في عام 1985 وقف مندوب إسرائيل بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة قائلا “لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 عام تفجّرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين”.
تُلخّص هذه المقولة من نتنياهو حقيقة العلاقات الصهيونية المسيحية اليهودية؛ فالصهيونية لم تكن قط حركة يهودية فقط، بل كان مبدؤها وداعمها الأكبر المؤمنين بها من المسيحيين الإنجيليين لأهداف دينية متعلقة بتسريع عودة المسيح عليه السلام عند اشتعال معركة “هيرمجدون”، التي لن تحصل إلا بوجود اليهود في فلسطين.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أسباب اقتصادية تدفع دول أوروبا الغربية إلى منع تمركز يهود شرقي أوروبا القادمين من روسيا ورومانيا في غربها ولا سيما في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة فيما بعد.
الصهيونية المسيحية اليهودية
ومن اللافت أن المادة 401 من قانون أميركي صدر عام 1940 تنصّ على أن أي مواطن يصوّت في انتخابات سياسية في دولة أجنبية يفقد جنسيته الأميركية على الفور، إلا أنه في عام 1967 استُثني من هذا القانون يهود الولايات المتحدة، وصدر هذا القرار عن مجلس القضاء الأعلى بأغلبية صوت واحد فقط، كان صوت العضو اليهودي في المجلس بايس أفرديم.
وكما يقول محمد السماك في كتابه “الصهيونية المسيحية” إنه كما يتمتع يهود الولايات المتحدة بهذا الاستثناء من دون سائر المواطنين الأميركيين، فإن إسرائيل أيضا تتمتع بمعاملة استثنائية من دون سائر دول العالم.
فعندما احتلت إسرائيل في عام 1967 بالقوة المسلحة سيناء في مصر، والجولان في سوريا، والضفة الغربية وقطاع غزة بما فيها القدس في فلسطين، استُثنيت من تطبيق القانون الدولي الذي يعدّ احتلال ومصادرة أراضي دولة أخرى بالقوة العسكرية عملا غير شرعي، فالقانون يُطبق على كل دول العالم عداها.
يعود هذا الموقف الأميركي والغربي الإنجيلي من إسرائيل إلى إيمان دينيٍّ يؤكد أن وجودها في حد ذاته معبّر عن إرادة إلهية ويُجسّدها.
وعندما شذّ عن هذه القاعدة الرئيس الأميركي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور واعترض على احتلال إسرائيل صحراء سيناء في عام 1956 إثر مشاركتها في حرب السويس مع بريطانيا وفرنسا (العدوان الثلاثي)، اعتُبر موقفه اعتراضًا على إرادة الرب.
وتجنبًا لهذه المواجهة، سكت الرئيس الأسبق ليندون جونسون في عام 1967 على الحرب الإسرائيلية التي وجّهتها للأقطار العربية في مصر وسوريا وفلسطين، بل سكت عن استهداف الصهاينة للسفينة العسكرية الأميركية ليبرتي، الذي أدى لمقتل 34 بحّارًا أميركيا وإصابة 171 آخرين بجروح مختلفة.
ويرصد السمّاك في كتابه السابق أن إسرائيل حينما غزت لبنان عام 1982 كان بين قواتها جنود يهود أميركيون، ذلك بأن اليهودي الأميركي لا يتمتع فقط بحق التصويت السياسي خارج الولايات المتحدة، ولكنه يتمتع أيضًا بحق العمل العسكري داخل صفوف القوات الإسرائيلية المسلّحة، وهو امتياز لا يتمتع به أي مواطن أميركي آخر.
فالدفاع عن إسرائيل ليس مجرد عمل عسكري يتم بقرار سياسي، إذ إن ربط الدفاع عن إسرائيل بعقيدة دينية يجعل أي اعتراض أو أي عرقلة للدفاع عنها ومؤازرتها اعتراضًا على إرادة إلهية وعرقلة لهذه الإرادة.
ومن المواقف المعبّرة عن ذلك قول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر “إن قيام إسرائيل في عام 1948 يعني العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين. وإقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها”.
هذه النبوءة التوراتية القديمة هي جزء لا ينفصل من عقيدة المسيحية البروتستانتية التي جاءت كعملية تهويد كبرى للمسيحية، وأصبح الترابط العضوي والفكري بين الجانبين منذ القرن الـ16 الميلادي وحتى اليوم لا يكاد ينفصل.
