولأول مرة في تاريخ القضاء الفرنسي، تقدمت جمعية الفلسطينيين في فرنسا والجالية ومنظمة “عدالة وحقوق بلا حدود” وحركة “30 مارس”، بشكوى إلى المدعي العام الفرنسي في باريس، وناب عنها فريق من المحامين يتقدمهم جيل دوفير.
ووصل ملف الشكوى “ضد مجهول” إلى مكتب المدعي العام، أمس الثلاثاء، للمطالبة بالتحقيق المفصل مع الجندي مزدوج الجنسية بتهمة التعذيب باعتبارها جريمة حرب في سياق الهجوم العسكري المستمر على القطاع المحاصر.
تفاصيل الشكوى
أنشأ فريق مكون من 5 محامين ملفا كاملا حول الحادثة وشكوى مؤلفة من حوالي 15 صفحة وتم أيضا إرفاق وثيقة مكونة من 45 صفحة حول الاستخدام واسع النطاق للتعذيب من قبل الجنود الإسرائيليين، فضلا عن وقائع ومراجع من الأمم المتحدة ومقالات صحفية، وتقارير نشرتها الصحافة الإسرائيلية.
ويُفترض أن تتيح هذه الشكوى فحص الدور الدقيق الذي لعبه الجندي أونونا في الفيديو الذي انتشر في نهاية فبراير/شباط الماضي عبر منصة تليغرام.
وأوضح المحامي والخبير في القانون الدولي جيل دوفير، للجزيرة نت، أنه بموجب القانون الفرنسي “تتمتع المحاكم بالولاية القضائية على أي جريمة يرتكبها فرنسي في الخارج. مما يعني أن لدينا الأحقية في تقديم شكوى لأن المشهد المصور يثبت المعاملة اللاإنسانية والمهينة، أما بالنسبة للتعذيب فنحن لا نملك المشهد مباشرة، ولكننا نفهم ضمنيا أنه شارك فيه”.
ويُعتبر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية جرائم توجب على فرنسا الملاحقة القضائية، خاصة أنها ترتكب اليوم في سياق حرب إبادة جماعية وأن محكمة العدل الدولية لها سلطة على ذلك. ويتوقع فريق المحامين رد فعل قويا من المدعي العام.
وأضاف دوفير “نرى في هذا الفيديو رجلا فرنسيا يتحدث بطلاقة ويرى سجينا يتم إنزاله من حافلة بعد تعرضه للتعذيب والضرب وهو معصوب العينين ويداه مقيدتان خلف ظهره، حتى أنه تبول على نفسه، وإلى جانبه سجناء فلسطينيون آخرون. وكل هذه المشاهد تعادل ما نسميه بعمليات التعذيب النفسي”.
أداة ردع
من جانبه، قال المحامي وخبير القانون الدولي عبد المجيد مراري إن “فريق المحامين ركز في نص الشكوى على جريمة التعذيب لأن الشريط المصور يثبت اعتراف الجندي بأعمال التعذيب وهو يكشف عن ظهر الأسير الفلسطيني قائلا: “انظروا إلى آثار التعذيب”.
ويشير القانون الجنائي في المادة 222 في فقراتها الثلاث الأولى إلى “وجوب معاقبة كل من يرتكب جرائم تعذيب داخل فرنسا أو خارجها، مهما كانت جنسية الضحية وبغض النظر عن جنسية مرتكب الفعل”.
وبالتالي، تتم معاقبة المواطن الفرنسي على هذه الجرائم حتى وإن كانت غير مُجرَّمة في البلد الآخر، وفق اتفاقية مناهضة للتعذيب والمعاملة القاسية التي صادقت عليها باريس.
وأوضح مراري للجزيرة نت أنه “عندما تقع جريمة التعذيب في إطار صراع وهجوم واسع النطاق على غزة، فهي تدخل مباشرة في جرائم الحرب والقضاء الفرنسي له اختصاص النظر في ذلك”، مضيفا أنه “على هذا الأساس القانوني، تقدمنا بالشكوى بناء على المادة 661 والفقرتين الأولى والثانية من قانون المسطرة (الإجراءات) الجنائية”.
