اليمين ومقص الرقيب.. هكذا تدهورت حرية الصحافة الإسرائيلية بعد حرب غزة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 14 دقيقة للقراءة

أظهر مؤشر حرية الصحافة لعام 2024 الذي يصدر عن منظمة “مراسلون بلا حدود” تأثيرا واسعا للحرب على قطاع غزة فيما يتعلق بحرية العمل الصحفي داخل إسرائيل.

ووفقا للتقرير، فإنه ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تزايدت الضغوط على الصحفيين داخل إسرائيل، كما ارتفع مستوى حملات التضليل وتصاعدت القوانين التي تقمع حرية العمل الصحفي، مع الإشارة إلى التداعيات المأساوية للحرب على غزة على حياة الصحفيين في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في القطاع الذي استشهد فيه أكثر من 100 صحفي في غضون 6 أشهر من الحرب أثناء ممارسة عملهم الصحفي.

ولم تكن الحرب على قطاع غزة وحدها صاحبة التأثير على الصحافة في إسرائيل، وإن كان لها الدور الأبرز، إذ أظهر مؤشر حرية الصحافة ازدياد التدهور في حرية العمل الصحفي خلال العامين الماضيين.

ومدفوعا ذلك بصعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى سدة الحكم، الذي امتد تأثيره إلى المشهد الإعلامي في إسرائيل التي تراجع ترتيبها عالميا وفقا للمؤشر من 86 في عام 2021 إلى 97 في عام 2022 ثم في 2023 إلى الترتيب 101 من بين 180 بلدا على مستوى العالم.

وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، نشر موقع “إنترسبت” الأميركي وثيقة صادرة عن الرقابة العسكرية الإسرائيلية بعنوان “عملية السيوف الحديدية، توجيهات رئيس الرقابة الإسرائيلية لوسائل الإعلام”، وتكشف عن توجيه إعلامي بحظر تغطية 8 مواضيع دون موافقة مسبقة من الرقابة العسكرية، وتتضمن المواضيع:

  • المحتجزين الإسرائيليين في غزة.
  • تفاصيل العمليات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية.
  • المعلومات الاستخبارية المتعلقة بنوايا المقاومة وعملياتها.
  • الهجمات الصاروخية التي ضربت البنية التحتية الإستراتيجية.
  • الهجمات السيبرانية ضد الحكومة أو التي تنفذها إسرائيل ضد خصومها.
  • الزيارات من قبل المسؤولين إلى مناطق القتال.
  • تفاصيل اجتماعات مجلس الوزراء.
  • تفاصيل الأسلحة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك التي استولت عليها المقاومة.

وعلى الرغم من كون الوثيقة التي وصفت بأنها “غير مسبوقة” تشير فقط إلى دور الرقابة العسكرية الإسرائيلية في التقييد الواسع لحرية الصحافة خلال الحرب على قطاع غزة، فإن تاريخ حرية الصحافة في إسرائيل اصطدم بشكل دائم مع مقص الرقيب العسكري هناك.

الحرب على قطاع غزة سجلت تصاعدا في منحنى الاستهداف الممنهج لحرية العمل الصحفي في إسرائيل (رويترز)

الرقابة العسكرية ومفهوم الأمن الإسرائيلي

تتبع الرقابة العسكرية لجهاز استخبارات الجيش الإسرائيلي (أمان)، ويطلق على رئيسها صفة “المراقب العسكري الإسرائيلي” الذي يعين من قبل وزير الدفاع غير أنه ليس تابعا له، وتعمل الرقابة بموجب أحكام أنظمة الدفاع في حالات الطوارئ لسنة 1945، والتي تم دمجها في أنظمة الطوارئ بعد “تأسيس” إسرائيل.

ووفقا للأنظمة فإنه يشترط على وسائل الإعلام من أجل نشر محتوى يتعلق بالشؤون العسكرية والأمنية أن تُخضِع المحتوى لموافقة الرقابة العسكرية قبل النشر، ويحظر على الناشر الإشارة إلى أن الرقابة قد رفضت المحتوى.

كما يحظر ترك أسطر فارغة في المحتوى الذي يتم تعديله بما يكشف عن خضوعه للرقابة، بينما يواجه الصحفيون الذين لا يلتزمون بتلك التعليمات احتمالات رفع دعاوى تشهير مدنية وجنائية في المحاكم الإسرائيلية.

