نابلس- يمتشقون السلاح ويخرجون في استعراضات عسكرية عقب كل حدث كبير في مخيم جنين، وفي مشهد مهيب يظهر استعدادهم لحدث قادم ومواجهة أكبر، تنقّل المقاومون بين أزقة المخيم وصولا إلى ساحته الرئيسية، حيث ألقوا بيانهم العسكري وفيه توعدوا الاحتلال بمواصلة المقاومة وأن الاغتيالات والاعتقالات لن تثنيهم عن مواصلة النضال.
مقاومون في مقتبل العمر -معظمهم في العشرينيات- لا يظهرون إلا أثناء المواجهة أو عقبها خلال جنائز رفاقهم ووفق إجراءات أمنية مشددة وكأنهم جيش مدرب ومنظم، لكن جل ما يمتلكونه هو إرادة فولاذية يقارعون بها الاحتلال.
وتحت مسميات “مجموعة” و”كتيبة” وغيرها سمى المقاومون أنفسهم في المرحلة الحالية، لكن أعمارهم تقول إنهم “جيل أوسلو” الذي ولد دون أن يعرف عن الاتفاق أو يرى من خيره شيئا، بل تمردوا عليه كونهم امتدادا لأجيال سبقتهم في النضال بمواصلة المقاومة.
جيل يصل آخر بالمقاومة
يقول أحد المقاومين في مخيم جنين “لكل مرحلة متطلباتها وطريقتها”، ومذكرا بأحداث 2002 إبان الاجتياح الإسرائيلي للمخيم، والتي علقت بعض أحداثه بذاكرته كطفل صغير، ويضيف أن “المخيم اليوم لا يزال على عهد النضال ولن يكل أو يمل”.
وفي حديثه للجزيرة نت وبلغة جامعة ومحددة الهدف يقول المقاوم الشاب “المخيم اليوم يجسد الوحدة الوطنية وعلى قلب رجل واحد، ويواجه العدو الإسرائيلي ببندقية واحدة، كان هذا قبل 20 عاما، واليوم كذلك هو موحد بجميع فصائله وأذرعه العسكرية”.
ويرى أن هذا الجيل الجديد يسير على النهج نفسه، متابعا أن “الجميع بالمخيم تربى على الشهادة والمقاومة، لأن العدو لم يترك أي خيار للفلسطيني إلا المواجهة”.
وهذا الخيار لم يعد حكرا على مخيم جنين فحسب، بل امتد ليطال معظم مخيمات الضفة الغربية، وفيها تشكلت مجموعات مقاومة ترسم وتخطط وتضرب دون يعرف بها أحد، بشكل فردي وجماعي.
ومثل “محمد” تجد آخرين يتدافعون إلى مواقع المواجهة والاحتكاك مع الاحتلال ويتصدون بصدورهم العارية لاعتداء جيشه ومستوطنيه ولسان حالهم يقول “نعيش تصعيدا شاملا يمارسه الاحتلال ضد الفلسطيني، وإن التصدي له هو الخيار الأشمل والأمثل”.
ويقول الشاب ناصر أمين -الذي أفرج عنه منذ وقت قريب بعد نحو 16 عاما بالاعتقال- إن المقاومة هي ديدن هذا الجيل، مضيفا “اعتقلت طفلا وتحررت شابا ولا زلت مقتنعا بمقاومتي ولن أفرط بها، ويكفي هذا الشعب إذلالا”.
وفقد هذا الجيل -حسب مراقبين- كل مقومات الحياة على أرض فلسطينية مستقلة تقيم له دولة يحظى فيها بكل حقوقه أو حتى توقف جرائم الاحتلال المتواصلة والآخذة بالتوسع، ولا سيما عبر الاستيطان الذي هوّد معظم الضفة الغربية وعزلها عن غزة، وبمسلسل القتل والاعتقال والهدم الذي لم يتوقف لا قبل أوسلو ولا بعده.
وبالتالي، بات هذا الجيل -وأمام فقد كل الخيارات وانعدام أي أفق سياسي- عامل الرهان الأقوى على إبقاء فتيل المقاومة مشتعلا للتصدي لكل مشاريع الاحتلال التهويدية.
وهم المفاوضات
وفي هذا السياق، قال السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي أمين عام المبادرة الوطنية إن ميزات اكتسبها هذا الجيل جعلته متمردا أكثر من غيره ومتحديا للاحتلال، أولها وعيه العميق بوهم المفاوضات وعدم جدواها مع الحركة الصهيونية بحكم ما يراه واقعا.
وأضاف البرغوثي أن هذا الجيل متحرر، ليس من أعباء أوسلو وإنما من امتيازاته أيضا، والتي قبلت بها أجيال قديمة ويحاولون الحفاظ على امتيازات شخصية لهم رغم معرفتهم وإدراكهم بأن أوسلو فشل فشلا ذريعا.
ويدرك هذ الجيل -وفق البرغوثي- المتغيرات الجارية في العالم، خاصة التطور التكنولوجي، وهو خارج إطار الهيمنة الفكرية لمنظومة أوسلو، وبالتالي هو أكثر أجزاء الشعب الفلسطيني إدراكا لأهمية المقاومة وأكثرها استعدادا لممارستها.
ويحدد البرغوثي شكل انتفاضة هذا الجيل بقوله إنها “ستجري على شكل موجات تصعد وتهبط، ولكن يظل خيارها المقاومة والكفاح”.
وكي تستمر هذه المقاومة فهناك “محظورات” لا بد منها بحسب البرغوثي، أهمها أن يُحظر على السلطة الاصطدام بالمقاومة، أو أن يجر الفلسطينيون إلى صراع داخلي، وأن تركز الطاقات تجاه الاحتلال بصفته العدو المشترك، وحظر الاعتقالات السياسية واعتقال المقاومين والأسرى المحررين.
وأضاف “إذا كانت السلطة غير قادرة على المقاومة فإن عليها أن تتجنب الاصطدام معها، فالسلطة وأوسلو أضعفا الحركة الوطنية”.
ولم يفقد هذا الجيل أمل السلام مع الاحتلال فحسب، بل فقد مستقبله وأرضه التي تصادر إسرائيل معظمها وتعزل ما تبقى عبر أكثر من 360 مستوطنة، وفقد نفسه أيضا، وقتلت إسرائيل منذ بداية العام الجاري 234 فلسطينيا، واعتقلت نحو 5 آلاف يشكل الشباب معظمهم.
عاش “خيبة الأمل”
لم يفقد هذا الجيل الثقة فقط بأوسلو ومن دار في رحاه، بل أصيب بخيبة أمل -برأي المحلل السياسي عدنان صبّاح- بفعل الجريمة التي ارتبكت بحقه وبيعه “وهم الدولة” طوال 30 عاما، وعاش مشهد التهجير والتهويد والتغول الاحتلالي والمضايقات بكل أنواعها.
ويقول صبّاح للجزيرة نت إن هذا الجيل ينقم على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بفعل ويلات أوسلو ووضعه أمام خيارات قاهرة بين القتل والتهجير والإذلال، وبالتالي حدد مصيره بـ”الاستشهاد أو الانتصار”، ولذلك هذا هو الرهان الأبرز على الاستمرار بمقاومته، فضلا عن أنه بات يمتلك كامل الإرادة ويسخّر كل الأدوات في مقاومته، ولن يعجزه شيء أمام تحصن إسرائيل.
وأضاف صبّاح “هذا الجيل لن يسمح لأحد بأن يمتطي ظهره ثانية كما حدث في أوسلو، وبما أن المقاومة وبكافة أشكالها انطلقت فلن تتوقف وإن خمدت بعض الشيء”.
تميز جيل أوسلو باختياره أشكال مقاومته للاحتلال، فخاض العمل الفردي والمسلح وشكّل الخلايا المنظمة والمجهزة، وشارك في المقاومة الشعبية، وصاغ بياناته العسكرية واختار الزمان والمكان وطريقة الهجوم والانسحاب، وبات يزعج الاحتلال الذي خرجت منه أصوات تنادي بأن “الحل الأمني” مع الفلسطينيين لن يجدي نفعا.