وبحسب المدعين، يقوم جيش الاحتلال بفرز السجناء الفلسطينيين ليُطلق سراح البعض ويُنقل الباقون إلى إسرائيل حيث “يوضعون بمعزل عن العالم الخارجي في ظروف احتجاز غير إنسانية، ثم يُحاكمون بتهم مرتبطة بالإرهاب أمام محاكم عسكرية تتجاهل جميع حقوق الدفاع”. كما تعتبرهم “مقاتلين غير شرعيين” وترفض منحهم الحماية التي توفرها اتفاقية جنيف الثالثة.
ويسلط عبد المجيد مراري الضوء على أهمية هذا الملف لأنه سيشكل “أداة ردع” لكل من يرغب في ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية في حق مواطنين أبرياء وعُزّل “خاصة أن غالبية الأسرى الذين نراهم في الفيديو كانوا أطباء من عدة مستشفيات، بما في ذلك مستشفى الشفاء”.
سابقة قضائية
ويعتبر مراري أن هذه السابقة القضائية ستؤكد استحالة إفلات الجناة من العقاب ومحاسبتهم من قبل القانون الفرنسي الذي يمنع مثل هذه الممارسات، مضيفا أنها “ستفتح الشهية لباقي الفرق القانونية للمضي قدما في القضايا المتعلقة بمزدوجي الجنسية الذين انضموا إلى صفوف جيش الاحتلال”.
ويُتوقع أن تفتح هذه الشكوى الباب أمام ملفات مماثلة يتم الاستناد فيها على مشاهد مصورة أو شهادات الضحايا “كما وقع مع المواطنين السوريين الذين تعرفوا على عدد من جلاديهم الذين قاموا بتعذيبهم بالصدفة في ألمانيا وتم رفع شكاوى ضدهم وعاقبهم القضاء الألماني بالسجن بما يزيد على 15 سنة”، وفق مراري.
في السياق، أكد المحامي جيل دوفير “سنفعل اللازم لضمان اعتقال الجندي فور وصوله إلى فرنسا. وبما أنها سابقة قضائية، فقد قدمنا شكوى بسيطة وسنظل يقظين لقرار المدعي العام الذي يمثل السلطة المختصة ويمكنه الحصول على المعلومات، لذا فإن الأمر متروك له للتصرف والتحقيق واتخاذ الإجراءات المناسبة”.
ويبدو أن الموقف الفرنسي شهد بعض التطور بشأن جدل انخراط الفرنسيين الإسرائيليين في صفوف جيش الاحتلال، والذين يبلغ عددهم حوالي 4 آلاف شخص وفقا للسلطات الإسرائيلية. ففي 14 مارس/آذار الماضي، أعلن نائب المتحدث باسم الإليزيه كريستوف لوموان “عدم التحقيق فيما سيفعله الفرنسيون الإسرائيليون في ما يتعلق بالتزاماتهم العسكرية في إسرائيل”.
ثم أدى الانتشار السريع لمقطع الجندي المصور على منصات التواصل إلى خروج لوموان مرة أخرى في 21 مارس/آذار الماضي لتأكيد أن “العدالة الفرنسية هي المختصة بالنظر في الجرائم التي يرتكبها مواطنون فرنسيون في الخارج، وفقا للمبدأ الدستوري للفصل بين السلطات”، واصفا الفيديو بـ”الصادم والمذِل”.
وتعليقا على ذلك، قال مراري إن فريق المحامين لم يكن ينتظر أي تصريح سياسي للتوجه إلى القضاء “لأن القانون الفرنسي يمنحنا الحق والأساس القانوني معقول ومتين، وكنا ننتظر الوقت المناسب والتوثيقات المناسبة لصياغة ملف قوي ومتكامل”.
ويتوفر المدعي العام في باريس على فترة تتراوح بين أسبوع واحد إلى شهرين لدراسة تفاصيل الشكوى والتأكد من أن شروط المتابعة متوفرة وأركان جريمة التعذيب موثقة قبل إحالتها إلى قاضي التحقيق الذي سيأمر بوضع اسم الجندي على قائمة المطلوبين لدى القضاء الفرنسي على شرطة الحدود للقيام باعتقاله على الفور.