جاكرتا- مع إعلان نتائج العد السريع لانتخابات الرئاسة الإندونيسية الأربعاء 14 فبراير/شباط 2024، بدا أن الفوز الذي حققه المرشح برابوو سوبيانتو (72 عاما) كان سهلا، إذ حصد أكثر من 58% من الأصوات، وبما يزيد على الضعف عن المرشح التالي أنيس باسويدان الذي حصل على 25%، وفق نتائج غير رسمية.
لكن انتصار برابوو، جاء بعد رحلة فشل طويلة، امتدت 20 عاما من خوض الانتخابات الحزبية الداخلية في حزب غولكار عام 2004، ولمنصب نائب الرئيس عام 2009، ولمنصب الرئيس سنتي 2014 و2019، دون أن ينجح في أي منها.
لكن إصراره والمرونة التي أبداها منذ الانتخابات الأخيرة بقبوله منصب وزير الدفاع في حكومة الرئيس جوكو ويدودو (جوكووي) (2019 -حتى اليوم)، وقدرته على تشكيل تحالف واسع ضم 8 أحزاب، مهدوا له الطريق لدخول القصر الرئاسي.
وبعد أن يتم تنصيب برابوو رئيسا لإندونيسيا في أكتوبر/تشرين الأول 2024، سيجد نفسه أمام مجموعة من التحديات الحقيقية، وعلى عدة مستويات سياسية واقتصادية، داخلية وخارجية.
من هذه التحديات تشكيل حكومة قوية ومتوازنة في الوقت ذاته، بين الأحزاب الثمانية “التحالف السمين” الذي حمله لقصر الرئاسة. وصياغة سياسة خارجية متوازنة بين الولايات المتحدة والصين، في ظل الصراع المتصاعد بينهما على عتبة البيت الإندونيسي في بحر جنوب الصين.
ويمكن إجمال التحديات الداخلية الأهم التي تنتظر برابوو في 3 تتعلق بـ:
- معيشة المواطن وتحقيق نمو اقتصادي جيد.
- تغيير الصورة النمطية التي أُخذت عنه كقائد شرس للقوات الخاصة.
- إدارة العلاقة مع الرئيس جوكووي الذي أبقى لنفسه نافذة في غرفة صناعة القرار من خلال ابنه غيبران.
معيشة المواطن
تعد إندونيسيا أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، ومنطقة صراع ونفوذ اقتصادي بين الولايات المتحدة والصين. ورغم تعافيها من أيام الأزمة المالية، فإن التحديات الاقتصادية لا تزال حادة. ورغم قائمة القضايا التي تهم الشارع الإندونيسي، فإن أولويته تكمن في الشأن الاقتصادي، وما يتعلق بمعيشته.
فهذه الانتخابات جاءت ثمرة التحول الديمقراطي الذي أعقب ثورة في الشارع الإندونيسي عام 1998 بسبب الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، التي دمرت الاقتصاد الإندونيسي، وقاد إلى احتجاجات طلابية حاشدة واجهها نظام سوهارتو الدكتاتوري بالقمع العنيف، أدت لاشتعال أعمال شغب عنيفة في مايو/أيار استمرت يومين في شوارع جاكرتا، قُتل فيها المئات، مما اضطر سوهارتو إلى التنحي في الشهر نفسه.
ويُنظر عموما إلى العقد الذي قضاه جوكووي في منصبه أنه عقد من الاستقرار والنمو لأكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، رغم معاناة المواطن في معيشته اليومية، بسبب بعض المؤشرات الاقتصادية السلبية. لذلك فلقمة العيش بالنسبة للمواطن مسألة حساسة، وتأخذها السلطات -بجدية- بالحسبان.
وتعهد المتنافسون الـ3 في الانتخابات الرئاسية بمواصلة معظم مبادراته، بما في ذلك تعزيز صناعة التعدين، وتوسيع نطاق الرعاية الاجتماعية، ومواصلة العمل على بناء عاصمة جديدة بدلا من جاكرتا بتكلفة 32 مليار دولار.
ويرى أدي برايتنو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شريف هداية الله، أن “أمام برابوو 3 تحديات أساسية عليه أن يحقق فيها تقدما ولو طفيفا في عامه الأول، حتى يشعر المواطن بجدية التغيير الإيجابي”، وتشمل:
- خفض أعداد الفقراء.
- السيطرة على ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
- توفير فرص العمل.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت “أما قائمة الوعود الانتخابية التي طرب لها الناخب الإندونيسي، مثل وعود برابوو ببناء 3 ملايين منزل جديد في المناطق الريفية والساحلية والحضرية، وإطلاق برنامج غداء مجاني لأطفال المدارس في إطار سياسة مصممة لمكافحة التقزم، فإن العمل على تنفيذها يحتاج مدة زمنية طويلة، وميزانية كبيرة لأنها وعود طموحة جدا”.
ويؤكد أن تراجع قيمة الروبية الإندونيسية (15 ألفا و500 مقابل الدولار) وارتفاع الأسعار، بحاجة لخطوات اقتصادية جادة يتخذها فريق اقتصادي قوي ونزيه يعمل على توفير أجواء الثقة للمستثمرين الأجانب، بحيث يلمسون سيادة القانون والالتزام بالشفافية في الأعمال التجارية.
