خاضَت العديد من الدول حروبًا، ودفعت أثمانًا باهظة لأجل مساحات جغرافيّة لا تشكّل بالضرورة موقعًا فريدًا في الجغرافيا السياسية ولا منبعًا للثروات الطبيعية، وإنْ تمتّع بعضها بتلك المزايا فالثمن البشري والمادي الذي دُفع من أجلها شكّل أحيانًا حالة استثنائية في تاريخ الصراع بين الدول، ما منحها رمزية وطنية في ذاكرة الشعوب.
فمعركة فردان بين ألمانيا وفرنسا عام 1916 استمرّت 10 أشهر، أودت بحياة نحو 700 ألف إنسان مناصفة بين الألمان والفرنسيين الذين تصدّوا للاحتلال الألماني، ومعركة ستالينغراد بين روسيا وألمانيا بين عامي 1942 و1943، راح ضحيّتها 2 مليون إنسان، لتشكّل إحدى أهم محطات صناعة التاريخ، والتغيير في مسار الحرب العالمية الثانية.
وعلى بُعْد سنة من الزمن، تابعنا تفاصيل المعارك الشرسة في مدينة باخموت الصغيرة (عدد سكانها نحو 70 ألف نسمة) في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، بين أوكرانيا وروسيا التي احتلتها الأخيرة في مايو/ أيار 2023، بعد نزوح 90% من سكانها، وتدمير معالمها بالكامل، وسقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى بين الجانبين خلال 6 أشهر من المعارك الطاحنة.
فالصراعُ على المدينة الصغيرة والانتصارُ فيها أخذا منحًى رمزيًا في الصمود والتحدّي وإنفاذ الإرادة الوطنية بين طرفي النزاع، ومحطّة مهمّة لرفع الروح المعنوية للجيشَين المتقاتلين، بأنظمة تسليح متنافسة بين موسكو والأطلسي، على أرض محروقة لم يبقَ فيها زرع ولا مسكن ولا مصنع إلا وأتت عليه القذائف ودمّرته.
تحوّلت معركة باخموت من قيمة مادية إلى قيمة معنوية إستراتيجية لها عظيم الأثر على نفسية الجيشين المتقاتلين، وكان يُراد لها أن تكون فاتحة لما بعدها من المعارك، فبَذَل كل طرف فيها ثمنًا باهظًا على قاعدة النصر المعنوي والرمزي.
غزة والأقصى والسابع من أكتوبر: اسم وتاريخ
وعلى صلة بالتاريخ الغابر، وفي انعطافة تاريخية من الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة الدولة العثمانية، عَمِلت بريطانيا العظمى على إنشاء دولة إسرائيل المحتلة (1917-1948)، وتولّت واشنطن رعايتها ودعمها بعد أن غابت شمس الإمبراطورية البريطانية، فكانت إسرائيل، شبيهةَ الغرب في قيمه وثقافته، وامتدادًا لحركته الاستعمارية التي اجتاحت الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.
طوال 75 سنة، تباهت إسرائيل، بِقيَمها الحضارية الغربية وديمقراطيتها اليهودية، الناشئة على تهجير 70% من الشعب الفلسطيني، واحتلال أرضه، وتدمير نحو 500 مدينة وبلدة وقرية فلسطينية، وقد مُنحت إسرائيل حَصَانة غربية، واكتسبت رهبة وخشية في نفوس أعدائها، وصنعت من نفسها قلعة من الردع القاتل بالقوة العسكرية بعدما هزمت الدول العربية التي جابهتها في النكبة والنكسة، فتحولتا؛ أي النكبة والنكسة، إلى رمز من رموز الهزيمة والألم والاغتراب والقهر الوطني والقومي.
على حين غرّة، وفي ساعات الفجر الأولى، تلقّت إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضربة أمنية عسكرية نوعية، وهي نائمة على عرش قوّتها، فانهارت فرقة غزّة ذات الصيت والخبرة، على أيدي ألف من المقاتلين القسّاميين، الجناح العسكري لحركة حماس، فقُتل من جنودها وضباطها العشرات، وأُسر منهم أكثر من مائة آخرين، أُخذوا من معسكرات الجيش، ومن قلب الدبابات المحصّنة، في أقل من خمس ساعات، ما شكّل صدْمة وجودية عميقة لدى قيادة الاحتلال وجمهوره.
زادت الصدمة وتعمّقت، وما زالت تُلقي بثقلها على الاحتلال وجيشه الذي أعلن الحرب على غزة وحركة حماس، وفشل في تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية المعلنة: (القضاء على حركة حماس والمقاومة، وإطلاق سراح الأسرى بالقوة، وإعادة رسم مستقبل قطاع غزة)، طوال 5 أشهر شكّلت استنزافًا معنويًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا له بمقتل نحو 590 جنديًا وضابطًا، وإصابة نحو 3 آلاف منهم، حسب إعلان الاحتلال، ناهيك عن عشرات الآلاف من المرضى النفسيين، وهجرة نحو 800 ألف إسرائيلي خلال العدوان على غزة الذي ما زال مستمرًا بلا سقف زمني.
معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تحوّلت بشكل سريع إلى جرس إنذار وجودي للاحتلال، ومبعث تفاؤل وأمل عند الفلسطينيين والشعوب العربية المُثقلة بالقهر، فلأوّل مرّة يشاهد المواطن العربي معركة انتصار كالخيال، من شبابيك الهزيمة المتّشحة بسواد العجز العربي.
تلك المعركة وما تبعها من صمود أسطوري للشعب الفلسطيني، ومقاومته التي ما زالت تستنزف الاحتلال وتتصدى له بقوّة في كافة مدن وقرى قطاع غزة – رغم آثار الحصار المستمر منذ 17 سنة، والتجويع والتعطيش، والدمار الذي طال نحو 80% من قطاع غزة، واستشهاد وجرح نحو 100 ألف فلسطيني خلال الخمسة أشهر الأخيرة من المعارك والعدوان على غزة (5% من السكان بين شهيد وجريح)، ونزوح معظم سكان قطاع غزة الذين فقدوا بيوتهم – صنعت من هذه العجينة العجيبة من البشر، وفي أعين الكثير من الشعوب، رمزًا للصمود والتحدّي؛ رمزًا لقدرة الإنسان وتغلّبه على المادة المتوحّشة، رمزًا للإرادة التي تنتصر على القوة العسكرية الطاغية، رمزًا للحرية ومقاومة الظلم والاستبداد، رمزًا للإيمان والتمسّك بالحقوق والقيم الإنسانية.
فتحوّلت الكوفية الفلسطينية في العالم، وفي واشنطن والعواصم الغربيّة، إلى رمز للحرية والنّضال الثوري، وأصبح اسم فلسطين والحرية لفلسطين قاسمًا إنسانيًا مشتركًا عابرًا للحدود، وأصبح المثلّث الأحمر المقلوب رمزًا لضرب الظلم واستهداف الاحتلال وآلته العسكرية القاهرة.
غزّة باسمها العظيم وجغرافيّتها الصغيرة وإمكاناتها المتواضعة، صنعت لنفسها موضعًا مرموقًا في تاريخ المقاومة للظلم والاحتلال والاستبداد، كما صنعت من الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول، رقمًا فارقًا في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، بنكهة الانتصار، فتحوّلت غزة والأقصى والسابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى أنموذج إنساني مقاوم، وإلى أيقونة، وإلى رمز من رموز الحرية.
غزّة والعقل العربي الباحث عن الحريّة
شفافية القضية الفلسطينية، ووضوح الحق فيها إلى جانب الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال والذي انحازت له ولحقوقه السياسية والإنسانية قرابة الـ 900 قرار دولي، وانكشاف الاحتلال الإسرائيلي بأهدافه الاستعمارية الرامية للسيطرة على كل فلسطين التاريخية، وإلى تهجير من تبقى من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وانتهاجه سياسة الأرض المحروقة في قطاع غزة، والإسراف في القتل والتدمير وسياسة العقاب الجماعي، وانتهاكه للقيم الإنسانية، وارتكابه جرائمَ حرب ضد الإنسانية إلى حد النّظَر في ارتكابه إبادةَ جماعية أمام محكمة العدل الدولية؛ وَضَع كل ذلك العالمَ أمام استحقاقات إنسانية وسياسية خطيرة.
فالمنظومة الغربية- وخاصة واشنطن، التي تتحكّم بالسياسة الدولية، وتدّعي حمايتها للقانون الدولي وقيم حقوق الإنسان- أصبحت أمام امتحان عسير وسقوط أخلاقي مدوٍ في ظل معاييرها المزدوجة، وانحيازها للاحتلال، رغم حجم الكارثة التي صنعها ويصنعها في الشعب الفلسطيني أمام أعين الكاميرات، وعبر الشاشات، وشبكة الإنترنت التي يتابعها مليارات البشر على مدار الساعة، ما يُؤْذن بسقوط شرعية المنظومة الدولية العاجزة عن وقف المجزرة والإبادة الجماعية التي ترتكب بأسلحة أميركية غربية، ويعدّ مقدّمة لتفكّك الهياكل الدولية القائمة بعد أن فشلت في حماية الإنسان والإنسانية أمام تغوّل الظلم والاستبداد.
في ذات السياق، تقف المنظومة العربية الرسمية، أمام استحقاق سياسي وطني وقومي، وديني وأخلاقي بحكم منطق الأمّة العربية التي لا تفرّق بينها إلا حدود سايكس بيكو، وأنظمة مُغتصِبة للسلطة برعاية أميركية.