في عام 1966 أبرم ممثلو كل من وسائل الإعلام والجيش في إسرائيل، ما عرف بـ”اتفاقية الرقابة” والتي هدفت إلى ضبط العلاقة وتقليص الاحتكاك المستمر بين الجانبين، وتعهدت بموجبها وسائل الإعلام بالامتثال لتعليمات الرقابة العسكرية، بينما التزمت المؤسسة الأمنية بعدم إساءة استخدام الرقابة العسكرية.

وتضمنت الاتفاقية جملة من التفاهمات منها تحديد الغرض منها والمتمثل في منع نشر معلومات أمنية قد تضر بأمن إسرائيل، وقيام الرقابة مسبقا بإبلاغ الصحافة بالموضوعات التي تتطلب الموافقة عليها، وفي عام 1989 قضت محكمة العدل العليا في إسرائيل، بأنه لا يمكن فرض الرقابة على المعلومات إلا إذا كان هناك “يقين وثيق بأن الضرر الفعلي سيضر بأمن الدولة”.

تغطية الصحف الإسرائيلية لحرب غزة
الرقابة العسكرية في إسرائيل تحظر بشكل سنوي حوالي 2240 قصة صحفية، بحسب تقديرات (الجزيرة)

خلال السنوات الماضية أشير إلى الدور الفعال للرقابة العسكرية في منع النشر على نطاق واسع، حيث تكشف البيانات التي أفصحت عنها الرقابة العسكرية بطلب حركة حرية المعلومات مع موقع “شيشاه مكوميت” في إسرائيل عن أنه ما بين عامي 2011 و2016 تم منع قرابة ألفي محتوى وقصة خبرية لأسباب أمنية.

كما تدخلت في ذات الفترة بتعديل قرابة 14 ألف خبر بصورة جزئية أو كلية، بما يمثل 20% من المحتوى الذي خضع للمراجعة، وقد توسعت عمليات الرقابة لتشمل المدونات على منصات التواصل الاجتماعي التي جرى إخطار العشرات منها في فيسبوك الحصول على موافقة مسبقة على المعلومات المتعلقة بالشؤون العسكرية والأمنية.

وبينما تشير تقديرات إلى أن الرقابة العسكرية في إسرائيل تحظر بشكل سنوي حوالي 2240 قصة صحفية، جزئيا أو كليا، لاحتوائها على معلومات قد تضر بأمن إسرائيل، فإن مجريات الحرب على قطاع غزة زادت من معدل الرقابة العسكرية على المنشورات الصحفية.

وقد كشف تقرير لموقع العين السابعة العبري (The Seventh Eye) أنه وفي الـ50 يوما الأولى من الحرب على غزة كشفت أنظمة الرقابة العسكرية عن وجود أكثر من 312 ألف محتوى إخباري تنوعت ما بين الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعي، والقنوات الإعلانية مثل مجموعات واتساب وتليغرام وغيرها، خضع منها حوالي 6715 للرقابة الجزئية أو الكاملة.

ووفقا لتقرير جديد صدر في 15 مايو/أيار 2024، ذكرت حركة حرية الإعلام مع “سيشاه كوميتيم” أن الرقابة العسكرية منعت نشر 613 مقالا خلال عام 2023، وهو ما يقرب من 4 أضعاف ما كان عليه في عام 2022، كما تدخلت وحذفت أجزاء في 2703 قصص إخبارية إضافية، أي ما يتقرب من 3 أضعاف العام الذي سبقه.

تشريعات تخنق حرية الصحافة

سجّلت الحرب على قطاع غزة تصاعدا في منحنى الاستهداف الممنهج لحرية العمل الصحفي في إسرائيل من خلال تفعيل تشريعات سابقة أو استحداث أخرى جديدة، وقد أظهرت تلك التشريعات توجها إسرائيليا نحو قمع الرواية المناهضة لروايتها المتعلقة بالحرب في قطاع غزة.

وكان من أبرز تلك التشريعات إقرار الكنيست في أبريل/نيسان 2024 ما بات يعرف بـ”قانون الجزيرة”، الذي يمنح الحكومة الإسرائيلية صلاحية إغلاق وسائل الإعلام الأجنبية ومصادرة معداتها، وحجب مواقعها الإلكترونية إذا كانت تُعتبر تهديدًا للأمن القومي، ويسمح القانون بسريان إجراء الإغلاق لمدة 45 يومًا قابلة للتمديد.