صورة الجنرال العنيف
استبدل برابوو، قبل أكثر من 20 عاما، الزي العسكري للقوات الخاصة بزي رجل السياسة وزعيم الحزب ورجل الأعمال، لكن الصورة النمطية التي انطبعت عنه في فترة خدمته العسكرية والاتهامات التي لاحقته بانتهاكات حقوق الإنسان، لا تزال تحوم فوق رأسه في كل مناسبة.
فقد اتُهم باختطاف أكثر من 20 ناشطا مؤيدا للديمقراطية في نهاية التسعينيات، ولم يتم العثور على حوالي 10 منهم مطلقا، كما اتُهم برابوو بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في تيمور الشرقية وبابوا.
وتم تسريحه من الجيش عام 1998 ومُنع من دخول الولايات المتحدة حتى عام 2020 بعد أن أصبح وزيرا للدفاع في عهد جوكووي. لكن لم تُوجَّه له التهم مطلقا بشكل رسمي، ولا قُدمت دلائل تدينه.
ويعتقد المحلل السياسي طبيأس باسوكي، أن برابوو حاول طوال حملته الانتخابية تغيير الصورة النمطية عنه من خلال ترشيح الشاب غيبران راكابومينغ راكا (36 عاما) نائبا للرئيس، والظهور بمظهر الرجل المرح والراقص، حتى أطلق عليه الشباب الإندونيسي لقب “الجد اللطيف”.
ولذلك يرى باسوكي في حديثه للجزيرة نت “أن التحدي الحقيقي أمام برابوو، بعد تسلمه السلطة، أن يقدم شخصية أخرى للمجتمع والعالم، شخصية السياسي الذي يتقبل قواعد اللعبة الديمقراطية، ويحمي الحريات الشخصية والعامة وحقوق الإنسان”.
جوكووي في الكواليس
لا يختلف اثنان على أن الرئيس الحالي جوكووي كان له دور مؤثر في فوز برابوو السهل، بتدخله المباشر في المشهد الانتخابي، وحشد علاقاته ونفوذه خلال 10 سنوات قضاها في الحكم، لإنجاح نجله غيبران بالدرجة الأولى قبل إنجاح برابوو.
كما يقول برايتنو للجزيرة نت “للأسف أوقفت حكومة جوكووي عددا من المشاريع الكبيرة والمهمة لتوفير أموال المساعدات الاجتماعية التي قدمتها الحكومة قبيل الانتخابات، والتي توزع عادة في النصف الثاني من العام، لكن هذه السنة وُزعت في بداية العام في إطار الحملة الانتخابية للمرشح برابوو ونائبه غيبران ابن الرئيس”.
وكان التدخل الأقوى لجوكووي في الانتخابات، بإقدامه على تغيير القانون الانتخابي لتمكين ابنه من الترشح كنائب للرئيس لأنه لم يبلغ 40 عاما كما كان يشترط القانون، من خلال رئيس المحكمة الدستورية أنور عثمان، وهو زوج أخت جوكووي، والذي حُمل مسؤولية هذا التغيير في القانون، وتمت إقالته، لكن تغيير القانون بقي نافذا، ويسعى عثمان الآن للعودة إلى منصبه عبر المحكمة العليا.
وكان جوكووي، وفي سابقة من نوعها، حاضرا في ملصقات حملة برابوو وغيبران الانتخابية، وهو تذكير بأنه عنصر أساسي في هيئة الحكم القادمة، وأن هناك لاعبا محوريا ثالثا كامنا في خلفية المشهد.
لذلك يعتقد باسوكي أن الحقيقة غير المعلنة هي أن “غيبران مبتدئ سياسيا، وسيبقى تحت رعاية والده في إدارة الملفات التي سيتولاها، أي أنه سيمسك ببعض الخيوط من وراء الكواليس”.
ويضيف “لا يغيب عن الذهن أن برابوو وجوكووي خاضا المنافسة على الرئاسة في عامي 2014 و2019، وبالتالي فالعلاقة بالأصل تنافسية، والتحالف جاء هو الاستثناء لحاجة كل طرف للآخر”.
ويؤكد المحلل والباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية، محمد صالح، أن كافة المرشحين حاولوا التحالف مع جوكووي للاستفادة من سلطاته، لكنه اختار التحالف مع برابوو من خلال ترشيح ابنه، حتى يبقى له نفوذ في الحكومة القادمة.
ويوضح المحلل ذاته للجزيرة نت أن “برابوو سياسي قديم وترشح للمرة الرابعة، وله برنامجه وطموحه الشخصي، وهذا سيظهر بعد حوالي عامين من الحكم، وتتغير علاقته بجوكووي، فهو ليس أكثر من جسر عبر من خلاله برابوو إلى الرئاسة. وأتوقع أن يعود إلى مربعه الأول بالتحالف مع عائلة سوهارتو في انتخابات 2029”.
لكن تقديرا يتداوله سياسيون، على منصات التواصل ومقالات الرأي، مفاده أن التربص متبادل بين برابوو وجوكووي، فقد أصيب برابوو مرتين بجلطة لا تزال تؤثر على مشيته غير المتزنة، وفي حال مرض مجددا أو توفي، فإن غيبران سيصبح الرئيس، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام جوكووي للتأثير في سياسة البلاد.