رفح- لا صوت يعلو في رفح على الحديث عن الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لأصغر مدن قطاع غزة وآخرها جنوبا على الحدود مع مصر، وتؤوي زهاء 1.4 مليون نسمة من سكانها والنازحين فيها، ويمثلون أكثر من نصف التعداد الكلي للغزيين.
“ما آخر الأخبار؟” يبادر الصديق صديقه والجار جاره بهذا السؤال، والكل يبحث عما يطمئن قلبه في ظل تهديدات إسرائيلية متنامية باقتراب شن هجوم عسكري واسع على المدينة واجتياحها بريا، وسط مخاوف من تكرار ما حدث في مدن أخرى اجتاحتها قوات الاحتلال، وعاثت فيها فسادا بالقتل والتدمير.
ولا تتوقف أحاديث الناس في المدينة عند تناقل تطورات الأحداث والأخبار، ويستحضرون تجارب المدن الأخرى التي اجتاحتها قوات الاحتلال وآخرها مدينة خان يونس المجاورة لهم، ويستعدون لكل الاحتمالات، من بينها النزوح الكبير عن المدينة.
أحاديث الاجتياح
منذ أيام، يواظب أبو أحمد عدوان وجيرانه في مخيم الشابورة بمدينة رفح على جلسات نقاش حادة حول ما ينتظر المدينة، تتعالى فيها الأصوات وتتناقض الآراء. ويرجح هذا الخمسيني، وهو موظف أمني متقاعد، أن الاحتلال سينفذ عملية عسكرية خاصة برفح، لا تشبه عمليات الاجتياح البري الواسعة مثلما حدث في مدينة غزة وشمال القطاع، وأخيرا في مدينة خان يونس.
ويعتقد عدوان أن العملية العسكرية المحتملة ضد رفح ستتركز على معبر رفح البري والحدود مع مصر المعروفة باسم “محور فيلادلفيا”، وبسيطرة إسرائيل على المعبر والمحور تحكم حصارها، وهو بمثابة “إعادة احتلال” للقطاع الذي انسحبت منه بشكل أحادي الجانب عام 2005.
“ولكن ليس معنى ذلك ألا نستعد للأسوأ” يقول عدوان للجزيرة نت، وقد بحث مع أشقائه في خيار النزوح عن منزل العائلة الذي يؤوي أسرهم المكونة من 29 فردا، جلهم نساء وأطفال، في حال الاجتياح البري الواسع لمدينة رفح.
ووفر أحد أشقائه خيمتين جاهزتين، وشادرا من البلاستيك لإقامة خيمة ثالثة، استعدادا لإنذارات إسرائيلية لسكان المدينة بإجلاء منازلهم ومربعاتهم السكنية.
في ناحية أخرى بالمدينة، يميل أبو موسى (71 عاما) إلى أن الاحتلال سيجتاح رفح ويفعل ما فعل في مدن أخرى من جرائم قتل وتدمير، إلا أنه يتمسك بالبقاء في منزله، ويرفض النزوح، ويتساءل في حديثه للجزيرة نت “وين بدي أروح؟ هو في مكان آمن بغزة كلها؟”.
ويقول “وكلت أمري لربنا، وأخذت بالأسباب وخزنت كميات من مياه الشرب والدقيق، والمعلبات والبقوليات، وأسطوانة غاز طهي”.
ولأبو موسى 5 أبناء يقيمون مع أسرهم في شقق سكنية منفصلة بذات البناية، ترك لهم الحرية باختيار ما يناسبهم، لكنه يؤكد “لم يتبق بعمري أكثر مما مضى، ولن أغادر بيتي وأتشرد مع زوجتي المريضة بالخيام”.
خيام المواصي
لم ينتظر نازحون في مدينة رفح ساعة الصفر، واتخذوا قرارهم وحزموا أمتعتهم وخيامهم نحو منطقة المواصي على شاطئ البحر، في حين عاد بعضهم إلى مناطقهم في مدينة خان يونس ووسط القطاع، خشية ما وصفوه بـ”الاجتياح المفاجئ”.
