السبت اللاهب.. 50 عاما بين اقتحام بارليف وجدار غزة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

كان يوم سبتهم، تأتيهم حيتانهم شُرّعا، يقيمون صلوات الهيكل، تهتز الرؤوس تحت القبعات الصغيرة، غير أن سبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان على غير ما توقع اليهود.

عَمِيت عليهم الأنباء فهم لا يتساءلون ولا يترقبون هذا الحجم الكبير من الدمار، أما في غزة فقد أبرم الأمر بليل، وقررت كتائب القسام أن تقتحم “الجدار الحصين”، ليعبر اللظى إلى المستوطنات الغافية.

خرج القوم لا يلوون على شيء، كانت ملابس النوم تشي بالمباغتة، ومن الكبار من سحب من غرفة نومه، ليجد نفسه يقتاد إلى غرف مظلمة قد يطول فيها انتظاره.

وبين عبور جدار غزة واقتحام خط بارليف 50 عاما، شابت فيها رؤوس المشاركين في العاشر من رمضان وانحنت كثيرا ظهور من بقي منهم قبل أن يسمعوا عن عملية عسكرية مشابهة تذكرهم بتلك الأيام التي طمرتها عقود السلام والتطبيع.

وقد باينت الأيام والسنون الـ50 الفاصلة بين الحدثين الراسخين في الذاكرة العربية، ولكن وحدت بينهما مشتركات من بينها العدو الموحد، والإقدام الأسطوري، فبين الحدثين واليومين أرحام موصولة وأوجه شبه تنتفض بين التفاصيل ومن تحت لألاء اللهيب. ومن أوجه التشابه تلك:

تدمير أسطورة الجدار

كان الجدار في الحادثتين عاملا مشتركا، وكان حجم التهويل من خطورة وقوة هذا الجدار وكونه غير قابل للاختراق جزءا من الحرب النفسية التي طالما مارسها الإسرائيليون ضد خصومهم العرب. كان جدار بارليف قويا للغاية كلف إسرائيل 500 مليون دولار من أجل بنائه، قبل أن تتبلور فكرة إذابته لدى البطل المصري المهندس اللواء باقي زكي يوسف الذي اقترح إذابة الساتر الرملي للجدار من خلال مضخات المياه، وهكذا انطلقت نوافير المياه برشاقة الطوفان لتدمر أجزاء مهمة من الجدار، ولتزرع القذائف بعد ذلك أكثر من 80 فرجة مكنت الجيش المصري من إحراز أهم نصر في تاريخ المواجهة بين العرب والإسرائيليين.

حمل الحصن اسم القائد العسكري حاييم بارليف، وامتد 12 كيلومترا داخل جزيرة سيناء، وعلى جوانبه أقيم 22 موقعا دفاعيا بطول 170 كيلومترا على طول قناة السويس، إضافة إلى منصات لإطلاق الصواريخ ومرابض للدبابات، ومحطات اتصال لاسلكي.

أما الجدار الذكي فيمتد على طول 65 كيلومترا على طول غزة، وينتهي إلى البحر منعا للمقاومة من حفر أنفاق تحت الماء، بينما يرتفع إلى 10 أمتار، ويمتد عمقا لأكثر من 25 مترا تحت الأرض، واكتسب الجدار صفة “الذكاء” من حجم الرقابة التقنية المحيطة به من كاميرات ومجسات وأجهزة تحسس، وقد كلف الجدار إسرائيل أكثر من مليار دولار، واستغرق تشييده 3 سنوات، لكنه نال مثلما نال جدار بارليف، وكسرته سواعد قوية زرعت الموت في قرى غلاف غزة، وأخرجتهم من بيوتهم في رعب مرير.

إحدى الثغرات التي فتحها المقاومون في جدار غزة (الجزيرة)

المباغتة سر الانتصار

أخذ عنصر المباغتة جزءا أساسيا من تحطيم القوة الإسرائيلية، ففيما كان الجنود الإسرائيليون في بارليف مستمتعين بعيد الغفران عام 1973، دوى الرصاص المصري والسوري من كل حدب، وترامى القتلى والأسرى وبقيت إسرائيل في دهشة استمرت 6 أيام قبل أن يتدخل الدعم العسكري الأميركي لإقامة جسر جوي يمنع من توسيع النصر العربي.

أما في حالة السابع من أكتوبر فقد كانت المباغتة جزءا من خطة الدفاع، حيث أعطت حماس الانطباع لإسرائيل بأنها غير راغبة في موجة جديدة من القتال، أما تل أبيب فقد كانت غارقة في نوم ثقيل من الاطمئنان العسكري، قبل أن يحرق الفجر اللاهب حالة الأمن المزيفة.

أعياد الغفران والعرش

جمع السبت الحارق أيضا بين الحدثين، فقد كان في بارليف أول أيام عيد الغفران (الكيبور) أقدس أعياد اليهود، أما في الفجر الغزاوي فقد كان آخر أيام عيد العُرش الأثيرة أيضا عند اليهود.

