تسللت قوة مشاة من جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى داخل منزل من قطاع غزة بعد أن سبقتهم مسيّرة للتأكد من أن كل شيء على ما يرام. كانت القوة قد اكتشفت نفقًا بدا وكأنه صيدٌ ثمينٌ منّاهم بأن يحققوا من خلاله انتصارًا عسكريًا طال انتظاره بعد أكثر من ١٠٠ يوم من الحرب الشرسة. اطمأن جنود الاحتلال لسلامة الموقع بعد أن جمعوا المعلومات الاستخبارية عبر مسيرة “كواد كوبتر” ذات المهام المتعددة، والمزودة بكاميرا عالية الجودة لاستكشاف المكان وجمع المعلومات الاستخبارية. ولمزيد من الاطمئنان سبقهم كلب مدرب تجول في أرجاء المكان علّ حاسة شمه القوية تلتقط ما يريب. لم يعو الكلب محذرًا، ولم تظهر صور المسيّرة ما يثير القلق، فقرر أفراد الوحدة الدخول جميعًا لتكون المفاجأة ولينفجر بهم المكان، الذي كان كمينًا أعدته كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
لم نقرأ هذه التفاصيل، ولم نسمعها من “أبي عبيدة”، المتحدث باسم كتائب القسام، لكننا شاهدناها رأي العين من خلال أحد الفيديوهات التي بثتها الكتائب عبر قناتها على تلغرام في العاشر من يناير/كانون الثاني 2024. يظهر الفيديو كل التفاصيل المذكورة وأكثر، من خلال كاميرا ثبتتها المقاومة في أحد الزوايا العليا للمكان، والتي كانت تسجل تلك اللحظات بالبث الحي والمباشر، وتنقلها لأحد القادة الميدانيين للمقاومة، بينما يجلس في مكان آخر، مراقبًا هدفه الثمين، وموجهًا أوامره لمجموعة أخرى بتفجير الكمين في ساعة الصفر.
قوة الاستخبارات
لم تكن هذه المرة الأولى التي تُصور فيها فيديوهات لجنود الاحتلال أثناء تواجدهم داخل غزة، بل بثت كتائب القسام عددا من المقاطع المرئية التي تُظهر فيها القوات الغازية بعيدا عن مسرح العمليات، أثناء راحتهم، ومن زوايا يجهلها الجنود تماما، وكلما تمدد الاحتلال كالفطر في تراب غزة، تكاثرت تلك الصور والمشاهد التي تبثها المقاومة.
خذ مثالا آخر، ففي أثناء قيام قوة اسرائيلية بتفخيخ منزلين كاملين بهدف تفجيرهما، وبينما كانت معظم القوة موجودة داخل المنزلين أو بالقرب منهما، في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، قام أحد جنود القسام بإطلاق قذيفة مضادة للأشخاص من سلاح “آر بي جي” في المكان المستهدف، ما تسبب بتفعيل القنابل التي كان جنود الاحتلال يحضّرونها لنسف المنزلين، لتنشب نيران حارقة أكلت الجنود وهدمت المنزلين. هزت تلك العملية تل أبيب بعد أن أدت إلى قتل 21 جنديا من جيش الاحتلال دفعة واحدة.
عسكريًا، يُفترض لهذا النوع من العمليات أن يكون مؤمنًا تماما ضد أي رصد أو تتبع، ومحصنا من الاختراق خشية وقوعها في المصائد التي تجيد القسام نصبها في طرق جنود الاحتلال. إلا أن تواتر سقوط مجموعات كبيرة من جنود الاحتلال في قبضة الفخاخ يؤكد تمكن المخططين الاستراتيجيين في فصائل المقاومة من عملهم، لاسيما في الجانب الاستخباراتي، وهو جانب حاسم في الحروب غير المتكافئة في العدد والعتاد.
في هذا النمط من الحروب، يتوجب على الجانب “الأضعف” اللجوء لتكتيكات غير نظامية مبتكرة، واتباع أساليب لا تساير النمط العسكري السائد، مع الحرص على أن تتسم حركته بروح المفاجأة والمباغتة، وهنا تحديدا تلعب الاستخبارات -كما أشرنا- دورًا جوهريًا، فهي تساعد العقل العسكري المخطط على تحديد الأهداف ذات القيمة العالية، وتعظم من الأثر الذي يحدثه سلاح المقاومة المحدود، كضرب خطوط إمداد جيش الاحتلال، وكذلك استباقه إلى النقاط المتوقعة ونصب الشراك، لإيقاع أكبر عدد من الجنود، بأقل بذل من رصيد التسليح الذي تمتلكه المقاومة.
كل عملية ناجحة إذن وراءها جمع معلوماتي استخباراتي فعال، يعبّد الطريق لفهم تحركات الخصم، ويمهد السبيل للتعرف على نقاط ضعفه وأساليبه في الانتشار. كما يعضد من فعالية جمع المعلومات دراية المقاومة بالطبوغرافية المكانية التي غالبًا ما تلعب لصالح أبناء الأرض، ولا تبخل عليهم بمزيّة توظيف التضاريس الموجودة لتوجيه قوة الاحتلال إلى مناطق الكمائن الرخوة التي يتم استهدافهم فيها. لذلك يمكن القول بلا مبالغة إن الكمائن في غزة هي مفتاح استراتيجية المقاومة.