وتنتشر معسكرات من الخيام في منطقة المواصي، التي تمثل مساحتها 3% من مساحة القطاع (365 كيلومترا مربعا)، وتمتد بطول 12 كيلومترا وعرض نحو كيلومتر واحد، على امتداد شاطئ البحر من مدينة دير البلح في وسط القطاع وحتى مدينة رفح جنوبا، مرورا بمواصي خان يونس.
وبعناء شديد نجح ياسر عوض في حجز خيمة داخل أحد المعسكرات، في المنطقة الواقعة بين مدينتي رفح وخان يونس، ويمدها يوميا بالاحتياجات الأساسية تحسبا لأي طارئ.
ولا يريد ياسر (36 عاما) ويعيل أسرة مكونة من 5 أفراد أن تتكرر تجربة نزوحه الأولى، عندما اضطر لمغادرة مدينة خان يونس نحو رفح، وقضى بأسرته ليلة في الشارع، بعدما عجز عن توفير خيمة أو مكان داخل مركز إيواء في إحدى المدارس.
نزح ياسر بأسرته لأول مرة من منزله في بلدة عبسان الكبيرة شرقي مدينة خان يونس نحو غربها في الأيام الأولى للحرب، وتعرض منزله لتدمير كبير إثر غارة جوية إسرائيلية استهدفت مسجدا مجاورا.
ويقول للجزيرة نت “اعتدنا على النزوح المتكرر، وأقيم حاليا في خيمة بحي السلام المجاور للحدود المصرية في رفح، وأتوقع النزوح في أي لحظة مع ازدياد تهديدات الاحتلال باجتياح المدينة”.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من مدينة خان يونس، نجح ياسر بالوصول إلى منزله وانتشال أغطية ومستلزمات منزلية، ونقلها إلى خيمة في منطقة المواصي، يجهزها للانتقال بأسرته إليها في حال اجتياح رفح.
حقائب للنزوح
وجهّزت سحر النحال حقائب صغيرة وكبيرة، ووضعت بها ملابس صيفية وأغذية معلبة واحتياجات أساسية لأسرتها المكونة من (8 أفراد). وتقول هذه المرأة التي استقبلت في أسابيع الحرب الأولى في منزلها غرب مدينة رفح نازحين من شمال القطاع “نتعلم من تجارب النازحين الذين سبقونا، غادروا منازلهم دون أمتعة، واعتقدوا أن الحرب لن تطول، وتعرضوا لأزمات حادة مع شح الأسواق من الملابس والأحذية والكثير من السلع، وغالبية منازلهم تعرضت للسرقة من اللصوص والاحتلال”.
ولم يسبق لسحر أن سافرت خارج القطاع من قبل، وتقول للجزيرة نت “هذه الحقائب يستخدمها الناس في العالم للسفر والرحلات، ونحن في غزة نعدها للنزوح والتشرد”.
ولا تعلم سحر أين ستذهب مع زوجها وأسرتها إذا اجتاح الاحتلال رفح، وقد اتفقا على مرافقة الجيران وسكان المدينة إلى حيث ينزحون، وتقول “لن يقع في ملك الله إلا ما يقدره الله”.
وفي حين وجدت أم فادي أبو مصطفى منزلها سليما في منطقة “جورة اللوت” جنوب شرقي خان يونس، وعادت إليه مع أبنائها بعد نحو 4 أشهر من النزوح لدى أقاربها في رفح، وجد محمد الخطيب منزل شقيقته مدمرا بشكل كبير في المنطقة ذاتها ولا يصلح للسكن.
وكان زوج أم فادي قد استشهد قبل نزوحها عن منزلها جراء صاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية على أرض لهم، وتقول للجزيرة نت “عدنا نحمل الحزن فوق رؤوسنا وأكتافنا، نصارع الذكريات، وربنا يحفظ رفح وأهلها مما ينتظرهم”.
أما محمد الخطيب، فقد نزح أول مرة بأسرته من مدينة غزة إلى منطقة “جورة اللوت”، واستقر في منزل تملكه شقيقته التي تقيم خارج القطاع منذ سنوات.
ومع اجتياح مدينة خان يونس اضطر إلى النزوح مرة ثانية إلى منزل صديق له في حي تل السلطان غربي رفح، وقد عاد إليه مجددا بعدما وجد منزل شقيقته مدمرا لا يصلح للسكن. وقال للجزيرة نت “سنبقى هنا، وليسري علينا ما يسري على أهل رفح”.