طوفان هائل انتظم على شكل سلاسل بشرية أمام آلاف مراكز الاقتراع الهندية، وصوّت على مدار 6 أسابيع، ليقول “لا.. خافتة”، ولم تكن كافية لإسقاط الحزب الحاكم لكنها هزت أركان حكمه المسيطر على البلاد منذ عقد من الزمان.
أكثر من 640 مليونا صوتوا في هذه الانتخابات، من أصل نحو 970 مليونا يحق لهم الانتخاب، وتجاوزت نسبة التصويت 66% نصفهم من النساء، في أكبر انتخابات تشريعية يشهدها هذا الكوكب.
“انتصار بطعم الهزيمة”، عبارة واحدة تلخص المشهد بالنسبة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه الحاكم الذي رفع التوقعات قبل الانتخابات، وقال إنه قادر على تحقيق الفوز بـ400 مقعد من مقاعد البرلمان البالغة 543، لكن عاد يضرب أخماسا بأسداس، يبحث كيف يرأب الصدع الذي حل بداره.
صدمة انتخابية
حصل حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي الحاكم على 240 مقعدا وحده، وحصد مع حلفائه 293 مقعدا، مقابل 360 في انتخابات 2019، في المقابل حصل حزب المؤتمر المعارض بقيادة زعيمة راهول غاندي على 99 مقعدا وحده، ومع التحالف المعارض حصد 234 مقعدا، مقابل 119 مقعدا فقط في انتخابات 2019.
تجرع مودي الكأس على مضض، وقدم الشكر للناخبين، وقال في خطاب ألقاه في مقر الحزب في نيودلهي: “اليوم يوم مجيد، التحالف الوطني الديمقراطي سيشكل الحكومة للمرة الثالثة، ونحن ممتنون للشعب”.
وفي خضم معركة التصويت كان “الراهب الغاضب” يزهو في كل مرة بزي مزركش له دلالات دينية، وأحيانا يعتمر قلنسوة وأحيانا أخرى بدونها، يعلو هدير خطابه بين الجماهير-وهو الممسك بتلابيب البيان- معلنا إنجازاته وبرامجه الانتخابية.
وكان الأمل يحدوه بتحقيق أغلبية برلمانية مريحة تضمن لحزبه تشكيل حكومة بشكل منفرد بدون أن تلجئه الحاجة إلى الوقوف بأبواب حلفائه، لكن “رياح التصويت جرت بما لا تشتهيه سفنه”، وخاب ظنه وتوقعاته.
ويبدو أن الرجل تعرض للعقوبة من أنصاره ولضربة انتخابية “صحيح أنها لم تسقطه لكنها أفقدته توازنه”، وستشكل بالنسبة له انعطافة مهمة لدراسة الطريقة التي تعامل بها مع الناخبين على مدار عقد من سنوات حكمه.
بدت أصعب النتائج بخسارة الحزب الحاكم دائرته الانتخابية في مدينة فايز آباد أحد أهم معاقله، والتي افتتح بها مودي قبيل الانتخابات معبد رام ماندير الذي بني على أنقاض المسجد البابري، ودشن بهذا الافتتاح حملته للانتخابات في يناير/كانون الثاني مطلع هذا العام.
وشكل فوز مرشح حزب ساماجوادي المعارض بالمقعد النيابي هناك صدمة هائلة للحكومة، التي كان بناء المعبد الهندوسي الكبير أداة رئيسية لحملتها الانتخابية.
النتائج في الإعلام
كما أن انتخابات الهند جرت تحت سمع العالم وبصره، فإن نتائجها كانت كذلك، وانشغلت بها صحف العالم من أقصاه إلى أقصاه، وكان الوصف المسيطر فيها للنتائج بأنه “نصر غير سعيد” أو “فوز بطعم الخسارة”، واختارت لوفيغارو الفرنسية عنوان “النصر الذي خيب آمال مودي”.
