تظهر الخلافات المتواصلة في مجلس الحرب الإسرائيلي بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من جهة ووزير الدفاع يوآف غالانت والوزير بيني غانتس من جهة أخرى أن نتنياهو يسعى لحكم غزة عسكريا، وهو يرفض بإصرار التعامل مع ما يسمى اليوم التالي في غزة، كما أعلن رفضه للاقتراح الأميركي بتمكين سلطة فلسطينية “متجددة” لقطاع غزة بعد انتهاء الحرب.
فما هو المصير المحتمل لهذه المخطط الذي ارتبط بشعار النصر الكامل لنتنياهو، في ضوء افتقاده لإجماع حكومة الاحتلال، وتعارضه مع التوجهات الأميركية في الحرب، خصوصا مع استمرار إخفاق إسرائيل في تحقيق أهداف العملية العسكرية بغزة، وفقدانها للغطاء الدولي لاستمرار الحرب.
اليوم التالي أم حكم عسكري؟
ترافقت فكرة اليوم التالي مع بدايات الحرب على غزة، وارتبط ذلك بالإعلان عن هدفي القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) واستعادة الأسرى الإسرائيليين في غزة.
وتعود جذور ذلك إلى مواقف الحكومات الإسرائيلية المتكررة منذ العام 2007 إثر الانقسام الفلسطيني، حيث استغلت إسرائيل ذلك للحديث عن عدم وجود شريك فلسطيني للتغطية على إصرارها على رفض أي حل سياسي حقيقي.
ولم تسمح شدة الصدمة بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، والشعور الوطني بالوحدة لأعضاء الحكومة بإبداء اختلافاتهم حول هذا الموضوع أو غيره، ولكن الخلافات صعدت إلى السطح مع تنفيذ عملية تبادل للأسرى بين المقاومة وإسرائيل الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، والتي أظهرت أن الأولوية لتحرير الأسرى.
غير أن العامل الأهم الذي صعد الخلافات هو استمرار فشل الاحتلال في تحقيق هدف القضاء على حماس، والفشل في تحرير أي أسير بالقوة، كما تسببت المجازر التي راح ضحيتها الأطفال والنساء في موجة ردود فعل عالمية مناهضة لإسرائيل، مما أفقدها مصداقيتها عالميا، كما أثرت سلبا على المكانة الانتخابية لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وعلى التحالف المؤيد للحرب الذي شكلته هذه الإدارة.
ومع قرار نتنياهو مهاجمة رفح، وما رافقها أيضا من مقاومة شديدة تعرضت لها قوات الاحتلال العائدة إلى جباليا شمال غزة، انفجرت خلافات الحكومة الإسرائيلية بإعلان غالانت أنه سيعارض أي حكم عسكري للقطاع.
وتعتبر تصريحات غالانت -ومن بعده غانتس الذي هدد بالانسحاب من الحكومة ما لم يحدد نتنياهو إستراتيجية واضحة للحرب وما بعدها- بمثابة اتهام واضح وصريح لنتنياهو بأنه يسعى لحكم غزة عسكريا، وهذا يعني استمرار بقاء قوات الاحتلال في القطاع لأشهر وربما سنوات.
مبررات غالانت وغانتس في رفض ذلك واضحة، وتتعلق بالثمن الذي ستدفعه إسرائيل مقابل ذلك، مع الفشل الذي تواجهه قوات الاحتلال في تحقيق النصر الكامل، حيث أكدا أن استمرار الحكم العسكري لغزة سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما، وأن الجيش سيحتاج في هذه الحالة لقوات هائلة، وسيتكبد خسائر بشرية فادحة تضطره لمغادرة غزة بلا رجعة.
وقد كشفت صحيفة يديعوت الإسرائيلية بعد ذلك أن هذا الحكم سيكلف نحو 6 مليارات دولار، وهي كلفة لا تطيقها إسرائيل في ظل التكاليف العالية التي تحملها نتيجة الحرب، وأثرت سلبا على الاقتصاد.