يُعرف الكمين في العلوم العسكرية بأنه عمل هجومي مخطط له من قبل فرقة متخفية من الجنود يتم إجراؤه ضد هدف ثابت أو متحرك. تبدأ عملياته عندما يطلب قائد الفرقة القتالية المسؤولة عن صنع الفخاخ من فريق الاستخبارات معلومات مفصلة عن حجم وتكوين وحدة الخصم المستهدفة والأسلحة والمعدات، ومساره واتجاه حركته والأوقات التي ستصل فيها الوحدة المستهدفة إلى وجهته، حيث يتم تقسيم خط حركته إلى نقاط محددة على طول الطريق.
تشرع المجموعة المكَّلفة بصنع الكمين في اختيار أنسب المواقع للكمون، وغالبا ما يكون جنود المقاومة في مكان مرتفع نسبيًا، أو في مكان متخفٍّ يتيح لهم إمكانية الرصد. ويتم توجيه حركة جنود الاحتلال، عبر العوائق والمناورات المدروسة لتوجيههم دون دراية منهم. وتوزع المهام على الجنود بحيث يُرصد للكمين أكثر من أداة ضرب (أسلحة خفيفة وعبوات ناسفة موزعة بهدف إيقاف قافلة الجنود عن الحركة، وآر بي جي لاصطياد الآليات) وأكثر من منطقة قتل، وأخيرا توفير ملاذ آمن للجنود الصائدين كي يتمكنوا من الهروب وتأمين سلاحهم بعد تحقيق الهدف المرجو.
يتجلى الفشل العسكري الإسرائيلي ونجاح المقاومة في إعداد الكمائن في حادثة مقتل جنود إسرائيليين كانوا في الأسر. تقول رواية جيش الاحتلال إنه وأثناء اقتحام أحد المباني في 10 ديسمبر/كانون الأول سمع الجنود نداءات بالعبرية يقول أصحابها “نحن مخطوفون”، “النجدة!”، وحملوا لافتة مكتوبا عليها “النجدة! 3 رهائن”، لكن جنود جيش الاحتلال اعتقدوا أنها حيلة أعدّها جنود القسام لإيقاعهم في كمين شرق مدينة غزة. قُتل جنود الاحتلال الأسرى الثلاثة لدى كتائب القسام، عن طريق الخطأ، لكن ما اكتشفناه لاحقا أن هذا الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال، كان له ما يبرره. استُخدم هذا التكتيك البسيط الفعال من قبل كتائب القسام أكثر من مرة، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد استخدمت مكبرات الصوت التي يخرج منها صوت ناطق بالعبرية، بل وقاموا بتوظيف العرائس وحقائب الظهر والمجسمات التي تستخدم في عرض الأزياء للإيقاع بجنود الاحتلال، أو لدفعهم إلى طريق مختلف للوقوع في كمين مجهز مسبقًا. لذا، فقد شكّل هذا الكمين المركب تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ ضمن كذلك إحداث صدى سياسي ونفسي داخل جيش الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي.
الأمر الذي تسبب في حالة من الارتياب الشديد مع ضغط نفسي هائل على جنود الاحتلال، ربما كان ذلك السبب وراء حادثة غريبة أخرى حين استيقظ أحد الجنود مفزوعًا ليطلق النار بشكل عشوائي، فتسبب في إصابة بعض من زملائه، إذ يمكن لكل همسة أو حركة أن تكون كمينًا، أو كابوسا مرعبًا في الحلم واليقظة على السواء.
انتقاء السلاح
إلى جانب النجاح الاستخباراتي الذي يمكّن المقاومة من بناء كمائن مركبة متعددة الأدوار، هناك عنصر آخر يسهم في تحقيق درجة من التوازن، قبالة قوات أكبر من حيث العدد والعتاد. إنه انتقاء السلاح المناسب للمعركة المناسبة. في كتابه “مقدمة للاستراتيجية” يقول أندريه بوفري، وقد كان استراتيجياً عسكريًا فرنسيا حاصلا على رتبة جنرال “دي أرمي” قبل تقاعده في عام 1961 يقول:” فن الاستراتيجية يتمثل في اختيار أنسب الوسائل المتاحة والجمع بينها لإنتاج ضغط نفسي كافٍ لتحقيق التأثير المطلوب”.
من المهم لمن يتابع هذه القضايا أن يعرف أنه ليس من الدقة عقد مقارنات بسيطة بين سلاح وسلاح، أو جيش وجيش، حيث يجب أن تكون مقارنة الأسلحة ببعضها في إطار وظائفها في مسرح العمليات. مثلا، أطلق حزب الله في حرب لبنان عام 2006 أكثر من 1000 صاروخ مضاد للدبابات، وبسبب ذلك أصيبت قرابة 45 في المئة من جميع الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية بأعطاب مختلفة. أسس ذلك لمرحلة جديدة من أشكال الصراع مع الدبابات في هذه المنطقة، ضد دولة الاحتلال التي تفوقت بشكل أساسي في معارك الدبابات.
كان هذا هو الكورنيت، الصاروخ الروسيّ الموجه والمخصص للاستخدام ضد دبابات القتال الرئيسية الأثقل في ترسانة الحرب البرية والمزودة بدروع تفاعلية متفجرة، يستخدم كورنيت صواريخ شديدة الانفجار مضادة للدبابات تعمل عبر ما يسمى “تأثير مونرو” حيث يكون للعبوة المتفجرة قطع مجوفة أو فارغة في مقدمتها، مما يؤدي إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه محدد، الأمر الذي يزيد من اختراق المادة المتفجرة للهدف، عن طريق إنشاء نفث عالي السرعة من المادة، وبالتبعية يكون فعالًا في حالة الدروع الكثيفة.