وكما كان البعد الديني أيضا حاضرا لدى المصريين والفلسطينيين، حيث كانت التكبيرة شعار مقتحمي خط بارليف، وكانت الصدى نفسه شعارا لمقتحمي الجدار الذكي، ليكون الدين عنصرا أساسيا في صناعة النصر وتجرع سطوة الهزيمة.

وكما دوى التكبير على الجبهات عند اقتحام الجدارين، فقد دوت زغاريد النصر والاحتفاء في عدد من العواصم العربية احتفالا بالانتصار الذي يأتي في سياق مستمر من الهزائم.

ولأن جمع السبت بين الحدثين، فقد كان شهر أكتوبر/تشرين الأول وعاء زمنيا للحدثين، حيث جرى اقتحام بارليف في السادس، بينما جرى عبور سياج غزة في السابع من الشهر ذاته.

حجم القتلى والأسرى

لم يستقر بعد عداد القتلى والجرحى والأسرى الإسرائيليين في هجوم غزة، ولكنه لا يستبعد أن يقترب من العدد الذي سقط في حرب عام 73، خصوصا إذا قررت إسرائيل شن حرب برية على القطاع.

ففي حرب 1973 اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل أكثر من 2800 من جنودها وأسر أكثر من 500، في حين لا يزال العدد الإجمالي للقتلى والأسرى الإسرائيليين مجهولا حتى اللحظة في ظل التغير المستمر في الأرقام والحصيلة التي تقدمها الجهات الإسرائيلية الرسمية. أما الفلسطينيون فقد فقدوا لحد الآن قرابة 400 شهيد، وأكثر من ألفي جريح.

الحسرة الإسرائيلية

تجرع الإسرائيليون المرارة، وظهر ذلك في تصريحاتهم وكتاباتهم، فقد كتب إيهود باراك الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء وفق ما نقلت عنه بي بي سي “لقد كانت الوجوه شاحبة كأنما يعلوها التراب، فقد كانت هذه اللحظة هي الأشد قسوة خلال الحرب، وبعد ذلك بدأت القوات الإسرائيلية في دخول المعارك وكسب السيطرة على مساحات من الأراضي، لكن في ذلك اليوم ضاع أثر نصر 67 النفسي وضاع شعور أن الجيش الإسرائيلي لا يهزم”.

وفكرت غولدا مائير في الانتحار بعد أن سقطت هيبة جيشها في الحضيض، وارتفع مؤشر العزة العربي في أصقاع عديدة، عادت الابتسامة إلى الوجوه الشاحبة، ورفع الجيش المصري اللواء عاليا في قلوب وشرايين بلاد العرب.

أما في غزة فقد وصف المحللون الإسرائيليون ما جرى بالهزيمة المذلة لهم، والانتصار الخاطف لحماس.

وتحدث هؤلاء عن حالة الصدمة التي اجتاحت إسرائيل، ومن بينهم المحلل العسكري ألون بن دافيد الذي قال إن “هناك صعوبة في فهم ما حدث، فلم يتوقع أحد في إسرائيل حرب يوم غفران ثانية، وبالذات من غزة”.

فروق متعددة

رغم أوجه التشابه المتعددة، فإن فروقا كثيرة تبرز بين الحدثين الكبيرين.

– ففي اقتحام خط بارليف كانت هنالك خطة عربية موحدة، وجيوش عربية تقاتل جنبا إلى جنب في مواقع قتال متعددة، أما في عبور جدار غزة، فإن كتائب المقاومة في غزة تقاتل لوحدها دون سند، بل تجد نفسها في مواجهة حصارات دولية متعددة. كان العاشر من رمضان حربا بين دول، أما في حالة فلسطين الآن فهي حرب مفتوحة بين تنظيم ومدينة، ودولة من ورائها العالم الغربي كله.

– أضافت المقاومة عنصرا جديدا إلى سلاحها وهو تطوير التقنية، رغم الحصار الشامل منذ قرابة 20 سنة، وكان العنصر الأكثر خصوصية في ذلك الفجر اللاهب هو حجم العملية واتساعها، حيث استقبل سكان قرى وبلدات غلاف غزة، لهب الموت من البر والبحر والجو.

– ضربة لمسار التطبيع: وقد سارع العديد من المحللين والمراقبين إلى التأكيد على أن حدث السابع من أكتوبر، سيلقي بظلاله بقوة على مسار التطبيع مع إسرائيل، حيث يمكن القول إن كثيرا من مبادرات السلام والتطبيع قد سقطت أو أخذت طريق التجميد بسبب المتغير الذي ستفرضه أحداث السابع من أكتوبر دوليا، وما ستجيشه من مشاعر غضب قوية في العالم العربي.

– لم يطل استمتاع المصريين بالنصر، فبعد سنوات قليلة تبادل الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحيم بيغن، كؤوس السلام في كامب ديفد، ليبدأ عهد مصري جديد، أما في الحالة الراهنة، لا يبدو أن السلام مرتقب بين الطرفين، بل لا يبدو أن لغير الرصاص والفجر اللاهب أي دور في صناعة مشهد ما بعد السابع من أكتوبر.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *