القدس المحتلة- تتسمّر المقدسية جيدا خمشتا، أمام شاشة التلفاز على مدار الساعة لمتابعة أخبار الحرب المتواصلة على قطاع غزّة منذ شهرين ونصف الشهر، رافضة فكرة التهيؤ لعيد الميلاد المجيد الذي كانت تنتظر حلوله بشغف كل عام.
لم تنصب هذه السيدة المقدسية ولم تُزيّن شجرة الميلاد في منزلها رغم أن هذا يعدُّ أحد أكثر العادات والطقوس بهجة لهذا العيد وفق تعبيرها، ولأن مسيحيي العالم بشكل عام ومسيحيي فلسطين بشكل خاص ينتظرون حلول عيد ميلاد السيد المسيح -عليه السلام- للاحتفال في مدينة بيت لحم والمشاركة في الصلوات.
لكن الاحتفالات بهتت والتحضيرات اختفت هذا العام، إذ لا تذكر خمشتا أن ساحة كنيسة المهد في بيت لحم لم تتزين يوما بشجرة وحُلّة الميلاد، كما لا تذكر أن حركة الحجاج المسيحيين اندثرت في هذا الوقت من العام بالأراضي المقدسة.
تقول خمشتا “بلدنا حزينة في ذكرى ميلاد المسيح هذا العام وأبناء شعبنا يتعرضون لمجازر، فكيف يمكن لأحد أن يمرر الطقوس بشكل اعتيادي؟ أمنيتي الوحيدة أن يتحقق السلام ونعيش بحرية وأمان كبقية شعوب العالم وأن ينعم أبناؤنا بالطمأنينة والأمن”.
الطقوس الاحتفالية أُلغيت
كما هذه السيدة، لن يستيقظ مسيحيو القدس عامة والبلدة القديمة خاصة صباح الأحد 24 ديسمبر/كانون الأول على وقع الاستعراض الكشفي، الذي يُنظم كل عام قُبيل مغادرة موكب البطريرك الذي يقود قُداس الميلاد بكنيسة المهد في بيت لحم خارجا من بطريركية اللاتين في البلدة القديمة بالقدس.
وبمناسبة عيد الميلاد تُقيم الفرق الكشفية في القدس استعراضين رئيسيين عادة، يُنظم الأول بالتزامن مع إضاءة شجرة الميلاد داخل البلدة القديمة وبالتحديد قرب “الباب الجديد”، بينما ينظم الآخر صباح 24 ديسمبر/كانون الأول كل عام.
قائد مجموعة كشافة الكاثوليك العرب إلياس حبش، قال للجزيرة نت إن هذه المجموعة الكشفية التي تضم 250 فردا بين طفل وبالغ لم تتلقَّ تدريباتها الخاصة باحتفالات الميلاد المجيد لأول مرة منذ سنوات طويلة.
“في هذا الوقت من العام نكون في قمة الضغط ونتدرب بشكل يومي ولساعات طويلة، لكن كل ذلك اندثر هذا العام ولا يؤلمنا هذا بقدر ما يؤلمنا الوضع الذي تمر به البلاد والذي غيّر كل شيء كليا”، أضاف حبش.
وأكد أن كشافة الكاثوليك العرب التي يقع مقرها في البلدة القديمة للقدس مستمرة في نشاطاتها الكشفية والتطوعية، لكنها أوقفت كافة نشاطاتها الاستعراضية والترفيهية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هل تُدفن الحرب؟
لم يخفت صوت التدريبات الكشفية في القدس فحسب، بل خفت صوت أغاني الميلاد المجيد التي تصدح من شرفات منازل المسيحيين في هذا الوقت من العام، واقتصرت على ترنيمة واحدة هي “ليلة الميلاد يُمحى البغض.. ليلة الميلاد تُزهر الأرض.. ليلة الميلاد تُدفن الحرب.. ليلة الميلاد ينبت الحب”.
لكن الحرب لم تُدفن بعد وضجيجها يطغى على كل صوت منذ أسابيع طويلة، ولذلك يقتصر العيد هذا العام وفقا للمطران سهيل دوّاني، رئيس المجمع الكنسي للكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في القدس سابقا، على الطقوس الدينية فقط.
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد دوّاني أن الصلاة هذا العام ستكون من أجل كل المتألمين وأولئك الذين يواجهون القتل والعنف، مضيفا أن رسالة الميلاد هي دائما رسالة المحبة والسلام، وستصدح ألسنة المؤمنين في الكنائس بالترانيم والتأملات من أجل ذلك.
أما منسق مكتب مجلس الكنائس العالمي في القدس يوسف ضاهر، فقال للجزيرة نت إن نحو 9 آلاف مسيحي في القدس نصفهم يسكنون في البلدة القديمة لم يبتهجوا بحلول أعياد الميلاد المجيدة في ظل حالة الحزن التي تُخيّم على البلاد.
وكما لم يحتفل هؤلاء، لم يصل السيّاح إلى مدينتي بيت لحم والقدس للاستمتاع بأجواء الفرح من جهة والروحانيات التي تطغى على قدّاس منتصف الليل الخاص بهذا العيد من جهة أخرى، وفقا لضاهر.
بيت لحم
وتعتبر مدينة بيت لحم وجهة المسيحيين الفلسطينيين في هذا الوقت من العام، إذ يتوجهون إليها قبل وأثناء وبعد العيد، لكنها هذا العام كما سائر مدن الضفة الغربية منذ اندلاع الحرب أُغلقت كافة مداخلها سوى مدخل واحد يقضي الفلسطينيون ساعات طويلة في محاولة المرور منه.
وأطلقت “لجنة العدل والسلام” في مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة رسالة الميلاد لهذا العام وجاء فيها “نشعر -نحن المسيحيين- بتضامننا مع كل الذين يتألمون في الحرب، وبقي عيد الميلاد عيدا للصلاة من أجل المعذبين، وللتأمل في المعنى العميق للعيد”.
وتابعت “نسير في هذه السنة نحو المغارة (في كنيسة المهد ببيت لحم) لنصلي، ونطلب الفرح الذي وعدنا به الله.. نحن شعب الأمل، وضعنا رجاءنا في الله وفي ميلاد أمير السلام، ونحن أكيدون أننا لسنا ولن نكون أبدا وحدنا ونعرف أن الله اختار أرضنا، ليبدّدَ ظلماتنا”.
وجاء في ختام رسالة الميلاد “نسأل كل الذين يحتفلون بعيد الميلاد في العالم كله أن صَلُّوا معنا.. صلوا من أجل السلام في بيت لحم وفي غزة وفي كل الأرض المقدسة، نصلّي معا من أجل توقف أعمال العنف، ومن أجل تحرير جميع الأسرى، ومن أجل وقف إطلاق نار دائم”.
بعد نحو أسبوعين سيسدل الستار على أعياد الميلاد لهذا العام، ويتساءل المسيحيون ما إذا كان سيحمل نهاية أيضا للحرب المستمرة على غزة، وعلى الانتهاكات التي يتعرض لها المسيحيون في القدس وعلى رأسهم رجال الدين من قِبل المستوطنين.