في 26 من مارس/آذار الحالي، أصدر رئيس المجلس العسكري الحاكم في الغابون المرسوم الثاني المتعلق بتنظيم الحوار الوطني، والذي يرتقب أن يشارك فيه جميع الفاعلين في الدولة.
ويأتي الحوار الذي سينطلق في الثاني من أبريل/نيسان المقبل على وقع أزمات كبرى تعيشها الغابون بعد الإطاحة بالرئيس علي بونغو في سبتمبر/أيلول 2023.
الغابون تدخل نادي الانقلابات
تعد الغابون إحدى دول أفريقيا المعروفة بالاستقرار السياسي؛ إذ قطعت العلاقة مع الانقلابات بعد أول تدخل عسكري قام به الجيش عام 1964 ضد الرئيس المؤسس “ليون إمبا”.
وقد تدخلت فرنسا حينها وأعادت الرئيس المدني لمنصبه، وتم تنظيم انتخابات رئاسية عام 1967 نجح فيها إمبا واستعاد قوته وبسط نفوذه على المشهد السياسي.
بيد أن الموت المفاجئ للرئيس في نفس العام أتاح الفرصة للرئيس الثاني في تاريخ البلاد عمر بونغو أونديمبا، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس، لتولي حكم البلاد في مارس/آذار عام 1968.
وكان بونغو مقربا من فرنسا وأحد حلفائها الأوفياء في القارة السمراء، فقد استطاعت خلال فترة حكمه التي استمرت 42 عاما بسط نفوذها السياسي والاقتصادي ووصلت شركاتها المسجلة في البلاد عام 2022 إلى 110 شركات.
ورغم أن عمر بونغو كان حليفا قويا لفرنسا، فإن مساره الفكري شهد تحولات عميقة حيث اعتنق الإسلام عام 1973 وضم بلاده لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وأصبحت ليبرفيل عضوا في العديد من الهيئات الإسلامية مثل المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو) وغيرها من النوادي والتجمعات الإسلامية.
وبعد وفاة عمر بونغو، تولى ابنه علي بونغو الرئاسة بعده عام 2009، حتى أطاح به قائد حرسه الجنرال بريس أوليغي أنغيما في 30 أغسطس/آب 2023.
وبانقلاب أنغيما، تكون الغابون دخلت نادي دول الانقلابات وأصبحت تحت وصاية المجالس العسكرية التي تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية في عدد من بلدان القارة الأفريقية، كما أنهى القائد الجديد حكم عائلة بونغو الذي استمر 5 عقود من الزمن.
وجاء انقلاب الغابون في ظروف إقليمية معقدة مليئة بالانقلابات وصراعات النفوذ والقوى، إذ أصبحت أفريقيا بحكم ثرواتها الكبيرة مركز استقطاب للعديد من الدول الباحثة عن التوسع الاقتصادي والنفوذ السياسي، والتمدد العسكري.
تداعيات الانقلاب على الاقتصاد
وفقا للموسوعة البريطانية فإن الغابون تعد خامس أغنى دولة في أفريقيا، والأولى عالميا من حيث إنتاج معدن “المنغنيز”، كما تمتلك مناجم متعددة ومتنوعة منها اليورانيوم والماس والذهب، وفيها احتياطات هائلة من خام الحديد عالي الجودة.
أما النفط فيشكل أهم ثرواتها، ويمثل 70% من صادراتها، حيث تنتج 210 آلاف برميل يوميا، وهي عضو دائم في منظمة أوبك التي انسحبت منها عام 1994 وعادت إليها عام 2016.
لكن انقلاب أغسطس/آب شكل ضربة قوية لسمعة الغابون التي كانت تتولى رئاسة المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (إيكاس) والمقر الدائم لمفوضيتها.
وعلّقت المجموعة عضوية الغابون، واعتبرت المجلس العسكري فاقدا للشرعية ونقلت مقر المفوضية مؤقتا من ليبرفيل إلى غينيا الاستوائية.
كما أن الانقلاب أثار مخاوف الشركاء الدوليين، وخاصة باريس التي لديها العديد من الشركات العاملة في البلاد وتوفر فرص عمل لحوالي 14 ألف مواطن، وتنتج الشركات الفرنسية مبيعات تقدر بـ3.23 مليارات يورو سنويا، وهي أيضا تتولى تسويق النفط والذهب والحديد.
وبعد الانقلاب أوقفت شركة “إيراميت” الفرنسية للتعدين أنشطتها بسبب المخاوف من تداعيات الانقلاب، وهي من كبرى الشركات التي تعمل في استغلال الموارد المحلية ويعمل فيها حوالي 8 آلاف مواطن غابوني.
وللحفاظ على الشركات العاملة التي تهتم بالاستقرار السياسي لاستمرار استثماراتها الكبيرة؛ من المهم أن تخرج البلاد عاجلا من الأزمة التي أحدثها التغيير العسكري في هرم السلطة.
تركة الفساد
ورغم أن عدد سكان الغابون لم يصل إلى 3 ملايين نسمة، في بلد غني بثرواته المتعددة، إلا أن ثلث السكان يعيشون حالة فقر خطير، ووصل الحال إلى أن صندوق النقد الدولي حذر الحكومة من الإفراط في الإنفاق خارج بنود الميزانية.
والخطير في الأمر أنه وبحسب دراسات متعددة فإن نفط البلاد سيتم استهلاكه بحلول عام 2025، وقد انخفض في العقدين الأخيرين بشكل لافت للانتباه، إذ تراجع الإنتاج من نقطة 370 ألف برميل يوميا سنة 1997 إلى 180 ألفا عام 2022.
وخلال مسارها في الحكم الذي تجاوز 50 عاما، تتهم عائلة بونغو بونغو بالإسراف في الإنفاق ووجهت لها اتهامات بالفساد من قبل المنظمات الدولية. ووفقا لتقارير فرنسية فإن العائلة تملك الكثير من العقارات في فرنسا ولديها أرصدة باسم شركات مرتبطة بالمحيط الضيق للرئيس السابق.
وقد خلّف بونغو الأب 53 ولدا، أبرزهم ابنه علي الذي ورث الحكم من بعده، وقد اتهمه القضاء الفرنسي بامتلاك 33 منزلا في باريس، جراء تحقيق في دعوى رفعتها ضده منظمة الشفافية الدولية.
وليست عائلة بونغو وحدها التي تواجه تهمة اختلاس الأموال والفساد، فكثير من المسؤولين الذين شاركوا في تسيير الشؤون العامة وقعوا في دائرة الاتهام.
ووفق تقارير غابونية، يعتبر الجنرال أنغيما رئيس المجلس العسكري الحاكم أحد الشخصيات المشهورة بالفساد واستغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة، فأثناء عمله مرافقا عسكريا مع الرئيس عمر بونغو اكتسب ثروة هائلة، واتهمته تقارير أميركية بامتلاك عقارات في ضواحي ولاية ميرلاند الأميركية اشتراها نقدا.
كما أنه متهم بارتباطه بشبكات التهريب والمخدرات وتجارة الممنوعات في عديد من البلدان وخاصة أميركا الجنوبية.
على أعتاب الحوار الوطني
في ظل تلك الأوضاع المزرية، وبعد أن أزاح المجلس العسكري الحكومة المدنية، قام قائد الانقلاب الجنرال بريس أوليغي أنغيما بحل المؤسسة التشريعية المنتخبة (مجلسي الشيوخ والبرلمان) وعين أخرى بأمر قانوني، وبدأ في عسكرة البلاد والقضاء على مظاهر الحياة السياسية والمدنية.
وإثر ضغوط من الشركاء والمجتمع الدولي قام بتعديل الأمر القانوني المؤقت الذي بموجبه تم تعليق الدستور، وتنحى عن وزارتي الدفاع والأمن وعيّن لهما وزيرين بعد أن كان يحتفظ بهما لنفسه بالإضافة لمنصب رئيس المجلس العسكري ورئيس الدولة.
وفي التعديل المذكور أعلن الجنرال أنغيما أنه سينظم حوارا وطنيا شاملا يضم جميع القوى الحية في الغابون، وسيتم خلاله تحديد الفترة الانتقالية التي ستنتهي بتسليم السلطة للمدنيين.
وفي مارس/آذار الجاري نشر مرسوما في الجريدة الرسمية يتضمن قائمة بأسماء المشاركين في الحوار الذي سينظم في الفترة الممتدة بين 2 و30 أبريل/نيسان المقبل.
ولا يقتصر الحوار على المدنيين فقط، بل سيشارك فيه 64 قائدا من قوات الدفاع والأمن، كما أن ممثلي الأحزاب السياسية البالغ عددهم 104 تمت الموافقة عليهم سلفا من قبل الجنرال الحاكم.
وطبقا للوثيقة المنشورة سيشارك في الحوار ممثلون عن المتقاعدين العسكريين والمدنيين وقادة النقابات والمجتمع المدني، وكذلك المعاقون وأصحاب الاحتياجات الخاصة، ومجتمع الأقزام.
وقد طالبت المعارضة بتشكيل لجنة تأسيسية لصياغة الدستور الجديد الذي يتوقع أنه سيكون امتدادا لدستور 1991، كما تتطلع لإجراء انتخابات رئاسية والرجوع للحياة المدنية في أفق عام 2025.
ويراقب السياسيون مسار المجلس العسكري بحذر، إذ لم ينص الميثاق الدستوري الانتقالي على فترة محددة للانقلابيين رغم أن الناطق بالمجلس العسكري قال إنه يتوقع أن يكون عام 2025 موعدا أوليا لإجراء انتخابات دستورية.
ولم يتضمن الإعلان الذي صدر من طرف الجيش بندا يمنع القائد الجديد من الترشح ومزاحمة السياسيين في حكم البلاد.
وتتولى مهمة المقرر العام للحوار وزيرة الإصلاح المؤسساتي موريل مينكو مينتسا.
وفي تصريحات أدلت بها مؤخرا للصحافة المحلية، قالت مينتسا إن “الهدف من الحوار هو الإعداد لمرحلة ما بعد الفترة الانتقالية، وتحديد المدة التي ستستغرقها الفترة الانتقالية واقتراح شكل التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأمة”.
وتشير دراسة لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بأنه بغض النظر عن مآلات انقلاب الغابون، فإن المؤكد هو ترسيخ ظاهرة إعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة من خلال صياغة جديدة للتحالفات الإقليمية والدولية.