كثيرا ما يعتبر السنغاليون وصول رئيسهم الحالي ماكي سال إلى السلطة عام 2012 لحظة فارقة، في تاريخ البلاد، جسدت آمال الشباب الثائر ضد الفساد والاستبداد. ولكن خروجه المتوقع من السراي الرئاسي لن يكون كدخوله إليه محمولا على الأعناق، فصيحات الغضب تمتد مع شوارع العاصمة دكار، ووهج التذمر من تأجيل الرئاسيات ينافس وبقوة وهج 60 سنة من الاستثناء السنغالي في محيط الانقلابات.
وقد استفاد سال من مأموريتين متتاليتين، استغرقتا منه نحو 12 سنة، رافق فيها عددا من رؤساء المنطقة، مستقبلا ومودعا، حيث عاصر رئيسين موريتانيين، واثنين في غامبيا، و4 رؤساء ماليين، و3 في غينيا بيساو، و3 في النيجر، واثنين آخرين في غينيا كوناكري.
وعاصر انتخابات وانقلابات وأزمات في الجوار من حوله، ورأى صديقه الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز يساق إلى السجن، ونظيره الغامبي يحيى جامي يقاد إلى نهاية أسوأ، قبل أن يلحق بهما الغيني ألفا كوندي، و3 رؤساء من مالي، أرغموا قسرا على الخروج من السلطة، ودخلت من بعدهم بلدانهم -غالبا- أتون أزمات وصراعات سياسية وعرقية.
استطاعت السنغال طيلة 60 سنة المنصرمة من عمرها أن تكون استثناء ديمقراطيا، وإن لم تخل من هوامش ملتهبة في حرب انفصالية في إقليم كازا ماسا رافقت نشأة البلاد، واستمرت تخبو تارة وتفور أخرى، فضلا عن الأزمة السياسية والدستورية الحالية التي تثير مخاوف واسعة داخلية وخارجية من أن تعصف بهدوء واستقرار البلاد.
قرن ونصف من الانتخابات
يملك المجتمع السنغالي بنية تنظيمية تقليدية، ورثها من عهود الممالك والزعامات المحلية، وإذا كانت الدكتاتورية والعسف هو الأسلوب الذي كان سائدا في إدارة العلاقة بين الزعماء والأتباع، وفق ما تقدمه الأدبيات العربية والغربية تجاه مجتمع الزنوج، إلا أنها أكسبته بنية تنظيمية مستمرة، ومستقرة.
وعلى هذه البنية الاجتماعية القابلة للتنظيم والقيادة، أسس الفرنسيون أول محاولات البناء الديمقراطي تحت ظل سلطة استعمارية “غريبة الوجه واللسان” حينما بدأت أول انتخابات بلدية سنة 1864، بتحديد 4 بلديات لا أكثر في عموم البلاد: دكار، وغوري، وريفسك، وسانت لويس.
كما أن السنغاليين انتخبوا نوابا محليين ونائبا بالبرلمان الفرنسي منذ عام 1946، شأنهم في ذلك شأن سكان المستعمرات الفرنسية بشكل عام، وكانوا أيضا ضمن الشعوب التي اختارت ” نعم” للبقاء تحت سيادة باريس، التي سرعان ما انزاحت -اسميا على الأقل- سنة 1960 باستقلال البلاد واختيار برلمان جديد تمهيدا لانتخاب رئيس للجمهورية، لتسير دفة الأيام في يد السياسي والأديب ليوبولد سيدار سنغورالمنتمي إلى أقلية دينية وعرقية هما مجموعة الماندينغ.
من سنغور إلى سال
أحكم سنغور قبضته على السلطة والفكر والثقافة في السنغال، وأعاد تشكيل الهوية العامة في هذا البلد ذي الأغلبية المسلمة، حيث استطاع طيلة حكمه الذي استمر 18 سنة قيادة السلطة والمجتمع بنفس أحادي، وثقافة الحزب الواحد من خلال حزب الاتحاد القومي الذي تأسس سنة 1958، قبل أن يتغير اسمه إلى الحزب الاشتراكي سنة 1976، معتمدا شعار منظمة الاشتراكية الأممية، وذلك ضمن مسار لإقرار التعددية السياسية وإنهاء نظام الحزب الواحد.
ولاحقا شهدت السنغال أول انتخابات تعددية في تاريخها، خلال العام 1978، واجه فيها سنغور، السياسي المعارض عبد الله، والذي سيتولى السلطة فيما بعد، ولكن سنغور فاز بأكثر من 80% من الأصوات على غريمه عبد الله واد.
وطوال فترة حكمه، كان سنغور الرجل القوي الذي يختار فريقه ويفرض رؤيته، كان يحاول دائما الظهور للسنغاليين بمظهر الأب المؤسس والمفكر الموجه، ساعيا إلى أن يتحملوا قبضته القوية بروح الأبوة، وأن يتحملوا أحاديته السياسية بروح المفكر والمثقف الذي دخل في كل التفاصيل، وواصلت كلماته عبر النشيد الوطني “الأسد الأحمر” الخلود في ذاكرة السنغاليين.