اهتمت كتائب القسام، بالكورنيت، ووجهته لدبابات الميركافا ومدرعات النمر، وهي المركبات القتالية التي يستخدمها جيش الاحتلال إذا ما قرّر الهجوم البريّ، إذ لا يمكن بأي حال أن يتحرك الجيش على الأرض دون دبابات تفتح الطريق ومدرعات تحمل الجنود.
وبخلاف الكورنيت، ظهر سلاح جديد منذ عملية طوفان الأقصى انضم إلى ترسانة المقاومة متمثلا في قذائف الياسين من عيار 105 ملم، وهي رأس حربي ترادفي، بمعنى أنه يمتلك مرحلتين من التفجير، الأولى: عبارة عن شحنة متفجرة صغيرة تهدف إلى تنشيط الدرع التفاعلي للهدف، وهو نوع من الدروع التي تنفجر للخارج لمواجهة القذيفة القادمة فيتمكن من توجيه كامل قوتها الانفجارية إلى الخارج وليس إلى داخل الدبابة أو العربة المدرعة. أما المرحلة الثانية: فهي عبارة عن شحنة متفجرة أكبر تتبع الأولى، وتستغل الاختراق أو الفجوة التي حدثت في الدرع التفاعلي، ثم تفرغ كامل قوتها إلى داخل العربة المدرعة أو الدبابة.
تُعد قذائف الياسين تطورًا نوعيًا للمقاومة، فهي أقل تكلفةً من الكورنيت الذي يتخطى سعر القطعة الواحدة منه 25 ألف دولار في سعر التصدير، في حين تكلف قذائف الياسين التي صنعتها المقاومة بضعة مئات من الدولارات فقط. كما أنها أسهل في الاستخدام، ويمكن لرجل واحد التدرب عليها والمباشرة في القتال بها. والأهم مما سبق أنها مُصنّعة محليًا، ما يعني إمكانية توفيرها بأعداد أكثر وسهولة أكبر. لذا، لو قررتَ إحصاء إعلانات القسام المتتالية منذ بدء العملية البرية الإسرائيلية في غزة لوجدت أن استخدام الياسين يوازي أكثر من ثلاثة أضعاف الكورنيت على الأقل
ومع ذلك، فإن امتلاك السلاح الجيد ليس أهم عوامل النجاح، بل كيفية توظيفه عملياتيا على النحو الأمثل، مصحوبا بقوة المقاتل نفسه وصلابته النفسية. يلاحظ في سياق ذلك تطور واضح في قدرات المقاومة على استهداف الدبابات الاسرائيلية، من خلال تسديد ضربات قاتلة في نقاط ضعفها الأساسية.
يتجلى ذلك في فيديوهات القسام التي تصدر يومًا بعد آخر، حيث يُستهدف الجنود بشكل أساسي عبر ثلاثة نقاط قاتلة، أولها نقطة المحرك في مقدمة الدبابة وبالتالي ضربها من الأمام يعرضها للتوقف عن العمل، وربما تصل نيران الفدائي إلى قائد الدبابة الذي يجلس إلى جوار المحرك. الثانية توجيه ضربة إلى خلفية الدبابة (المكان الذي يخرج منه الجنود) وإصابة من بالداخل، خاصةً مع احتوائه على مخزن الذخيرة. والثالثة وهي النقطة الفاصلة بين برج الدبابة الذي يحتوي على المدفع الرئيسي وبدن الدبابة. كانت كل هذه النقاط في مرمى قذائف المقاومة. في الصور التي تنتشر على وسائل التواصل لدبابات الميركافا المحطمة، غالبًا ما تظهر الإصابات في واحدة على الأقل من هذه المناطق الثلاث.
لكل ما سبق، تُعد قذائف الياسين نموذجا مثاليا لانتقاء السلاح المناسب في معركة غير متكافئة، وكيف تقلب فكرة المقارنات المجتزأة بين الأسلحة والجيوش. فرغم أن فرقة مدرعة تكلف دولة الاحتلال عشرات الملايين من الدولارات، فإن تشكيلًا سريع الحركة، على دراية عميقة بموقع المعركة، يمتلك مجموعة من قذائف الياسين إلى جانب أسلحة أخرى في نفس المستوى لا تصل تكلفتها إلى عدة آلاف من الدولارات وربما أقل، يمكنه إيقاف حركة تلك الفرقة تماما بل وفي بعض الأحيان تدميرها، يجري ذلك على كل أسلحة القسام تقريبا.
لاحظ هنا أن الميركافا ليست لعبة أطفال أو مجرد شاحنة تجري على الطرق، بل هي جزء من فريق متفوق تقنيًا، مدعّم من الجو بالمسيرات التي تدرس المواقع وتحللها عبر الذكاء الاصطناعي، ويمضي في تشكيلات قتالية معقدة توفر حماية من كل الجهات. وبالتبعية يتطلب ذلك تنسيقًا بين القوات، فعنصر الاستخبارات يعطي البيانات لإدارة المعركة، والتي بدورها تعدّ خطة ومن ثم توزع الأهداف على جنودها، الذين يعملون بتناغم.
صنع في غزة
أحد أهم عناصر قوة حماس: الحصول على السلاح. للوهلة الأولى يظهر أن بعضًا من أسلحة المقاومة مثل الكورنيت وغيرها من أنظمة القذائف المضادة للدبابات مثل كونكورس وفاغوت وأنظمة مثل سام-18 وغيرها هي أسلحة روسية الصنع. إلا أن الحصول على هذه الأسلحة معقد للغاية، لأسباب تتعلق بكلفتها أولا، فضلًا عن الحصار المطبق على قطاع غزة والذي يجعل من إدخال السلاح أمرا عسيرًا. لذلك تبدت أهمية التصنيع المحلي، الذي يمكن ملاحظته بوضوح في فيديوهات كتائب القسام وبياناتها.