فواشنطن الساعية لاستمرار هيمنتها وسيطرتها على المنطقة وجغرافيتها السياسية الفريدة – التي تتمتع بها بدءًا من البحر الأبيض المتوسّط، والبحر الأحمر، وبحر العرب، والخليج العربي، وانتهاءً بقناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، وما تمتلكه المنطقة العربية من طاقات هائلة من النفط والغاز – نَشَرت أكثر من 60 قاعدة عسكرية في المنطقة العربية، وعملت على تأمين إسرائيل الحليف الموثوق للمنظومة الغربية ككيان متفوّق اقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، وقامت بحماية أنظمة عربية متحالفة معها بصفتها راعية لها وداعمة لاستمرارها في الحكم، بمنحها الشرعية الدولية؛ تعويضًا عن شرعية شعوبها المحليّة المنقوصة.
في هذا السياق؛ غزّة والسابع من أكتوبر/تشرين الأول ومعركة “طوفان الأقصى”، وما شكّلته من رمزية مُلهمة للشعوب في نيل الحرية ومقاومة الظلم والاستبداد، تحوّلت إلى تحدٍ كبير لسياسات المثلّث المكوّن أضلاعه من الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل المحتلة، وأنظمة عربية صديقة لهما، لا سيّما مع استمرار صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على مواجهة أعتى قوّة عسكرية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، واستنزافها في فارقة تاريخية، رغم الخلل الواضح في القوة العسكرية والمادية الهائلة لصالح إسرائيل، مقارنة بالإمكانات الضعيفة للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
صمود غزة في مواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي المتوحّش في العام 2008-2009، مثّل موجة من النضال الذي أعقبه انبعاث ثورات وحراكات جماهيرية غاضبة انطلقت في العام 2011، بعد أن احتجّ بوعزيزي المواطن البسيط على الظلم والاستبداد وأشعل بجسده نار الثورة في تونس، فحاكتها مصر، وامتدت إلى العديد من الدول العربية.
بعد 12 سنة من انتكاسة ما يُسمّى بثورات الربيع العربي، وعلو شأن أنظمة الدولة العميقة، أتت غزّة لتعيد نبض الحياة الثورية في عروق الشعوب العربية، بمبادرتها في الهجوم على أعتى قوة عسكرية أمنية احتلالية، وإنزالها الهزيمة بها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وصمودها الأسطوري في مواجهة احتلال فاشيّ طوال خمسة أشهر مضت لم يُبْقِ الاحتلال فيها شكلًا من أشكال الجريمة والقتل للمدنيين والأطفال إلا واستخدمها للنيل من عزيمة الشعب الفلسطيني، وصمود مقاومته التي لم يُفلح – هي الأخرى – في هزيمتها أو القضاء عليها.
الاحتلال الذي يحظى بدعم غربي ويتكئ على صمت الرسمية العربية وعجزها وخذلانها الفلسطينيين، حرّكت جرائمه وبشاعة مجازره شعوب العالم من اليابان إلى كندا، ودفعت الطيار الأميركي آرون بوشنل إلى إشعال النار في جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن؛ احتجاجًا على المجازر ورفضًا للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل المحتلة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بدعم مباشر ومفتوح من إدارة الرئيس بايدن، واعتراضًا منه على قتل الإنسان ظلمًا بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه، ما يعيد الذاكرة إلى حادثة بوعزيزي التونسي الذي أشعل بجسده نار الثورة قبل عقد من الزمن اعتراضًا على الظلم والاستبداد، في مقاربة جمعت بين رفض الاحتلال ورفض الاستبداد.
تتقدّم الرمزيات والنماذج لتكون وقودًا ملهمًا للشعوب وحراكها؛ طلبًا لإنسانية الإنسان وحريّته وكرامته.
وإذا كانت الأنظمة المستبدّة والاحتلال يتقاربون في سياساتهم لتقويض تلك الرمزيات ولإفشال تلك النماذج، لئلّا تكون تجارب ناجحة تُحاكيها الشعوب في مواجهتها الظلم والاستبداد، فإن غزّة والأقصى والسابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من صمود أسطوري في مواجهة الاحتلال، تجاوزت برمزيتها حدود الاغتيال المعنوي في العقل العربي، لأنها أصبحت فكرة ناضجة المعالم، معبّرة عن مكنونات النفس العربية التوّاقة إلى الحرية بطعم النصر المفقود.
فالشعوب لن تخطئ في قراءتها لما يجري في فلسطين كشكل من أشكال الثورة والتمرّد الناجح على الاحتلال والظلم والاستبداد، رغم حجم الضريبة الباهظة والكارثة الإنسانية اللتين صنعهما ويصنعهما الاحتلال منذ نشأته.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.