الصدمة والرعب في شمال غزة.. قصص يشيب لها الولدان

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

منذ السادس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اقترن هجوم الجيش الإسرائيلي البري على شمال غزة بحصار منيع وغارات جوية مستمرة، مما أدى إلى تجويع السكان، ومنع فرق الإنقاذ والعاملين في مجال الرعاية الصحية من القيام بوظائفهم، ليفر أكثر من نصف سكان المنطقة البالغ عددهم 200 ألف نسمة، إلا أن نحو 75 ألف شخص لا يزالون هناك حسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).

وفي هذا السياق، قال موقع إنترسبت إن الجيش الإسرائيلي غزا جباليا مرتين منذ أن بدأت الحرب على قطاع غزة قبل أكثر من عام، ونقل -في تقرير موسع بقلم أحمد السماك- 4 قصص من المعاناة خلال الغزو الثاني، بدأها بقصة يحيى قاسم (28 عاما) الذي كان يتناول عشاء من الحمص المعلب مع عائلته عندما اخترق صوت الغارات الجوية الإسرائيلية الهواء، في سلسلة من أحزمة النار الصاخبة.

كانت تلك الليلة بداية هجوم الأرض المحروقة الذي شنته إسرائيل على شمال غزة، فيما يسمى خطة الجنرالات لمحاربة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع تطهير المنطقة من سكانها، وكانت عائلة قاسم قلقة من دخول القوات الإسرائيلية بلدتهم جباليا، فأطل قاسم من النافذة ليرى ما يحدث، وعاد يهدئهم قائلا “لم يبق لهم مكان ليدخلوه”.

فرت عشرات العائلات على الفور من جباليا، وتساءل قاسم في الموقع مؤخرا، وكان صوت قصف إحدى الطائرات مسموعا في الخلفية “ما الذي بقي لهم ليدمروه؟”، وأضاف “كان الناس يركضون حفاة، وكان الرعب واضحا على وجوههم”.

اختار البقاء

بقيت عائلة قاسم في مكانها في البداية، ولكن مع مرور الأيام وتزايد قوة القصف، ذهب شقيقه المعاق ووالدته وأخواته إلى منزل أحد أقاربه في مدينة غزة، على بعد حوالي 3 أميال إلى الجنوب، ولكن قاسم اختار البقاء، رغم أنهم فقدوا أحد أفراد الأسرة، وهو شقيقه التوأم في أبريل/نيسان الماضي.

وقال محامي القانون الدولي يحيى محارب “إن تنفيذ ما يسمى بخطة الجنرالات، وجميع تصرفات الجيش الإسرائيلي في شمال غزة يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي تمثل انتهاكات جسيمة للحماية القانونية والإنسانية للمدنيين والمستشفيات والملاجئ والفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال”.

وذكر محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، أن الجيش الإسرائيلي قتل ما لا يقل عن 1800 فلسطيني وبث رسالة صوتية تأمر فرق الإنقاذ بإخلاء المنطقة، مما أدى إلى بقاء عدد لا يحصى من الناس تحت الأنقاض أو في الشوارع التي لا تستطيع طواقم الدفاع المدني الوصول إليها.

ويقول حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان “ليس لدينا حتى سيارة إسعاف واحدة لنقل المصابين من مواقع الكارثة”، وروى للموقع كيف تلقى نداءات استغاثة من أشخاص محاصرين تحت الأنقاض من غير إمكان إرسال عمال الطوارئ لمساعدتهم، وقد أصيب هو نفسه، ولكنه يرفض مغادرة مستشفاه لمواصلة رعاية من بقوا هناك.

انفصال أسرة

بعد قصف منزل أمل المصري تحدت أسرتها الأوامر الإسرائيلية بالانتقال إلى الجنوب، وانتقلت بين الملاجئ المؤقتة، وعندما اكتشفت أنها حامل في شهرها الثالث، كانت الحرب المستعرة من حولهم قد جعلت من المستحيل تقريبا على أمل المصري (30 عاما) الحصول على رعاية ما قبل الولادة، ناهيك عن الحصول على العناصر الغذائية التي تحتاجها لرعاية نفسها والطفل الذي ينمو بداخلها.

في اليوم التالي للولادة، بدأ الجيش الإسرائيلي قصف المنطقة بكثافة مرة أخرى، وشن غزوا بريا وحاصر لمدة 3 أيام 4 مدارس كانت تؤوي النازحين، وفي اليوم الرابع جمع الناس في مدرسة واحدة، وفصل الرجال عن النساء، ثم أجبر النساء والأطفال على إخلاء المنطقة.

قالت المصري “خرجت ورأيت حوالي 30 رجلا مقيدين خلف ظهورهم وقد عصبت أعينهم، وصاحت ابنتي “ماما بابا هناك”. رأيته لكنني لم أستطع التلويح له. صاح جندي في وجهي لأخفض يدي، لذا خفضت يدي”، وحاولت ابنتها الاقتراب من والدها، لكن الجندي رفع مسدسه وقال “ارجعي”، وعادت الفتاة تبكي.