أما بداية هذا كله، فكانت مع الصواريخ. فأثناء الحرب على غزة في مايو/أيار 2021، أطلقت حماس نحو 4300 صاروخ على أهداف إسرائيلية في قفزة كانت مفاجئة للإسرائيليين، ليس في عدد الصواريخ فقط لكن الأهم في دقة الهجمات. فما يقدر بنحو 50% من الصواريخ التي أُطلِقت سقطت في مناطق مأهولة بالسكان مقارنة بـ 22% في عام 2012 و18% في عام 2014، أما في الحرب الحالية فإن حماس تتبع نمطًا أهدأ في إطلاق الصواريخ كون التقديرات تشير إلى حرب طويلة المدى، لكن رغم ذلك فإن عدد الصواريخ المنطلقة من غزة إلى الداخل الإسرائيلي وصل إلى 12-15 ألف صاروخ إلى الآن.
في أوائل الألفية، تمكن مقاتلو حركة حماس من تطوير الصاروخ “قسام 1” بقدرات متواضعة جدا؛ أسطوانة معدنية تشبه مواسير المياة بوزن 35 كيلوغراما فقط وطول أقل من مترين ووزن 1.5 كيلوغرام للرأس الحربي ومدى يصل إلى كيلومترين ونصف، تطور خلال الإطلاقات الأولى على إسرائيل إلى ما بين 3-4.5 كيلومترات فقط. صُنع الصاروخ من مكونات محلية تماما في غالبها؛ مزيج صلب من السكر ونترات البوتاسيوم (سماد شائع) لبناء وقود الصاروخ، حيث يعمل مزيج السكر والنترات كعامل مؤكسد يزود التفاعل بالأكسجين مما يسمح بإطلاق الطاقة بشكل متحكم فيه لدفع الصاروخ دون التسبب في انفجاره.
كذلك تضاف مادة “تي إن تي” ونترات اليوريا في الرأس الحربي المتفجر، والأخير سماد شائع كذلك. يتم إطلاق الصواريخ من إطار فولاذي بسيط، مما يسمح بنشر الصواريخ أو نقلها بسهولة وسرعة. كانت تكلفة بناء هذا الصاروخ بضعة مئات من الدولارات فقط، وهي تكلفة لا تكاد تُذكر في الصناعة العسكرية.
عشرون عامًا مضت. الآن، قارن ذلك بصاروخ “عياش 250” الذي استهدفت به حماس “مطار رامون” على بُعد 220 كيلومترا أثناء حرب 2021، إنه الصاروخ صاحب أطول مدى إلى الآن -بحسب المعلومات المعلنة- في ترسانة المقاومة (250 كيلومترا) وصاحب أقوى تأثير تدميري على الأرض.
وإذا راقبت التتابع الزمني لتطور صواريخ المقاومة، ستجد أن ما يُخيف الإسرائيليين ليس فقط تصاعد المدى إلى جانب الدقة، وإنما التسارع في التطوير، فحجم الإنجاز الذي يحققه الفلسطينيون في كل عام يتضاعف عن العام الذي يليه، منذ “قسام 2” في 2002 بمدى 9 إلى 12 كيلومترا، إلى “قسام 3” في 2005، بمدى 15-17 كيلومترا، إلى “إم 75” في 2012 بمدى يصل إلى 80 كيلومترا، إلى رنتيسي 160 في العام نفسه ويصل مداه إلى 160 كيلومترا، وهذه فقط أمثلة.
يظهر هذا التسارع في التطوير خلال الحرب الحالية على غزة. إذ توسع المقاومة من خطوط انتاجها لتصل إلى أسلحة تعتبرها مهمة في سياق أنواع محددة من المعارك وهي المعارك الحضرية، مثل إنتاج قذائف الياسين 105 التي تقاوم تقدم الدبابات والمدرعات. كذلك تجني المقاومة ثمار استثماراتها في بنادق القنص، وهي تختلف تماما عن أية بندقية عادية، فهي شديدة الدقة مع بصريات تلسكوبية عالية المستوى، بعيدة المدى، سهلة في التنقل والحركة، وتصمم بشكل يساعد على التخفي.
تدرك المقاومة أن الصراع النهائي سيكون داخل المدينة، ومهما تقدمت التكنولوجيا فإن فرد قناصة واحد يمكنه أن يعادل قوة كاملة من عشرة أفراد إذا استخدم عتاده بشكل مناسب وقام باختيار مناطق تموضع متعددة وملائمة. أحد أشهر أمثلة معارك المدن ما حدث في معركة ستالينجراد 1942، حيث أثبت القناصة أهميتهم، فقتلوا المئات من القوات الألمانية المهاجمة، وقد أتقن القناصون السوفييت استخدام التضاريس الحضرية وطوروا تكتيكات جديدة مثل استخدام البراميل القديمة مواقع للاختباء وإطلاق النار من مناطق لا يمكن توقعها.
في عام 2014 أعلنت كتائب القسام أنها قامت بتصنيع بندقية قنص تتمتع بمدى قاتل يصل إلى كيلومترين، أطلقت عليها اسم “غول”، وفي فيديو نشرته الكتائب ظهرت عمليات قنص ضد جنود من الجيش الإسرائيلي بهذه البندقية .
وفي عام 2018 أصدرت حماس صورا لجنود إسرائيليين في مرمى قناصتها، لم يُطلق الرصاص وقتها مُطلقا، لكن الصورة كانت تهدف إلى توضيح أن جنود الاحتلال باتوا دائما في مرمى قناصة كتائب القسام. وخلال عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها، استخدمت “غول” بكثافة وحققت للمرة الأولى نتائج واضحة على الأرض.
ويجري ذلك أيضًا على العبوات الناسفة والتي تعد أساسية في الحروب الحضرية وتنتجها كتائب القسام بشكل محلي. اتضح ذلك يوم الأربعاء 13 ديسمبر/كانون الأول 2023. حينها أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن مقتل 10 من جنوده بينهم ضباط في كمين في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، كان غالبية القتلى من لواء جولاني، أحد أهم ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، حيث استدرج جنود القسام الإسرائيليين إلى منزل مجهز مسبقا بالمتفجرات، وحينما جاء فريق آخر من الجنود أوقعوهم في كمين مشابه. في هذا النوع من الكمائن عادة ما تستخدم كتائب القسام العبوات الناسفة والتي تُعَدُّ فعالة في الكمائن على جوانب الطرق، بحيث تعترض القوات المهاجمة أو خطوط إمدادها، ويكون تركيبها في المداخل أو المباني لضرب فرق الجنود، أو قد يكون تركيبها على العربات والدبابات لتدميرها، ويمكن إسقاطها من مسيرات، والواقع أن المقاومة استغلتها في كل تلك النطاقات تقريبا.
أضف إلى ذلك نوعا جديدا من العبوات الناسفة ضُم مؤخرا إلى ترسانة حماس، وهو العبوات الناسفة الخارقة للدروع مثل “شواظ”، وهي صورة أكثر تعقيدا وتركيبا من العبوات الناسفة تُمثِّل تطورا مهما في هذا النطاق.
عادة ما يكون غطاء هذه العبوة المعدني مقعرا ويتكون من الفولاذ أو النحاس، يؤدي هذا التقعر فيزيائيا إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه معين دقيق يخلق تيارا من المعدن المنصهر الذي يمكنه أن يخترق الدروع بسرعة تصل إلى آلاف الأمتار في الثانية الواحدة، الأمر الذي يساعد في اختراق أقوى الدروع في العالم حاليا. تمكنت هذه العبوات الناسفة من اختراق المركبات المدرعة الثقيلة ودبابات أبرامز، التي تُعَدُّ دبابات القتال الرئيسية في جيش الولايات المتحدة.
هذه فقط أمثلة على أربعة أسلحة تعمل القسام على إنتاجها محليًا، وربما تساعدنا النظرة إليها من ناحية وظيفية (في الحرب الحضرية) على فهم سر اهتمام القسام بإنتاج هذه الأسلحة تحديدًا بشكل محلي، ويكفيك أن تعرف أنه حتى نهاية ديسمبر 2023 وفي أوج معارك الاحتلال داخل غزة، كانت كتائب القسام قادرة على الصد بثبات في أكثر من 7 جبهات للقتال دفعة واحدة، هذا إلى جانب قدرة المقاومة على استهداف مناطق خارج غزة بضربات صاروخية من حين لآخر، ما يعني وفرة في العتاد، وهي إشارة مهمة إلى أن المقاومة لازالت تحتفظ بكامل لياقتها بعد كل تلك الفترة.
الأسلحة المشتركة: الطريق إلى 7 أكتوبر
عادة ما يشار إلى جنود القسام كمقاتلين منفردين، يتدرب الجندي على العمل بمفرده، واتخاذ القرار بحسب ما تمليه الظروف، وفي بعض الأحيان يتحول لفدائي ان تطلب الامر. ويتم انتقاء السلاح في جانب منه لخدمة هذا الغرض، فمدافع الهاون وقاذفات الآر بي جي 7 وقاذفات الصواريخ المضادة للطائرات من نوع سام-18 وغيرها من الأسلحة يمكن أن يستخدمها فرد واحد أو فردين. خفة الوزن وإمكانية التحرك السريع هي نقطة قوة مهمة في سياق الإستراتيجيات غير النظامية.
لكن هذا النوع من أشكال القتال له عيوبه. ورغم أهميته الشديدة في سياق الحرب غير النظامية إلا أنه يمثل درجة على سلم التطور العملياتي، نحو عمليات قتالية معقدة تجري بالتنسيق بين قوات أو وحدات من نوعيات وتخصصات متمايزة وبأسلحة مختلفة، بشكل يشبه عمليات الأسلحة المشتركة في الجيوش النظامية المعاصرة، والأخيرة هي طريقة للحرب تسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة للجيش لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة. في هذا المستوى من الخطط القتالية، يتم ضرب الخصم بذراعين أو أكثر في وقت واحد بحيث تجعله الإجراءات التي يجب عليه القيام بها للدفاع عن نفسه ضد أحد الإجراءات أكثر عرضة للإصابة من الأخرى. على سبيل المثال، تتكون الفرقة المدرعة، وهي النموذج الحديث لعقيدة الأسلحة المشتركة، من مزيج من وحدات المشاة والدبابات والمدفعية والاستطلاع والمروحيات، وجميعها يتم تنسيقها وتوجيهها من خلال هيكل قيادة موحد.