ولم يخل حكم سنغور من فترات صعبة، خصوصا عندما اصطدم بوزيره الأول مامادو جا، مع 4 وزراء آخرين هم فالديو ندياي وإبراهيما سار وجوزيف ماباي وعلوي تول. وبينما لم يطلب الادعاء العام أي عقوبة، فإن المحكمة قضت بـ20 سنة نافذة على المتهمين الذين لم يفرج عنهم إلا سنة 1974، بعد أن أمضوا 12 سنة كاملة في سجن كيديجاواي السيئ الصيت، ولم يقبل سنغور شفاعة الشخصيات العالمية الكبيرة مثل المفكر اليساري الكبير جان بول سارتر، ولا الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران وعشرات آخرين.
وخلال تلك السنوات المريرة، كانت للسياسة لون ووجه ولسان واحد، ولأن الزمن سريع كان سنغور يستعد لخروج آمن بعد محاولة اغتيال سنة 1974، ليبدأ بعد ذلك مسار الانتقال الدستوري، حيث تولى خلافته تلميذه الذكي ذو القامة الفارعة عبدو ضيوف.
وكان مقررا أن يكمل ضيوف ما تبقى من مأمورية سنغور، قبل أن يفتح الباب لانتخابات رئاسية. أما سنغور نفسه، فكان يرى أن تلميذه النجيب لن يكمل المأمورية فقط، بل سيواصل تقمص السنغورية نظرية في الحكم وإدارة العلاقة.
ولم تكن سنوات ضيوف الـ24 قاسية على إهاب الديمقراطية السنغالية الشابة، إلا أنها كانت قاسية في ظروفها الاقتصادية، وفي حجم الأزمات التي واجهها الرجل داخليا وخارجيا، ولكنها في النهاية كانت الأساس الذي قامت عليه الديمقراطية السنغالية بعد ذلك حينما فتح الباب أمام القوى السياسية والنقابية لتعبر عن نفسها بوضوح أكثر.
وخلال هذه الفترة عاد إلى البلاد عدد من السياسيين المهاجرين خارجها بسبب سنوات السخونة السنغورية، واستمر الرجل يدير مساراته السياسية إلى حين انتخابه رئيسا لمأمورية ثانية سنة 1988، حينما وصلت الأزمة السياسية بين النظام وخصومه، وخصوصا منافسه العنيد عبد الله واد.
وفي هذه الأثناء التي تفاقمت فيها الأوضاع الاقتصادية والأزمة السياسية، وتم فرض حالة الطوارئ وحل قطاع الشرطة، نشبت أيضا أزمة عرقية عميقة بين موريتانيا والسنغال، وراح ضحيتها مئات القتلى وعشرات آلاف المشردين من البلدين، لتنطبع ضفتا نهر السنغال بواحدة من أبشع قصص العابرين، بعد أن كانت الضفاف تقرأ تقاسيم الحياة في صفوف العابرين وتنشد “ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”.
وانتهت سلطة ضيوف مع نهاية القرن بعد هزيمته في الشوط الثاني على يد منافسه عبد الله واد، الذي شهدت في عهده السنغال تحولا هائلا في مسارها الاقتصادي، تأسيسا على بساط من الحراك الديمقراطي الصاخب، التي انتهى بإسقاط مشروعه للبقاء أطول ما يمكن في السلطة، حيث وقف رفيقه في السلطة سال حجر عثرة في طريق “غوركي” أو العجوز كما يسميه السنغاليون.
ومن الكأس نفسها شرب سال، حينما أرغمته الجماهير بقوة على التخلي عن مشروع المأمورية الثالثة، ولا تبدو الطريق سالكة جدا أمام خليفته الوزير الأول الحالي آمادو با، وتأتي هذه الانتخابات بعد أن حسم الشارع السنغالي “المطامع” غير المصرح بها للرئيس سال بشأن الاستمرار في السلطة لمأمورية ثالثة.
ولكن خصوصية هذه الانتخابات تأتي في غياب زعيم المعارضة عثمان سونكو، عن سباق الترشح، بحكم قضائي من المحكمة العليا التي أصبحت أداة بيد السلطة وفق أنصار سونكو.
وطوال حكم سال الممتد إلى قرابة 11 سنة، فإن عددا كبيرا من خصومه وجدوا أنفسهم في مواجهة القضاء، والسجن المؤلم، مثلما حصل مع نجل الرئيس السابق كريم واد، وعمدة دكار المنافس الحالي في الانتخابات إدريس سك، زيادة على الرجل الأكثر إثارة للجدل في الإعلام المحلي سونكو.
الأسد الديمقراطي.. الجيش والدين والأحزاب
وفي غضون تلك المسيرة الطويلة من السير الصاخب نحو الديمقراطية في فضاء أفريقي ملتهب بالانقلابات، يمكن القول إن التداول السلمي للسلطة في السنغال كان هو الآخر “الأسد الأحمر” الذي يقف على 3 قوائم أساسية هي:
– تقليم أظافر الجيش وتمدينه: كان ذلك أحد أهم أسباب خصوصية التجربة الديمقراطية في السنغال، والتي استقر فيها الحكم المدني طيلة 63 سنة.