وتناولت تلك الصحف أسباب تراجع الحزب الذي هيمن على المشهد السياسي في الهند على مدار دورتين انتخابيتين، وألقت الصحف اللوم بشكل مباشر على عاتق مودي.
وقالت إن غطرسته جعلت أداءه يبدو أسوأ مما هو عليه الآن، وأضافت أن الحملة الانتخابية بأكملها أجريت باسم مودي، وبالتالي عليه أن يتحمل مسؤولية هذا الأداء الضعيف.
يقول مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في العاصمة الهندية نيودلهي أليكس ترافيلي إن هالة مودي تضاءلت وتغيرت قيادته بشكل جذري، وإن ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات كان مفاجئا له، مشيرا إلى أن “قوة مودي التي لا تقهر بدأت تتلاشى أيضا”.
أما صحيفة لاكروا الفرنسية فقالت إن حصول الحزب القومي الهندوسي الحاكم على نتائج متواضعة نسبيا، تشير إلى أنه بدأ “يفقد رونقه”.
إضافة لذلك، يرى تقرير لشبكة بي بي سي البريطانية أن نتائج الانتخابات أظهرت تراجع بريق “علامة مودي التجارية”، مشيرة إلى أن شعبيته ارتبطت في السابق بقدرته على التسويق وتحويل الأحداث الروتينية إلى جزء من دراما مثيرة على نمط أفلام بوليود.
في أسباب التراجع
يرى مراقبون أن أهم أسباب تراجع حزب بهاراتيا جاناتا هو تركيزه الشديد خلال الحملة الانتخابية على “الوفاء بالوعود القومية الهندوسية وعلى القوة الشخصية لمودي”، التي لم تكتسب جاذبية كافية بين الناخبين الذي اعتبروا أنفسهم محرومين من جميع الفوائد، في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والغلاء وتكاليف المعيشة.
وعلى الجهة المقابلة، ركزت المعارضة على هذه القضايا الجوهرية خلال حملتها الانتخابية، وعلى فضح سياسات الحكومة غير العادلة أمام الجمهور.
وتناولت الصحافة العالمية طريقة مودي في التعامل مع “تسونامي الفقراء” في بلاده، الذين لم يطالهم شيء من برامجه الاقتصادية سوى مشاهدة الأغنياء وهم يتباهون بأموالهم.
وقالت تايمز البريطانية في مقال تحت عنوان “هكذا عاقب فقراء الهند حزب مودي في الانتخابات” إن “جعل الأغنياء أكثر ثراء ليس بالأمر الجيد، وإن فقراء الهند كانوا يريدون أن يروا تحسنا في حياتهم”.
وتحدثت الصحف عن سياسة التنمر التي اتبعها الائتلاف الحاكم في الهند مع الأقلية المسلمة التي تشكل نحو خمس سكان البلاد، وقالت إنه أخطأ حين جعل برنامجه الانتخابي “يتلخص في وضع القومية الهندوسية في قلب سياسة البلاد”.
ويرى مراقبون، أن الناخبين في كثير من الدوائر أداروا ظهورهم للاستقطاب الديني لصالح القلق بشأن قضايا تتعلق بحياتهم اليومية، لتمثل هذه الانتخابات العودة إلى القضايا الأكثر تقليدية وتسلط الضوء على التفاوت الناتج عن السياسة الاقتصادية التي تنتهجها حكومة مودي.
وحسب تقرير لصحيفة لوفيغارو فإن نتائج الانتخابات أظهرت أن جزءا من السكان يطالبون بشيء آخر غير ما تتبجح به حكومة حزب بهاراتيا جاناتا في حملتها، فالناخب يريد وظائف مستقرة ونموا اقتصاديا موزعا بشكل أفضل بين المدن والريف وبين الطبقات العليا والطبقات العاملة.
كما أشارت وسائل الإعلام إلى عدد من القرارات التي اتخذها “مودي القوي” حتى بدون العودة للبرلمان ولأقرب حلفائه، ومنها حين قرر فرض الأحكام العرفية على ولاية كشمير، وكيف أنه قدم الخطة إلى البرلمان على أنها صفقة منتهية، من دون الحصول على موافقة.