لفهم عمق هذا النمط من التخطيط، دعنا نرجع بالزمن بعض الشيء، تحديدا إلى فجر يوم السابع من أكتوبر نفسه، وفيه أيضًا تتجلى قوة تلك المفاجأة، ولنبدأ بسؤال بسيط: هل استخدمت كتائب القسام أية أسلحة ذات تقنيات استثنائية في هذا الهجوم؟ لا، وهذا ما أدهش عددا من متخصصي العلوم العسكرية الذين درسوا هذه العملية. إنها فقط مجموعة من الأسلحة الخفيفة إلى جانب المسيرات والقذائف والصواريخ التي تستخدمها القسام عادة بجانب القوارب البحرية العادية، ومعها المظلات الطائرة، لكن الفكرة ليست في الأدوات ولكن في التخطيط بين القوات المختلفة لإنفاذ العملية.
يظهر ذلك بوضوح في قدر النجاح الذي حققته العملية، حيث تمكن جنود المقاومة من الاختراق والوصول لنقاط تبتعد أكثر من 20 كيلومتر عن حدود قطاع غزة، مع عدد من الأسرى تخطى المتوقع من الخطة. بدأت العملية بالتدريب المشترك لجنود كتائب القسام، في عملية خداع كبرى لاستخبارات جيش دولة الاحتلال (١-سلاح المخابرات)، وفي لحظة الانطلاق لاختراق 17 نقطة محددة سلفا في السياج الأمني، انهمر غطاء نيراني عبر إطلاق 5000 صاروخ (٢-سلاح المدفعية)، ثم استخدمت المسيرات لاختراق الأهداف الإستراتيجية وضربها على طول السياج، وهو ما يُمثِّل تحديا للقبة الحديدية التي لم تتطور بشكل كافٍ لمواجهة الطائرات المسيرة، وذلك لأن الأخيرة بإمكانها الطيران على ارتفاعات منخفضة بالقرب من الأرض مما يجعل رصدها من خلال الرادارات أمرا صعبا. نفس الفكرة تجري على الطيران المظلي الذي يتمكن من تفادي الرادار بسهولة أكبر (٣-سلاح الطيران)، ثم ينتقل الجنود إلى أرض المعركة لتنفيذ مهامهم (٤- سلاح المشاة).
هذا التكتيك المتكامل بين الفرق المختلفة للجنود يعظّم من أثر الضربة، بحيث يكون الإنجاز أكبر من مجموع منجز كل قوة منفردة. على سبيل المثال، عندما تستخدم قوات المشاة والمدرعات في بيئة حضرية، فإن كل منهما يدعم الآخر، ولا يمكن للدبابات منفردة أو فرق المشاة منفردة أن تحقق الهدف النهائي المتمثل في الاستيلاء على نقطة ما على الأرض.
بالنسبة لكتائب القسام، لا يقف الأمر عند حدود عملية طوفان الأقصى، بل رأينا هذا النمط من التخطيط العسكري في بعض الكمائن المركبة التي تمكنت كتائب القسام من تنفيذها، وتشاركت فيها فرق من نوعيات مختلفة بأسلحة مختلفة، وهو ما كان السبب في تعظيم النتائج التي خرجت من هذه الكمائن.
لعبة الحرب غير النظامية
هذه نقطة مهمة أخرى في سياق إحباط الاحتلال، الذي لا يخوض حربا مع حماس والمقاومة فقط، ولكنها حرب ضد الزمن بالأساس. يرى جنرالات الحرب في دولة الاحتلال أن المقاومة ليست فقط قادرة على الصد بذكاء وثبات في عدد من الجبهات، بل وما زالت قادرة على استهداف مناطق خارج غزة بضربات صاروخية من حين إلى آخر، وهذه إشارة إلى أنها لا تزال تحتفظ بكامل لياقتها بعد كل تلك الفترة، بل ويبدو أنها كلما مضى الزمن أصبحت أكثر قوة ودقة وثقة وبات جنودها أدق في إصاباتهم وأشجع في الهجوم على آليات جيش الاحتلال واستهداف جنوده.
والواقع أن المقاومة لم تضع كل أوراق اللعب على الطاولة مرة واحدة منذ بداية الحرب، فالمخططون الإستراتيجيون لها يعرفون أن جيش الاحتلال يظن أن عزم المقاومة سيضعف مع الوقت، ولذا اختاروا الإعلان عن أسلحتهم الجديدة بالتدريج، وكلما مر أسبوعان إلى ثلاثة ظهر سلاح يُستخدم لأول مرة، شاهدنا ذلك مع طوربيد العاصف، ومنظومة رجوم الصاروخية، وصواريخ “سام-18” التي أعلن عن استخدامها لأول مرة مؤخرًا. هذا النوع من المناورات مهم في سياق الحرب الحالية، والتي تلتقي فيها قوتان غير متكافئتان كما أسلفنا.
في عام 2022 أنفقت دولة الاحتلال الإسرائيلي ما مقداره 4.5 % من الناتج المحلي الخاص بها على التسليح، يساوي ذلك حوالي 23 مليار دولار وهو مبلغ يضعها في قائمة أكبر جيوش العالم انفاقًا على النطاق العسكري. ليس هذا فحسب، إذ تعد إسرائيل أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية الأميركية، ومن عام 1946 وحتى ديسمبر 2023 تلقت مساعدات أميركية بقيمة 263 مليار دولار.