في اليوم الرابع تلقت أمل المصري مكالمة تخبرها أن زوجها يوسف المصري أصيب وأنه في المستشفى الأهلي في مدينة غزة، تقول “لم أصدق أنه على قيد الحياة حتى اتصل بي”، وقالت “قتلت إسرائيل معظم المعتقلين. استخدموا زوجي درعا بشرية”، وقد قرر الزوجان تسمية ابنتهما صمود.

الصلاة الختامية

خلال العام الأول من الحرب، ورغم 5 نوبات من النزوح، صمد رامز أبو ناصر وعائلته في شمال غزة، ولكن مع تكثيف الهجمات الإسرائيلية هذا الخريف، قرروا في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول أن البقاء أصبح خطيرا للغاية، وكانوا محظوظين بالعثور على شقة في مبنى لأحد أقاربهم في مدينة غزة.

وبعد أسبوع، صلوا معا قبل النوم كما يفعلون دائما، وكانت تلك آخر مرة يفعلون فيها ذلك، قال أبو ناصر لموقع إنترسبت “استيقظت في الساعة الثانية صباحا مغطى بالأنقاض. فتحت عيني ورأيت النار في كل مكان، لذلك أغمضتهما مرة أخرى، وفي تلك اللحظة بدأت أكرر الشهادتين”.

أبو ناصر: تذكرت أن أمي وأبي كانا في غرفة أخرى، خرجت من المنزل من خلال فتحة صغيرة في الحائط، ودخلت من خلال نافذة إلى غرفة والديّ، سمعتهما يصرخان أخرجونا نحن نختنق، لم أستطع فعل أي شيء، كانا تحت متر على الأقل من الأنقاض.. ثم ماتا.

ضربت غارة جوية إسرائيلية مبناهم دون سابق إنذار وحوصرت الأسرة تحت الأنقاض، يقول أبو ناصر “تمكنت من انتشال نفسي وأخي آدم من تحت الأنقاض. قُتل أخي الأصغر رجب على الفور وعلق تحت الأنقاض. كان أخي الآخر حاتم محاصرا. كنت أحفر بيدي وأتوسل إليه أن يمسك”.

ويضيف “تذكرت أن أمي وأبي كانا في غرفة أخرى، خرجت من المنزل من خلال فتحة صغيرة في الحائط، ودخلت من خلال نافذة إلى غرفة والديّ. سمعتهما يصرخان أخرجونا نحن نختنق. لم أستطع فعل أي شيء. كانا تحت متر على الأقل من الأنقاض”.

وصلت طواقم الدفاع المدني ولكنها كانت بلا معدات تقريبا، ومع ذلك عملوا على سحب أفراد العائلة من تحت الأنقاض، فقتل والدا أبو ناصر واثنان من أشقائه وأصيب هو وشقيقان له، وقال “لقد دفناهم في حديقة مؤقتا. كانت جميع المقابر ممتلئة”.

بعد أسابيع قليلة من الهجوم، قصفت إسرائيل منزل عائلة أبو ناصر الممتدة، مما أسفر عن مقتل 117 شخصا، نجا رجل واحد وساعده أبو ناصر في دفن الضحايا، وقال “لا أستطيع ضمان حياتي ولو لدقيقة واحدة”، “لا توجد مستشفيات ولا معدات إنقاذ ولا أحد يهتم بنا. أناشد العالم أن يوقف الحرب”.

الخوف والجوع

كان أحد الأسباب التي دفعت العديد من العائلات إلى البقاء في شمال غزة هو ببساطة عدم وجود مكان آخر يذهبون إليه، وكانت هذه حالة حمزة، وهو شاب من جباليا طلب من الموقع عدم نشر اسمه الأخير خوفا على سلامته، كان جده عطية مريضا ولم يتمكنوا من نقله لأن صوت الدبابات كان قريبا جدا، وكانت المسيرات الإسرائيلية تطلق النار باستمرار على شارعهم، وتوفي عطية فجأة.

قال حمزة “كانت ليلة من القصف المجنون بلا هوادة. اعتاد جدي أن يقول أنا خائف جدا من القصف. بكينا كثيرا. اتصلنا بالإسعاف، لكنهم أخبرونا أن المنطقة خطيرة للغاية، والجيش الإسرائيلي لا يسمح لهم بالعمل فيها”.

كانت مغادرة المنزل لدفن عطية في المقبرة غاية في الخطورة، لذلك “كان الخيار الوحيد هو دفنه تحت درج المنزل -كما روى حمزة- حفرت أنا وأخي حفرة في منزلنا ودفناه هناك”، وفي اليوم التالي قررت العائلة الرحيل إلى مدينة غزة، وسافروا بشكل منفصل حتى إذا قُتل بعضهم ينجو الآخرون”.

كان حمزة أول من غادر وسار عبر الشوارع الضيقة ووصل في النهاية إلى منزل قريبه في مدينة غزة، وظلت أسرته محاصرة، ولكنها تمكنت في النهاية من الفرار، وعبرت نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية تفصل مدينة غزة عن الشمال، ورغم اجتماع شملهم، بقيت ذكرى الجد تعاودهم، وقال حمزة “مات جدي خائفا وجائعا. كان أكبر سنا من إسرائيل نفسها. لقد شهد النكبة. أخبرنا أن هذه الحرب كانت أسوأ وأكثر وحشية من النكبة”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *