أولت الصحافة الفرنسية اهتماما لحالة عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين خرجوا من شمال غزة في شاحنات أو سيارات أو على عربات تجرها الحمير أو حتى سيرا على الأقدام، وروت قصص البؤس والخوف التي يعيشونها بعد أن فروا من جحيم القصف الإسرائيلي المتواصل على شمال القطاع إلى “جنة الجنوب” التي ينقصهم فيها كل شيء، حتى الأمان الذي خرجوا ينشدونه.
واختارت مجلة لوبوان عنوانا يصف واقع المهجرين مثل “نازحون من غزة وسط الغبار والبرد والجوع”، في حين أشار عنوان لوفيغارو إلى خيبة أمل وتهكم النازحين “هربنا من الجحيم إلى الجنة.. نزوح آخر سكان غزة”، أما لوموند فاكتفت بنقل رسائل مصوّر من غزة إلى رفاقه تحت عنوان “الغوص في الحياة اليومية للصراع في غزة بفضل رسائل من مصور”، خاصة أن توفير المعلومات من غزة أمر معقد للغاية، إذ لا يُسمح للصحفيين، الذين لم يكونوا في غزة، بدخولها إلا في حالات التوغل مع وحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
أم يعقوب: ليس لدي حتى فطيرة لإطعام أطفالي، منذ الساعة السادسة صباحا وأنا أبحث في كل مكان، لكنني لن أتمكن من تقديم الطعام لهم
لا فطيرة خبز
ونقلت لوبوان -في تقرير من مراسلة الوكالة الفرنسية للصحافة مي ياغي في غزة- قصة يوسف مهنا الذي أصيب بجروح ودُمر منزله في جباليا، ليعيش “25 يوما بلا شيء”، قبل أن يغادر مثل غيره من الآلاف باتجاه جنوب قطاع غزة، أملا في الوصول إلى رفح على حدود مصر، وكلفه ذلك 120 يورو، هي كل ما كان يملك، والرحلة شاقة وإن لم تتجاوز 25 كيلومترا، إذ قطعها في أكثر من 8 ساعات مع أطفاله الستة وزوجته المريضة، وقطع جزءا منها سيرا على الأقدام بينما كان يدفع زوجته على كرسيها.
وفي خان يونس، وجد مهنا مئات العائلات، وأطفالها يجلسون على الأرض أو ينامون على كتف أحد الوالدين، ورغم تأكيد الجيش الإسرائيلي أن هذه المنطقة أكثر سلامة نسبيا، فإن 4 قنابل ألقتها طائراته هناك دمرت 10 منازل في بني سهيلا، سقط على إثرها “10 شهداء بينهم نساء وأطفال”، حسب مدير مستشفيات غزة محمد زقوت.
وتحتج أم يعقوب (42 عاما)، التي وصلت إلى خان يونس قبل 3 أيام مع زوجها وأطفالها السبعة، قائلة “ليس لدي حتى فطيرة لإطعام أطفالي، منذ الساعة السادسة صباحا وأنا أبحث في كل مكان، لكنني لن أتمكن من تقديم الطعام لهم”، ولا غرابة فالجنوب يعاني نقص الكهرباء والوقود وغلاء الإيجار بسبب الحصار الإسرائيلي المطبق، وتدفق النازحين من شمال القطاع.
نزوح تحت النار
ومن جانبها، روت صحيفة لوفيغارو عن مترجمها رامي أبو جاموس رحلته من مدينة غزة إلى جنوب القطاع تحت النيران الإسرائيلية، إذ لم يرغب أبو جاموس في المغادرة بداية، ليعيش 35 يوما من “مغازلة الموت” وندرة أساسيات العيش، محبوسا في شقته مع زوجته وابنهما البالغ من العمر عامين، قبل أن تضطره الآلة العسكرية الإسرائيلية إلى الاستسلام والنزوح.
فبعد أن حاصرت الدبابات الإسرائيلية المبنى الذي يقع في قلب مدينة غزة، على بعد بضع مئات من الأمتار من مستشفى الشفاء، لجأ أبو جاموس إلى بهو المبنى مع عدد قليل من الجيران، وفي منتصف الليل، أرسل هذه الرسالة على مجموعة “حياة غزة” (Gaza.Vie) على واتساب “بالنظر إلى القصف أعتقد أنهم سوف يهدمون المبنى فوق رؤوسنا، ولكن لحظة الموت هي بمثابة وخز بسيط، لن نشعر بأي شيء”، وأضاف “الوداع يا أصدقائي”، وتابع “لا أريدكم أن تحزنوا بعد فراقنا، بالعكس أريدكم أن تكونوا سعداء من أجلنا، لقد تركنا الجحيم لنذهب إلى الجنة.. 10 أكتوبر/تشرين الأول… الساعة 1:30 صباحا”.
بعد صمت طويل على مجموعة الواتساب، ينشر رامي أبو جاموس سلسلة فيديوهات تشهد على النزوح، تظهر فيها أعلام بيضاء، وامرأة تجلس على كرسيها المتحرك، وبدا هو نفسه قائدا للمجموعة يعطي التعليمات، وأوضح لاحقا “اتصل بنا الجيش على هاتف أحد الجيران، وقال: نعلم أنكم في البرج، نمنحكم نصف ساعة للمغادرة برايات بيضاء”.