ومنذ العصر الكولونيالي في القرن الـ19 وإدراك بريطانيا الإنجيلية نفسها قوة عسكرية وصناعية صاعدة، أصبحت مقولات كبار مصلحيها وخبرائها الإستراتيجيين من العسكريين والسياسيين تتوالى بضرورة إسكان اليهود في فلسطين لتحقيق هذه النبوءات.
ففي عام 1839، قال اللورد أنطوني أشلي الإصلاحي الإنجيلي في خطاب “إن اليهود رغم أنهم غلاظ القلب وغارقون في المعصية وينكرون اللاهوت، فإنهم ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص”.
وفي عام 1841 كتب ضابط الأركان البريطاني في الشرق الأوسط هنري تشرشل إلى رئيس مجلس الممثلين اليهود في لندن موسى مونتغيور “لا أستطيع أن أُخفي عنك رغبتي الجامحة في أن أرى شعبك يحقق مرة أخرى وجوده كشعب.. إنني أعتقدُ أنه يمكن تحقيق الهدف بدقة، ولكن لابد من توافر أمرين لا غنى عنهما؛ أولا إن على اليهود أنفسهم أن يتحملوا الأمر على الصعيد العالمي وبالإجماع، وثانيا إن على القوى الأوروبية أن تساعدهم”.
ماذا وراء الوعود الصامتة؟
ورغم هذه المقولات التي نراها تخرج من زعماء الحركة الصهيونية من المسيحيين الإنجيليين قبل اليهود، فقد ظل تاريخ الحركة الصهيونية متعثرًا قبل ظهور هرتزل، وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق، لأن وقود هذه الحركة وهم اليهود أنفسهم لم يكونوا متحمسين للهجرة من أوروبا إلى فلسطين، واستمر ذلك حتى ظهور الصحفي النمساوي ثيودور هرتزل (1860-1904) مؤسس الحركة الصهيونية.
يرى عبد الوهاب المسيري في موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” أن هرتزل حل الإشكالية القديمة بضرورة إحياء مشروع إعادة اليهود لفلسطين بطرق عملية، وبيَّنَ التنظيرات التي سبَقَه إليها الصهاينة المسيحيون.
فيقول المسيري إن هرتزل قام “بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استنادًا للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي، ولم يكتف بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية”.
وأشار هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 إلى ضرورة التفاهم التام مع الوحدات السياسية المعنية حتى يتم الحديث عن حقوق الاستعمار والمنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمته مقابل ما يُعطى له.
ويتأمل المسيري في هذا “العقد الصامت” بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وإدراك الطرفين الأهمية النفعية المادية المتبادلة لكل منهما، وأن هذا العقد سيتضمن تعهد الحركة الصهيونية بإخلاء أوروبا أو على الأقل الفائض البشري اليهودي وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي وداخل دولة وظيفية.
وتتحقق نتيجة ذلك عدة أمور مهمة، على رأسها أن “يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية، وستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي وحشد يهود الغرب المعروفين بثرائهم ليدعموا هذا المشروع الغربي”.
ونظير ذلك “سيقوم الغرب ككل برعاية هذا المشروع ودعمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي.. ويمكن القول إن الحل مُتضمّن في تعهّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية (اليهودية في فلسطين المحتلة)، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين من طَرد أو إبادة أو محاصرة”، على حد وصف المسيري.
ويعد “الوعود البلفورية” مصطلحا سكّه المسيري للإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها رجال السياسة في الغرب يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ويعدون بدعمه وتأمينه مقابل أن يقوم اليهود بخدمة مصالح الدول الراعية.
بالإضافة إلى ذلك، تنحو الحضارة الغربية منحى “التماسك العضوي”، أي أن عدم التجانس والاختلاف يصبح سلبيًا كريها، وعدم قدرة هذه الحضارة على التوصل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات وخاصة اليهود إلا من خلال “التهميش” وجعلهم “جماعة وظيفية”.
ويعد نابليون بونابرت من أوائل القادة الغربيين الذين أصدروا وعدًا بلفوريًا، وهو أيضًا أول مَن غزا المشرق العربي والإسلامي في العصر الحديث، وسنلاحظ في هذا الوعد أن فرنسا “تُقدّم فلسطين لليهود في هذا الوقت بالذات.. وهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين.. تدعوكم فرنسا للاستيلاء على إرثكم، بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”.
لا يختلف تصريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر أعضاء الجماعات اليهودية شعبًا غريبًا عن وطنه، مما يعني إسقاط المواطنة عنه، وهو شعب مرتبط بفلسطين، ورغم وجود عبارات مثل “الشعب الفريد” والذين عاشوا “تحت قيد العبودية والخزي منذ ألف عام” و”ورثة فلسطين الشرعيين”، فإننا سنجد حقيقة الدوافع الخفية لنابليون في تشريعاته داخل فرنسا.