تدعي دولة الاحتلال دائمًا أنها الأقوى في الشرق الأوسط، مع 169500 جندي في الخدمة و465000 جندي احتياط، إلى جانب 2200 دبابة ثقيلة متقدمة و530 قطعة مدفعية، كل هذا ولم نتحدث عن اسطول طائرات اف 15 والنسخ الأحدث من “اف 16” وطائرات عالية التخفي من الجيل الخامس مثل “اف 35” التي حصلت عليها من الولايات المتحدة. إنه جيش ثقيل العتاد، مدعم بتكنولوجيا هي الأحدث في نطاقاتها، مع قدرات استخباراتية هائلة تعتمد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
كيف أمكن في المقابل لكتائب القسام، التي تمتلك عددًا من الجنود قد يتجاوز بالكاد 5٪ من عدد جنود جيش الاحتلال، بلا دبابات أو طائرات، مع كم أقل من كل أنواع السلاح، أن تقف بثبات ضد تلك الحملة لكل تلك الفترة؟ أجبنا جزئيا عن هذا السؤال عبر ما مضى من نقاط تتعلق بدور الاستخبارات وكيفية انتقاء السلاح ومن ثم انتاجه محليا وكيفية ادارة المعارك المشتركة، لكن إذا تأملنا المعركة من عين الطائر، فإننا سنرى شيئًا اضافيًا يتعلق بإدارة المعركة ذاتها على مستوى أوسع، وهنا سنلتقي بالاستراتيجية غير المباشرة في الحرب، أي تلك الخطوات التي تتخذها قوة ما للحصول على نتيجة بطرق أخرى غير الحسم العسكري.
بحسب جونيلا ايريكسون وأولريكا باتيرسون من قسم الدراسات العسكربة في الجامعة الوطنية السويدية لعلوم الدفاع العسكري في كتابهما “العمليات الخاصة من منظور القوى الصغيرة”، فإن مفهوم الاستراتيجية غير المباشرة مبني على عدة مناورات تهدف إلى خلق أقصى قدر من الحرية لجيش القوى الأصغر، مع حرمان الخصم من نفس الحرية في عدة عوامل هي القوة المادية والمعنوية والزمن، أحد الطرق الفعالة في هذا السياق هي “طريقة التآكل”، والتي لا تعتمد على تحقيق النصر العسكري الحاسم، بل على إطالة أمد الصراع وجعله مكلفًا للغاية بالنسبة للعدو من ناحية عسكرية واقتصادية وسياسية، مع سعى الطرف الأضعف إلى الفوز في معركة السردية وكسب الدعم الدولي وإشراك جهات فاعلة أخرى.
مدة الحرب في هذا السياق هي مقياس لشرعيتها، حرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وحروب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان هي أمثلة تدعم هذه النقطة، نعم حسمت المعارك الأولية في هذه الحروب بناءً على المتوقع من فارق القوة العسكرية، لكن مع استمرار الصراعات زادت تكاليف الحرب من كل النواحي بما في ذلك الجانب الإعلامي، أدى ذلك إلى وضع سياسي أصبحت فيه القرارات السياسية موضع تساؤل داخليا ودوليا.
إن عمل القوة الأضعف على وضع القوة الأقوى في وضع سياسي سيء هو نصر استراتيجي في سياق هكذا نوع من المعارك، ويبدو أنه في سياق المعركة الحالية على غزة، فإن دولة الاحتلال قد جرت نفسها تلقائيًا إلى تلك النقطة حينما قررت الرد على طوفان الأقصى بضرب المدنيين العزل وتدمير منازلهم في غزة لا الدخول في حرب مع جنود المقاومة، ظن جنرالات الحرب هناك أن الأمر سيمر بسلام إذا انتهت معركة غزة سريعًا، لكن المقاومة وقفت بثبات أطال المعركة بشكل سمح لها أن تكون مركز النقاش في كل الاعلام العالمي تقريبًا.
ويمكن لك أن تلحظ ارتباك مواقف الدول الغربية (والتي دعمت إسرائيل دون قيد أو شرط في البداية) مع عدم تحقيق الإسرائيليين للنصر الحاسم المزعوم، فلا هم قضوا على حماس ولا خلصوا الأسرى ولا سيطروا على غزة. بل إن الاحتلال يحاول مضطربًا إعادة صياغة أهدافه داخل غزة لتتناسب مع ما واجهه من صعوبات خلال الاجتياح البري، ومع خروج مظاهرات في شتى بقاع العالم بات الوضع الدبلوماسي لإسرائيل أسوأ كثيرًا.
ويرى المتخصصون في هذا النطاق أن الإستراتيجية العسكرية في سياق هذا النوع من الحروب يجب أن تعتمد مزيج من الأسلوب الدفاعي (لمنع تقدم الخصم) وهجومي (لتحقيق التفوق النفسي) الذي يعتمد على الحركة العالية والإغارة.
تتبع كتائب القسام هذه الاستراتيجية حاليًا، فمن أحد الجوانب يقوم جنودها بالهجوم على مناطق تمركز جنود الاحتلال، ومن جانب آخر تعيد ترتيب قواتها لتتخذ مركز دفاعية تصعّب التقدم على جيش الاحتلال بما يطيل أمد المعركة بشكل كاف لكي يتمكن جنودها من التنقل بين شمالي وجنوبي غزة بسهولة أكبر عبر الأنفاق للمشاركة في جبهات قتال مفتوحة.