وباستثناء المحاولة الانقلابية التي اتهم فيها الوزير الأول الأسبق ممادو ديا، سنة 1962، وأدت إلى اعتقاله 12 سنة، فإن الجيش السنغالي قد ظل خارج التداول السياسي، ويعود ذلك أساسا إلى “وضوح مهام الجيش” وفق تعبير العقيد تالا نينيغ القائد المساعد السابق للأركان.
ولا يمكن الحديث عن تقليم أظافر الجيش دون الرجوع إلى الدور الفرنسي العميق في صناعة المشهد السياسي في السنغال، وقد كانت القواعد الفرنسية، المقيمة في هذه البلاد طيلة 40 سنة من الاستقلال، جزءا أساسيا من تثبيت الأنظمة، إضافة إلى تجذر الوعي في النخبة السياسية والمجتمعية، وهو ما حد من شهوة التنازع على السلطة، ينضاف إلى ذلك أن السنغال تملك تقاليد عريقة في الاستقرار أو ما يمكن اعتباره “زمنا عريقا” من المدنية.
– قوة الأحزاب السياسية وعراقتها: حيث يمتد الزمن ببعض الأحزاب السياسية إلى عمر نضالي يزيد على 80 سنة، ولا يجد السنغاليون صعوبة في تشكيل الأحزاب، وإنما الصعوبة الفعلية في إقناع الشارع، ومع ذلك فإن أكثر من 120 حزبا سياسيا وجماعة حقوقية ومدنية استطاعت السنة المنصرمة إقامة تحالف قوي ضد الرئيس الحالي، كما عاد التحالف من جديد بين أقطاب المعارضة، مما مكنها من خفض تمثيل التحالف الرئاسي من 120 إلى 85 نائبا، في مواجهة 80 نائبا من القوى المعارضة، مما أعاد توازن القوى في البرلمان.
ويوجد في السنغال قرابة 300 حزب سياسي وهو عدد هائل جدا يمكن دائما من تفتيت القوة السياسية المطلقة، ومن تحريك التحالفات والصراع بشكل دائم، ويمنع الحياة السياسية مزيدا من النشاط.
– دور الطرق الصوفية: التي تمثل ركنا أساسيا في استقرار السنغال، وكثيرا ما وقفت هذه الطرق سدا منيعا دون الاحتراب الأهلي الذي عاشته بلدان أفريقية عديدة، ولا بد أن يعبر الرؤساء والمرشحون للرئاسة عن مستوى من التقدير والإكبار لشيوخ التصوف، وكما يسهم هؤلاء في إدارة الشأن الديني بالسنغال، فإنهم أيضا جزء أساسي من حالة الاستقرار، حيث يدين أتباعهم بولاء مطلق -في الغالب- وهو ما يمكنهم من امتصاص كثير من ردات الفعل، وخضد أشواك العنف المجتمعي بشكل دائم.
– مجتمع مدني فعال: أسهم المجتمع المدني والنقابات والفعاليات الشبابية والطلاب منذ فترة طويلة في ترسيخ التداول السلمي وفي التصدي للطغيان العسكري، وهكذا كان لهذه المؤسسات دور كبير في الوصول إلى التعددية السياسية نهاية السبعينيات، كما كان دورهم أساسيا وفعالا في الإطاحة بالرؤساء الثلاثة المتعاقبين على البلاد منذ رحيل سنغور، من خلال الوقوف الدائم في وجه الرئاسة المطلقة، كما حدث مع الرئيس ضيوف، أو بقطع الطريق أمام حلم المأمورية الثالثة الذي سعى إليه كل من واد، والمنتهية ولايته سال.
وقد مثلت حركة “دفا دوي” -التي تعني كفاية بالعربية وتأسست عام 2011- دورا أساسيا في تجييش الشارع السنغالي ضد الرئيسين السابق والحالي، مما أعاد القوة والفعالية للقوى المعارضة التي ارتكزت خلال السنوات الأخيرة على قوة الشباب غير المتحزب.
كما لعبت في الفترة الأخيرة عدد من تنسيقيات المجتمع المدني السنغالي الأخرى أدوارا بارزة في المواجهة مع السلطة، ومن أقواها وأنشطها تنسيقية “إف 24” (F24).
وبين تلك الأضلاع الثلاثة، يعيش السنغاليون ديمقراطية قوية وصاخبة، ذات صراعات عميقة ومستمرة، كما يملكون قدرة هائلة على إدارة هذا الصراع، وعلى استلال فتائل الأزمات عبر القضاء والانتخابات، أو عبر المصالحات التي يشرف عليها غالبا قادة الطرق الصوفية.
ودون غيرهم من مواطني دول القارة الأفريقية، يفتخر السنغاليون بأنهم “الناجي الوحيد” حتى الآن من سفينة الانقلابات التي انحرفت بها أجواء السياسة والأمن في هذه القارة مهد الطبيعة والثروات والانقلابات.