والملاحظ أن معارضي نتنياهو صعّدوا موقفهم ضده في ظل تعاظم خسائر الجيش بغزة، بينما هو يصر على رفض تقديم خطة لليوم التالي، لأنه لا يمتلك أصلا هذه الخطة، ويريد استمرار المناورة سياسيا لكي يستمر بالحرب حتى يحتفظ بالحكومة ويمنع تعرضه للمساءلة القضائية بالفساد وبالفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ونشير هنا إلى ما قاله المحلل السياسي بالقناة 12 عَميت سيغال، عن الطريقة التي يفكر فيها نتنياهو بقوله إنه “باستكمال مرحلة العمليات العسكرية كمرحلة أولى، حيث ستتم إقامة حكم عسكري لفترة تمتد ما بين أشهر وسنوات معدودة وبعدها، عندما تتحول حماس من جيش إرهاب إلى منظمة عصابات ومن منظمة عصابات إلى مجموعة خلايا معدودة، تدخل جهات عربية مدنية إلى القطاع كمرحلة ثانية”.
حماس لن تختفي
غير أنه من المهم الإشارة إلى التحفيز الذي قامت به واشنطن لموضوع اليوم التالي للحرب، حيث تخوض إدارة بايدن الحرب على غزة إلى جانب مع إسرائيل، ولا تزال تؤكد أهمية هزيمة حماس، لأنها اعتبرت أن تنفيذ هجوم طوفان الأقصى ضربة للإستراتيجية الأميركية القائمة على تنصيب إسرائيل وكيلا لها بالمنطقة “بما يحقق الاستقرار والهدوء، وإنهاء القضية واستكمال عملية التطبيع التي بدأها الرئيس السابق دونالد ترامب”.
وتعتبر واشنطن أن استمرار تمتع حماس بقوة عسكرية يشكل حجر عثرة أمام استكمال مشروع تسليم المنطقة لإسرائيل، لكي تتفرغ للصين وروسيا، ولكن مع استمرار المعركة في غزة برزت الخلافات مع الحكومة الإسرائيلية على قضايا: استهداف المدنيين، تصور ما بعد الحرب، رفض نتنياهو أي دور للسلطة، رفض الدولة الفلسطينية، الإصرار على اجتياح رفح بدون ترتيب ملجأ آمن للنازحين إليها.
غير أن الخلاف المستحق الآن هو تصور ما بعد الحرب، والمتعلق بالدور المستقبلي للسلطة الفلسطينية المتجددة، وهذا ما تتفق به الإدارة الأميركية مع معارضي نتنياهو بما يكسبها دفعا للضغط عليه.
وفي ضوء تقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية والتي اتفقت فيها مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإن قوات الاحتلال فشلت في تحقيق هدف القضاء على حماس، وأن “حماس لن تختفي على الأرجح من القطاع” وأن المطلوب هو إضعاف حماس لدرجة لا تكون فيها قادرة على شن هجوم آخر.
وحسبما تحدث مسؤول أميركي لصحيفة معاريف، فقد “تعلّم الأميركيون بالطريقة الصعبة من خلال وقوعهم في الوحل الفيتنامي والأفغاني والعراقي، أنه في غياب التحرك الدبلوماسي فإن المعارك تميل إلى التحوّل إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تكلّف خسائر فادحة”.
ولذلك لم تعد الإدارة الأميركية ترى فائدة من استمرار الحرب بالوتيرة الحالية، وتضغط على نتنياهو بالقبول بصفقة معقولة لتبادل الأسرى، والتي ستقود لهدوء مستدام، يهيئ الأجواء لترتيبات إقليمية، وقبول إشراك السلطة الفلسطينية في ترتيبات ما بعد الحرب كثمن يقدم للسعودية كي تقبل بعملية تطبيع تخدم بايدن في معركته على الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
وترى واشنطن أنه لا توجد دولة عربية تشارك في أي تصور يقوم على الحكم العسكري الذي يريده نتنياهو، وأنها لن تقبل أن تتحول إلى مقاول لدى إسرائيل وإدارة غزة وإعمارها، بينما تحتفظ إسرائيل لنفسها بحرية تنفيذ هجمات وعمليات عسكرية.
وبالفعل فقد رفضت مصر والإمارات والأردن مثل هذا الدور، وإن كانت صدرت إشارة مقلقة من القمة العربية في البحرين بالمطالبة بوجود قوات حماية حفظ السلام بالأرض الفلسطينية المحتلة.