بموجب القانون أصدرت الحكومة الإسرائيلية في وقت لاحق قرارًا بإغلاق مكتب قناة الجزيرة في إسرائيل ومصادرة معداتها، إضافة لقيامها بعد ذلك بمصادرة معدات بث وكاميرات تابعة لوكالة أسوشيتد برس بتهمة انتهاك القانون الجديد من خلال تقديم صور لقناة الجزيرة.

وقد سبقت ذلك القانون الذي اعتبرته لجنة حماية الصحفيين بأنه يمثل تهديدا لوسائل الإعلام الدولية داخل إسرائيل، محاولات سابقة لمجلس الوزراء الإسرائيلي استهداف قناة الجزيرة بعد اعتماده خلال الأيام الأولى لحرب غزة ما يعرف بـ”أنظمة الطوارئ” والتي تتيح لوزير الاتصالات إغلاق وسائل الإعلام الأجنبية التي تعتبر ضارة بالأمن القومي.

غير أن الجهود القطرية في الوساطة بين حماس وإسرائيل عرقلت من خطط إسرائيل في حينه إغلاق بث القناة، فيما جرى التذرع بأنظمة الطوارئ في قرار الحكومة الإسرائيلية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إغلاق قناة الميادين الفضائية بتهمة التحريض على إسرائيل.

كما شملت حزمة التشريعات، إقرار الكنيست في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تعديلا على قانون مكافحة الإرهاب، ويفرض السجن لمدة عام على الشخص “الذي يستهلك بشكل منهجي ومستمر منشورات منظمة إرهابية محددة”، شريطة أن تدعو النشرة بشكل مباشر إلى “ارتكاب عمل إرهابي أو تعبّر عن الثناء أو التعاطف أو التشجيع مع هذا العمل”.

وقد أثار القانون مخاوف من أن يؤدي إلى التضييق على الصحفيين الذين يقوم عملهم بشكل مباشر على استهلاك المحتوى وعرض الحقائق، خاصة مع تحذير رئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء في الكنيست، سيمحا روثمان، للصحفيين الذين يستهلكون هذا النوع من المحتوى.

تراجع الصحافة المستقلة وصعود اليمين

يشار إلى جملة من الأسباب الاقتصادية والسياسية التي دفعت إلى تراجع مفهوم الصحافة المستقلة في إسرائيل، حيث تخضع معظم المؤسسات الإعلامية في إسرائيل لسيطرة مجموعة صغيرة في القطاع الخاص، وفي حين تتكبد وسائل الإعلام تلك الخسائر، فإن استمرار وجودها يأتي في إطار إستراتيجية تعزيز مصالح أطراف مختلفة على الساحة الإسرائيلية.

في تعليقها على الأسباب التي أدت إلى تراجع ترتيب إسرائيل عالميا في مؤشر حرية الصحافة، أشارت منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى تصاعد اليمين المتطرف في إسرائيل، حيث باتت القناة الـ14 المعروفة بتطرفها ثاني أكثر القنوات مشاهدة في إسرائيل، بينما على صعيد الصحافة المكتوبة فقد تراجعت صحيفة هآرتس العبرية التي لها توجهات ليبرالية معارضة للحكومة، وتعرض صحفيوها لتضييقات مختلفة.

كما أسهم بروز الإعلام الموجه في طريقة تعيين الشخصيات في الهيئات المعنية بتنظيم الإعلام، وهو ما انعكس على سبيل المثال على شكل التغطية الصحفية للحرب في غزة، حيث تجندت معظم الصحف الإسرائيلية للترويج للدعاية المؤيدة لاستمرار الحرب هناك.

تصاعد اليمين المتطرف في إسرائيل يعد أحد أسباب التي أدت إلى تراجع ترتيب إسرائيل عالميا في مؤشر حرية الصحافة (رويترز)

محاربة الصحافة في ميدان المعركة

أشارت لجنة حماية الصحفيين في أحدث تقاريرها إلى جملة واسعة من المخاطر التي تهدد عمل الصحفيين خلال تغطيتهم للحرب نتيجة الهجمات والإجراءات العدوانية الإسرائيلية ضدهم.

شملت تلك الإجراءات عمليات استهداف الصحفيين وعائلاتهم وقتل العشرات منهم، إضافة إلى تدمير المكاتب الصحفية في القطاع، فضلاً عن تهديد عدد من الصحفيين بسبب استمرارهم في ممارسة عملهم وتغطية الحرب هناك، وكذلك عمليات الاعتقال بحق الصحفيين حيث لا يزال 28 منهم معتقلا في السجون الإسرائيلية، عدا عن الاعتداءات المتكررة خلال قيامهم بعملهم في الضفة الغربية.