عادة ما تطور القوى الصغيرة نفسها في سياقات دفاعية، هذا مفهوم فهي أقرب للتعرض للغزو من القيام بالغزو، وهنا تهتم القوة الأضعف من ناحية العدد والعتاد بتدريب جنودها في سياق حرب حضرية، أي الحرب التي تحدث في المدن، وعلى المخططون الاستراتيجيون لها (لكتائب القسام في هذه الحالة) استغلال كل جوانب هذه النوعية من الحروب، والتي بالأساس تقف إلى جانب المدافعين، لأن العديد من الهياكل المادية توفر مواقع دفاعية فورية ذات جودة عسكرية ممتازة، أضف لذلك أنه يمكن لجنود لقسام تخزين الموارد داخل غرف مغلقة.
أضف إلى ذلك أن التضاريس الحضرية تقلل من قدرات المهاجمين في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، حيث لا يمكن للمسيرات مثلا اختراق الجدران لتبيان أدوات وتحركات المقاومة في مناطق بعينها وإرشاد قوات الاحتلال إليها، وفي النهاية فإنه يمكن للمدافع رؤية المهاجم القادم والاشتباك معه، لأن المهاجم لديه غطاء محدود، ورغم كل التقنيات التي تتمتع بها الجيوش الأكثر تقدما في العالم ففي الهجوم على المدينة يمكن أن يُشكِّل عبور الشارع أحد أكبر المخاطر على حياة الجنود المُهاجمة.
إلى الآن لا تزال التضاريس الحضرية هي أكبر مشكلات الجيوش المعاصرة من ستالينغراد إلى غروزني إلى مقديشو إلى الفلوجة، وهي تخدم المدافعين وتسمح لهم بتشكيل موقع المعركة بمرونة شديدة، ليفرضوا قواعدهم عليها لا العكس. إنها السبب في تمكُّن المقاومة من التخفي وبناء كمائن معقدة متعددة. أضف إلى ذلك أن التضاريس الحضرية ببساطة تمنع الدبابات من التقدم، وتفرض على جنود الاحتلال في مرحلة ما النزول إلى أرض المعركة في قتال كلاسيكي (رجل لرجل).
إلى جانب ذلك يأتي سلاح الأنفاق الذي يلعب نفس الدور ولكن بشكل أعمق وأكثر تأثيرا، ونحن نعرف أن هناك سلسلة من الأنفاق ممتدة بعمق يبدأ من 20 مترا أسفل مدينة غزة. تجعل هذه الأنفاق المقاومين أشباحا لجنود الاحتلال، يظهرون ويختفون في لمح البصر، وهي إلى جانب التضاريس، أحد أهم الأسباب في تمكُّن المقاومة من بناء الكمائن المركبة وضرب الدبابات والمدرعات الإسرائيلية حتى في المناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال، ومن مسافات قصيرة، وحتى المسافة صفر.
تلعب الأنفاق دورا حاسمًا في تطبيق الاستراتيجيات غير المباشرة التي تنتهجها كتائب القسام، ويرى “جو بوتشينو” المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، أن هذه الأنفاق في دورها بالمعركة الحالية تشبه شبكة الأنفاق التي واجهها الأميركيون في فيتنام، حيث أنشأتها “فيت كونغ” (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) لأجل تنفيذ عمليات الكر والفر على الجنود الأمريكيين، والتي نجحت في النهاية في اجبار واشنطن على الرحيل عن فيتنام. تفوق أنفاق غزة نظيرتها الفيتنامية في كونها أكثر تشعبا واتساعًا، فطولها يتجاوز 500 كيلومتر مقابل أنفاق الـ”فيت كونغ” البالغة نحو 270 كيلومترا، يعطي ذلك جنود القسام فرصًا أكبر لتنفيذ عمليات نوعية ضد الاحتلال.
والميزة الأكبر للأنفاق أنها عصية على جيش الاحتلال مهما امتلك من تكنولوجيا، حيث يمكن للإسرائيليين رصدها ودراستها، لكن دخولها إلى عمق كبير هو مهمة شبه مستحيلة، ليس فقط لأن نظارات الرؤية الليلية تعمل بصعوبة داخل الأنفاق، ولكن كذلك لأنها عادة ملغمة ومؤمنة ضد عبور الغرباء والأهم من ذلك أن إطلاق رصاصة واحدة داخل النفق لا تضر فقط بمن أُطلق عليه النار، بل بمن قام بإطلاق النار كذلك، لأن الرصاص يمكن أن يرتد إليه أو يتسبب في موجات صوتية ضاربة تؤثر به.
في النهاية
إذا قررنا أن نتأمل المعارك الثلاث الفائتة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في غزة من 2014 إلى 2021 إلى المعركة الحالية التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لوجدنا ملمحًا واحدًا أساسيًا يتكرر ويمثل ما نظن أنه نقطة قوة المقاومة الأساسية: المرونة، والقدرة على التكيف والتعلم بمرور الزمن. مع كل معركة تدرس المقاومة مواطن القوة وتستثمر فيها وتطورها، وتدرس مواطن الضعف وقد تنحي تمامًا أو على الأقل تغيّرها لتجربة تكتيك جديد في المعركة القادمة.
يعمل هذا النقد الذاتي، والتجربة والخطأ، على تغيير شكل جيش المقاومة الفلسطينية مع الزمن نحو الأفضل. وبذلك تضمن ألا يحصل الاحتلال على ما يريد، وألا يكون تفوق آلياته العسكرية عنصر الحسم في هذه الحرب الطويلة. لأن هناك من الأدوات والتكتيكات والاستراتيجيات العسكرية ما يمكن المقاومة من التكيف في سياق أقوى القطع التكنولوجية، وتلك نقطة مهمة لأننا نعرف أن جيش الاحتلال يميل بالفعل للاعتماد، الذي يمكن وصفه بأنه مفرط، على التكنولوجيا في حروبه.