ولم يكن نابليون يكن كثير الحب والاحترام لليهود، بل إن الهدف من وراء تحفيزهم للهجرة إلى فلسطين هو تفريغ فرنسا منهم بسبب المشكلات التي كانت قد بدأت في الظهور بسبب هذا الوجود عشية الثورة الفرنسية، والأمر الثاني أن يكونوا “جماعة وظيفية” في خدمة المصالح الفرنسية، وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل، وقد وافقه على رأيه.
وهناك أيضًا وعد بلفوري ألماني صدر بعد عدة أشهر من إنشاء الحركة الصهيونية؛ فقد تمكن هرتزل من لقاء أحد كبار المسوؤولين الألمان الذي تحدث مع القيصر عن الموضوع، وصدر خطاب من دون إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل في سبتمبر/أيلول 1898.
ومما جاء في الخطاب “إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد ليناقش الأمر (توطين اليهود) مع السلطان (العثماني)، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في القدس.. يحبّ جلالته أن يخبركم باستعداده أن يأخذ على عاتقه مسؤولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها. وجلالته حينما يكشف لكم عن نواياه فهو يعوّل بطبيعة الحال على مقدرتكم على الكتمان”.
ولم يكن هدف قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني مختلفًا عن هدف نابليون من قبله، ففي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في سويسرا عن المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، يورد الأسباب التي دعت ألمانيا لتأييد المشروع الصهيوني، ومنها أن توطينهم سيعمل على رخاء فلسطين وإنعاش الخزانة العثمانية حليفة ألمانيا، ولم يكن وقتها يدرك الرفض القاطع من السلطان عبد الحميد لهذه الأفكار والوساطة الألمانية.
وكان فيلهلم يرى أن طاقة اليهود ستوجّه إلى أهداف أكثر نبلا من استغلال المسيحيين، وأن إفراغ ألمانيا من اليهود الذين فيها “وكلما عجّلوا بالذهاب.. كان ذلك أفضل، فلن أضع أية عراقيل في طريقهم”.
ويعلّق المسيري على هذا الوعد بقوله “لعل موقف القيصر من اليهود بما يتسم به من كره عميق لهم، وترحيب شديد بالتخلص منهم، واستعداد تام لتوظيفهم في خدمة المصالح الألمانية، لا يختلف كثيرًا عن موقف نابليون من قبله أو موقف بلفور من بعده”.
وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 وقبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر كامل، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك اللورد بلفور التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية والذي تعلن فيه تعاطفها مع الأماني والأحلام اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحين صدر هذا الوعد كان أعضاء اليهود لا يمثلون أكثر من 5% من مجموع السكان في فلسطين.
وكان مما جاء في هذا الوعد الشهير الذي أُرسل إلى اللورد إدموند روتشيلد أحد زعماء وأثرياء الحركة الصهيونية البريطانيين، “يسعدني أن أُنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي: تعاطفًا مع أماني اليهود الصهاينة التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهومًا بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى”.
لا يختلف هذا التصريح عن تصريحات كل من نابليون وقيصر ألمانيا من قبل؛ ولكن يضاف إليه ما يمكن وصفه بالمكر الإنجليزي حين ادّعوا أن هذا التصريح لن يخل بـ”الحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”.
وبالرجوع لبلفور نفسه الذي كان قد تولى الوزارة الإنجليزية بين عامي 1903 و1905، فإننا سنراه يهاجم اليهود المهاجرين لبلاده لرفضهم الاندماج مع السكان، واستصدر لأجل ذلك تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الماحق ببلاده منهم.
وكان رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد الذي صدر في عهده هذا الوعد لا يقل كراهية لأعضاء الجماعات اليهودية من بلفور، بل ينطبق هذا الأمر على الشخصيات الأساسية الأخرى التي وقفت وراء هذا الوعد مثل جورج منلر وإيان سمطس، وكلها شخصيات قامت بدور أساسي في التشكيل الاستعماري الغربي، على حد وصف المسيري.
ومن خلال الأمثلة الثلاثة القاطعة السابقة يتأكد أن حقيقة العقد الصامت بين الحركة الصهيونية والحضارة الغربية كان لأهداف سياسية ودينية متبادلة، كما تكشف لنا من خلال تحليل المفكر عبد الوهاب المسيري لها كيف يعمل اليهود في فلسطين أداة وظيفية في خدمة المصالح الغربية.