طولكرم- بالصبر تحارب مصابها المتكرر، لكن رغم جلَدها وبأسها الشديد، فإن أمينة غنَّام (أم عبد اللطيف) تبقى أمّا يرق قلبها وتحن لمن فقدت من أبنائها الشهداء، فهم ليسوا واحدا أو اثنين، بل 4 قُتلوا خلال 6 أشهر، وخامسهم توفي كمدا على أشقائه وهو يصارع مرض السرطان.
عامر (42 عاما) وأحمد (27 عاما) وسليم (29 عاما) ومحمود (23 عاما) هم أبناء الحاجة أمينة الذين قتلهم الاحتلال باستهدافهم مباشرة بصواريخه ورصاصه قصفا وقنصا خلال اجتياحاته المتكررة والمتصاعدة لمخيم نور شمس قرب مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية في الشهور الستة الماضية، فاستشهد اثنان بداية، ليلتحق بهما الآخران بعد حوالي 6 أشهر.
لم يكن سهلا على الأم أمينة والأب فيصل غنام، أن يسردا مجددا للجزيرة نت -التي التقتهم داخل منزلهم في المخيم- حكاية الاستشهاد والفقد المتجدد، فأعادا حديثا تداولوه كثيرا بعد أن عاد الاحتلال ونكأ جروحهم بقتل اثنين من أبنائهما الأسبوع الماضي.
استهدفوا قصفا وقنصا
في 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وخلال ثاني اجتياح إسرائيلي لمخيم نور شمس بعد بدء الحرب على غزة، استشهد الأخوان عامر وأحمد غنام بقصف صاروخي إسرائيلي استهدف عددا من شباب المخيم كانوا يتجمعون في حي المنشية قرب منزل عائلة غنام، فاستشهد عامر على الفور، بينما أصيب أحمد بحوالي 70 شظية، وظل ينزف حتى استشهد.
نُقل عامر وأحمد وشهداء آخرون إلى مسجد أبو بكر الصديق وسط المخيم، حيث لم يتسنّ للأهالي دفنهم بفعل مواصلة الاحتلال عمليته العسكرية، ومع ذلك اقتحم الجنود المسجد وأطلقوا رصاصهم على الشهداء المضرجين بدمائهم ليتأكدوا من قتلهم.
وفي التاريخ ذاته، الـ19، لكن من شهر أبريل/نيسان الجاري، وبعد 6 أشهر بالضبط، أعاد الاحتلال السيناريو ثانية وقتل سليم، بعد أن قنصه جندي داخل منزله، وظل مضرجا بدمائه وملقى على الأرض أمام والديه لأكثر من 7 ساعات.
وفي اليوم التالي قتل جنود الاحتلال شقيقه محمود في ساحة المخيم، رفقة شبان آخرين حاولوا الفرار بأرواحهم، بعدما أطبق جيش الاحتلال حصاره على المخيم، وصعَّد فيه تقتيلا وتدميرا.
ووُصفت العملية العسكرية الأخيرة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي مساء الخميس الماضي على مخيم نور شمس، واستمرت أكثر من 50 ساعة، بالأكثر عنفا ودمارا من بين أكثر من 20 عملية نفذها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكان حصيلة الهجوم الأخير 14 شهيدا من أصل 40 ارتقوا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
اللحظات الأخيرة
وبما علق في ذاكراتها من قصص ومواقف عاشتها مع أبنائها الشهداء، وعبر تحسس صورهم وملابسهم التي لا تزال تحتفظ بها وكأنهم لم يرحلوا، تواسي أمينة نفسها وتصبرها على مُر الفراق.
تصف أمينة اللحظات الأخيرة لابنيها عامر وأحمد قبل استشهادهما أنهما كانا بحالة فرح شديد، وتقول “لم أجد لها تفسيرا حتى الآن، ولم يكترثا لسماع طائرة الاستطلاع (الزنانة) فوق المخيم”.
وتضيف أن المشهد ذاته عاشته مع سليم قبل استشهاده بلحظات، حيث طلب منها أن لا تغادر المنزل خشية أن تُصاب برصاص الاحتلال. وقال لها “نريدك يا أمي”، كما دخل غرفة شقيقته الأرملة وسلم عليها واحتضنها، وطلب من والديه أن يعتنيا بها وبأطفالها.
وإلى حارة المنشية التي صار اسمها “حارة الشهداء”، حيث تقطن عائلة غنَّام، تتقاطر النسوة من داخل المخيم وخارجه لتقديم واجب العزاء أو “التهنئة بالاستشهاد” كما يصِفنها.
وتقول الأم المكلومة “تهنئني النساء بكلمة ألف مبارك، وهذا يفرحني ويشعرني بالفخر، وافتخر أكثر بأنهم صاروا يسمونني أم الشهداء وخنساء طولكرم”. وتضيف “أولادي عطاء وهدية من الله لي، ومن أعطاني إياهم أخذهم، والصبر عند وقع البلاء أعظم، وما صبرني أنهم رحلوا بشرف وعزة وكرامة”.
أحزان متراكمة
هُجرت عائلة غنام في نكبة فلسطين عام 1948 من قريتها عين غزال قرب حيفا، إلى منطقة جنزور قرب مدينة جنين شمال الضفة الغربية، لتنزح ثانية وبعد سنوات إلى مخيم نور شمس الذي استقرت به على أمل العودة.
تزوجت أمينة في المخيم، وأنجبت 12 ابنا (8 ذكور و4 إناث)، وعاشت متحملة كل ظروف البؤس في تربيتهم، إلى أن غدوا رجالا وشهداء، فتعددت المسميات والألقاب التي أطلقت على أم عبد اللطيف عبر مواقع التواصل، بين “خنساء فلسطين” و”خنساء نور شمس” و “خنساء طولكرم”.
ومثل زوجته، يصبّر الحاج فيصل غنَّام والد الشهداء نفسه بمناقبهم وأخلاقهم الحميدة، وبمعاملتهم الطيبة وحب الناس لهم، وبرضاه عنهم، ويقول للجزيرة نت إن أبناءه رحلوا على يدي عدو ظالم لم يكتفِ بقتلهم، بل راح يحرض عليهم وعلى العائلة وأمهم تحديدا.
يقف أبو العبد، كما يُكنى في الحي، وسط منزله مستقبلا المعزين بكبرياء وصبر، ويسرد لحظة قنص جنود الاحتلال نجله سليم داخل البيت وبين أطفاله الثلاث دون ذنب، وكيف جلس هو وزوجته يحتضناه لساعات، حيث كان الاحتلال يواصل عمليته العسكرية ويرفض السماح لهم وللطواقم الطبية بالدخول للمخيم.
“الفقد صعب جدا وأشد ألما”، حسبما يصف محمد شقيق الشهداء الخمسة. وقال إن وقع المصيبة عليهم كعائلة كبير ولا يمكن تخيله، ويضيف “هم رفاقي قبل أن يكونوا أشقائي، ولكننا نستشعر عظمة الله عز وجل في فقدهم، وندرك أن إخوتي ذخر لنا”.