روح جديدة
كأن رياح تغيير لطيفة تهب فوق شبه القارة الهندية، فالمعارضة بقيادة “راهول العنيد” سليل عائلة غاندي التي لم تغب عن المشهد السياسي للبلاد منذ ما قبل الاستقلال تشعر بروح جديدة تسري في أوصالها لتجدد حيويتها ونشاطها.
وفي مقر حزب المؤتمر بالعاصمة دلهي بدا زعماء المعارضة يقتنصون فرصة غابت منذ عقد للاحتفال، وصفق أنصار غاندي عند إعلان النتائج، وقال رئيس حزب المؤتمر ماليكارجون كارجي: “هذا ليس انتصارنا فحسب، بل انتصار الشعب، هذا يوم عظيم للديمقراطية”.
وقال غاندي: “أنا فخور للغاية بشعب الهند”، مضيفا أن سكان البلاد أظهروا بوضوح أنهم يرفضون مودي رئيسا للحكومة.
وشكلت النتائج مؤشرا قويا على نجاح التكتيكات التي اتبعتها المعارضة خلال الحملة الانتخابية، كما أنها تحمل مؤشرات جيدة على إمكانية مواجهة سيطرة حزب بهارتيا جاناتا في أي انتخابات قادمة.
وربما أغرت النتيجة زعيم المعارضة ليتحدث عن إمكانية إجراء محادثات مع اثنين من شركاء مودي في الائتلاف الحاكم، وهما حزب تيلوغو ديسام وجاناتا دال المتحد، على الرغم من أن قادة الحزبين قطعا الطريق على محاولات غاندي وأعلنا أن تحالفهما مع بهاراتيا جاناتا ساري المفعول وأنهما سيشكلان الحكومة المقبلة.
ماذا بعد؟
وفقا للنظام البرلماني الهندي فإن الحزب صاحب الأغلبية هو الذي يرشح رئيس الحكومة، وفي الوقت نفسه ورغم التراجع فإن مودي أعلن عزمه الاستمرار في منصبه رئيسا للوزراء، وبالتالي البدء في مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية.
ولا تبدو في الأفق أي بوادر لاحتمالات أخرى حتى الآن، خصوصا أن هذا التحالف يقود البلاد منذ عقد من الزمان، وخلال هذه الفترة لم تظهر أي خلافات بينهم في السياسات العامة للبلاد، رغم أن بعض الحلفاء لا يشاركون مودي “آراءه الهندوسية المتشددة التي تمثل جوهر أجندته”، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ.
الأمر الآخر أن معظم هذه الأحزاب هي أحزاب محلية على مستوى الولايات وليس لها امتدادات كبيرة عبر البلاد، وعمد مودي خلال فترة حكمه على تمرير سياساتهم على المستوى المحلي مقابل أن يبقى التوافق على السياسات العامة.
لكن في ظل هذه النتائج، سيكون هذا التحالف في حالة أضعف من السابق، وهو ما يعني أن قبضة مودي سترتخي كثيرا، وسيضطر إلى تقديم تنازلات كبيرة لحلفائه، وللشارع الهندي بشكل عام، لضمان عدم التعرض لانتكاسات مستقبلية تتعلق بانفراط عقد تحالفه.
كما سيضطر مودي لتخفيف خطابه الحاد، “وتنحية طموحاته لتحويل الهند لدولة هندوسية”، وقد تلجأ حكومته لتدابير إنفاق شعبوية، وهو ما يعرض خططها المالية للخطر.
وعلى مدى معظم تاريخ الهند بعد الاستقلال، كانت الحكومات الائتلافية هي القاعدة، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا فترات قصيرة، ورغم أن حزب بهارتيا جاناتا كان يمكنه كسر هذه القاعدة ويقود الحكومة منفردا على مدى عقد من الزمان، إلا أنه آثر أن يشاركه حلفاؤه في الحكم.