خلاف على جلد الدب قبل صيده
ويبدو تصعيد غانتس الأخير مع نتنياهو وتهديده بالانسحاب من الحكومة قد جاء بعد تشاور مع الإدارة الأميركية التي دعمته وأدخلته حكومة الطوارئ الإسرائيلية، وهذا سيضع نتنياهو بين فكي كماشة، ما بين التزامه بتحالفه مع الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش والإصرار على استمرار الحرب ورفض صفقة التبادل، وبين ائتلاف مشكل من غالانت وغانتس وغادي آيزنكوت.
ومع مراوحة واسعة من الخلافات، فإذا لم يتم التوصل لتفاهمات بين هذه الأطراف، فإن احتمالات تفكك حكومة الطوارئ ستتزايد، خصوصا مع تصاعد احتجاجات أهالي الأسرى.
وصحيح أن خروج غانتس من الحكومة لن يؤدي إلى سقوطها، خصوصا أن نتنياهو سيستمر بالاحتفاظ بأغلبية 64 صوتا في الكنيست، ولكن مجرد استقالة غانتس وآيزنكوت سيؤدي إلى تفاعلات في الحكومة والشارع قد تسفر عن استقالات من الائتلاف الحاكم يؤدي إلى فقدانه الأغلبية.
ومن المؤكد إن إدارة بايدن تملك أوراق ضغط على حكومة نتنياهو بالإضافة لتأثيرها على المعارضة، فهي تستطيع تأجيل المزيد من شحنات الأسلحة، التي ستؤثر على قرار توسيع اجتياح رفح، ولكن القيود الموجودة على بايدن في الكونغرس قد تمنع واشنطن من اتخاذ إجراءات عقابية كهذه.
وبالتالي سيكون الضغط الأهم الفاعل على نتنياهو داخليا، مما قد يدفعه إلى إحداث تغييرات في مواقفه ومحاولة استرضاء شركائه اليمينيين بشكل أو بآخر، وإن كان لا يزال يحتاج لعنصر البقاء في الحكومة وتجنب تعرضه للمساءلة إن غادرها.
وسيكون لاستمرار ارتكاب جيش الاحتلال مجازر بحق المدنيين مفاعيل سلبية على الساحة الدولية، وقد ظهر بعضها مع طلب المحكمة الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت، أو مطالب وقف الحرب من محكمة العدل الدولية، وهذا سيضعف أكثر موقف نتنياهو، وقد يدفعه للتساوق مع مطالب معارضيه.
غير أن المعضلة التي تواجه جميع هذه الأطراف هي أن خطة اليوم التالي تستند إلى إضعاف حركة حماس، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، بل إن المقاومة في الشمال أبدت فعالية تكافئ فعاليتها الأيام الأولى للحرب، وتستمر في إيقاع خسائر بصفوف الاحتلال، كما أنها أفشلت حتى الآن محاولات إدماج العشائر، أو بعض أطراف السلطة الفلسطينية في التحكم بتوزيع المساعدات للشعب الفلسطيني.
ويدل ذلك على استمرار فاعلية منظومة السيطرة والقيادة لديها، فضلا عما يبديه مقاتلو المقاومة عموما من معنويات عالية وتصميم على القتال تكشف ما يتم نشره من فيديوهات للمواجهات مع قوات الاحتلال.
ويتحدث الإسرائيليون أنفسهم عن قوة الحركة ليس على الصعيد العسكري فقط، ولكن أيضا على الصعيد المدني، الأمر الذي يجعل الخلاف على اليوم التالي خلافا على جلد الدب قبل صيده.
ونختم هنا بما قاله عضو الكنيست رام بن باراك الذي شغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات (الموساد) الفترة من 2009 إلى 2011، ورئيس لجنة الأمن والخارجية بالكنيست بين عامي 2021- 2022، وملخصه “حربنا في غزة بلا هدف، ومن الواضح أننا نخسرها، نعود إلى القتال في المناطق نفسها ونخسر مزيدًا من الجنود، واقتصادنا ينهار، نخسر على الساحة الدولية، وعلاقاتنا مع واشنطن تنهار ولا نحقق أي نجاح”.