وفي مقطع آخر، تظهر مجموعات صغيرة من المدنيين يغادرون مبانيهم ويتجهون نحو مستشفى الشفاء، رجل عجوز وامرأتان كبيرتان في السن وأطفال بحقائب على الظهر وأبو جاموس يحمل طفله الصغير، والطلقات تتطاير في كل مكان، قبل أن يصلوا إلى مستشفى الشفاء، حيث الجثث متناثرة في جميع أنحاء الفناء، “يجب علينا الفرار مرة أخرى. ثم بدأ الإذلال”.
أبو جاموس: بالنظر إلى القصف أعتقد أنهم سوف يهدمون المبنى فوق رؤوسنا، ولكن لحظة الموت هي بمثابة وخز بسيط، لن نشعر بأي شيء… لا أريدكم أن تحزنوا بعد فراقنا، بالعكس أريدكم أن تكونوا سعداء من أجلنا، لقد تركنا الجحيم لنذهب إلى الجنة
وفي “الممر” المؤدي إلى الجنوب، يظهر أبو جاموس وعائلته على ظهر عربة، ويقول “استمرت الإهانة عندما مررنا بالجيش الإسرائيلي سيرا على الأقدام في شارع صلاح الدين. كانوا على يسارنا، فوق الدبابات والجرافات. حملت ابني بيد وحقيبتي باليد الأخرى. وكانت زوجتي ترتجف من الخوف. في بعض الأحيان كانوا يعتقلون رجلا. وهناك بقايا أشخاص كانوا يتجهون نحو الجنوب كما يبدو”.
الجميع يبحثون
ومثل لوفيغارو، اختارت صحيفة لوموند أن تنشر تقريرا مصورا وصلت رسائله بالتقطير عبر تطبيق واتساب من الغزي سامح نضال رحيمي -الملقب بـ”أبو بيروت”- إلى زملائه من الصحفيين العرب، وخاصة المصور اللبناني غابرييل فرنيني، ويروي فيها من القطاع المحاصر جانبا من المعاناة والحسرة تحت القصف الإسرائيلي، خاصة بعد أن انتقل مع زوجته وابنتيه للعيش مع أهل زوجته في دير البلح، إذ أسقط الجيش الإسرائيلي منشورات تدعو سكان غزة الذين يعيشون في شمال القطاع إلى الفرار إلى الجنوب، في إطار الترحيل القسري انتهاكا للقانون الدولي، حسبما يكتب رحيمي.
يحاول رحيمي -حسبما تقول الصحيفة- تصوير مشاهد من حياته اليومية مع عائلته، لكنه يعاني باستمرار انقطاع الاتصال ولا يستطيع إرسال صوره إلا بعد مكابدة طويلة، ويقول إن القنابل لا تترك مكانا في القطاع، لا المستشفيات ولا المناطق السكنية، ولا المدارس، وقد شطبت عشرات العائلات من السجل المدني، “أنا أفقد أصدقائي. كلما أسأل عن شخص، يقال لي مات أو تحت الأنقاض”.
سامح: نحن هنا 35 فردا، أنا مسؤول عن إطعام 13 طفلا؛ أغادر في الصباح لأجد ما ينفعهم ولا أعود حتى المساء. الخطر في كل مكان، وأنا دائما تحت القنابل. وهذه مسؤولية ثقيلة تقع على عاتقي
ويبدو الشاب الثلاثيني -حسب صحيفة لوموند- ممزقا بين التزاماته العائلية ورغبته في العمل ليكون شاهدا على الوضع، يقول “نحن هنا 35 فردا، أنا مسؤول عن إطعام 13 طفلا؛ أغادر في الصباح لأجد ما ينفعهم ولا أعود حتى المساء. الخطر في كل مكان، وأنا دائما تحت القنابل. وهذه مسؤولية ثقيلة تقع على عاتقي. في أقرب وقت ممكن سأعود إلى العمل”.
ومثل أبو بيروت -وفق لوموند- الجميع في الشوارع بحثا عن شيء، وسط حصار يخنق السكان تدريجيا، حيث لا كهرباء ولا غاز والطعام والماء ينفدان، رفوف المتاجر فارغة والأسعار ارتفعت 10 أضعاف، وحتى إشعال النار يصبح مغامرة إذا رصدتها الطائرات، وأبو بيروت يأكله العجز أمام مشهد ابنته وزوجته المريضتين بالخوف.
ويختم أبو بيروت -الذي لم يستطع الاستحمام منذ 17 يوما- صارخا “وقف إطلاق النار لا يحدث أبدا. الناس في غزة يتعرضون لعقاب جماعي. إننا نتعرض للسحق من قبل الحكومات في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الحكومات العربية. معبر رفح أمامنا، افتحوه”، ثم يهدأ صوته وهو ينشد أبيات الشاعر الفلسطيني محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة، سنبقى، سأحاول حتى الرمق الأخير”.