بالإضافة إلى تعرض مواقع صحفية لهجمات إلكترونية من بينها الجزيرة ووكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية “وفا” وكذلك نقابة الصحفيين الفلسطينيين التي عمدت إلى تغطية الانتهاكات المرتكبة بحق الصحفيين، يضاف إليها إعاقة عمل الطواقم الصحفية داخل إسرائيل.

تعرضت إسرائيل خلال الحرب الجارية لانتقادات واسعة على خلفية القيود التي فرضتها على عمل الصحفيين الأجانب فيما يتعلق بتغطية الحرب على قطاع غزة، إذ منعت السلطات الإسرائيلية أيضًا معظم وسائل الإعلام الأجنبية من دخول غزة.

كما أجبرت تلك الوسائل الإعلامية على تقديم التقارير من تل أبيب أو القدس أو جنوب إسرائيل، وألزمتهم الامتثال لقواعد الرقابة العسكرية الإسرائيلية، والتي تتطلب أيضا تقديم المواد الإعلامية لمراجعتها قبل النشر أو البث.

وفي مقابل عمليات المنع على نطاق واسع للطواقم الصحفية الأجنبية من دخول غزة، سمح الجيش الإسرائيلي لعدد محدود من المؤسسات الإخبارية الدولية بدخول غزة شريطة مرافقة الجيش الإسرائيلي وعدم التحرك بمفردهم في غزة، إضافة إلى تقديمهم جميع المواد واللقطات إلى الجيش الإسرائيلي لمراجعتها قبل النشر.

في مآلات السيطرة على الصحافة في إسرائيل

وخلال السنوات الماضية، عكفت الحكومة الإسرائيلية على تكثيف أشكال رقابتها على المحتوى المنشور على الإنترنت، فأصدرت قانون حجب المواقع الإلكترونية عام 2017، والذي يسمح للحكومة بإغلاق أي موقع إلكتروني يتبع “المنظمات الإرهابية”، حسب وصفها.

كما عمدت أيضا إلى تعزيز الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي من خلال الحصول على إذن المحكمة في إزالة أي منشور ضار بالدولة أو الاقتصاد، إضافة إلى منع المحتوى من الظهور في نتائج محركات البحث وخاصة غوغل (Google)، وكذلك جهودهم بالتعاون مع عمالقة الإعلام الرقمي كفيسبوك في إزالة المحتوى التحريضي من شبكات التواصل الاجتماعي في سرعة قياسية.

في عام 2016 كشف موقع “972+” الإسرائيلي عن اعتماد السلطات الإسرائيلية على سياسة مكملة للرقابة العسكرية التي لم تعد بذات الكثافة في حينها عبر استخدام أوامر المحكمة لتقييد عمليات النشر في إسرائيل، في خطوة استهدفت التحكم في المعلومات المتدفقة إلى داخل إسرائيل من الخارج.

خلال الحرب على قطاع غزة، تعرضت آليات الرقابة الإسرائيلية إلى انتقادات واسعة على اعتبارها باتت عاملا مكملا في مشهد الإبادة القائم في قطاع غزة، بينما تواصل إسرائيل تحجيم الصحافة المستقلة أو ذات التوجهات الليبرالية واليسارية ومحاربة وسائل الإعلام الدولية ومنعها من البث لتغطية الحرب أو منع الصحفيين الأجانب من دخول قطاع غزة بهدف التغطية على حجم الجرائم التي ترتكب في غزة.

كما لم تغفل أيضا عن السماح بتمرير دعاياتها وروايتها المرتبطة بالحرب على حساب الرواية الفلسطينية المضادة.

لقد ظهرت نتائج الجهود الإسرائيلية في تنقية المحتوى العبري من أي معارضة لتوجهات الحكومة اليمينية المتطرفة بصورة واضحة خلال الحرب الجارية على غزة التي تبرز بالنسبة لنشطاء إسرائيليين حجم المفارقة التي تسبب بها الإعلام العبري على الداخل الإسرائيلي.

ففي حين يشاهد العالم الكارثة التي لحقت بغزة نتيجة العدوان الإسرائيلي الوحشي، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية تتداول بلا منازع رواية الجيش فيما يتعلق بمجريات الحرب والعمليات العسكرية.

وبات ما يراه العالم حاليا، يختلف تماما عمّا يراه الجمهور الإسرائيلي الذي لم يعد يرى في الضحايا الفلسطينيين إلا أرقاما مجردة دون إدراك لماهية الألم والمعاناة هناك.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *