تُميّز العقيدة العسكرية الأميركية بين نوعين من الحرب، الحرب التقليدية والحرب غير النظامية، فما المهام والعمليات الحربية التي تقوم عليها الحرب غير النظامية؟ وهل استفادت الولايات المتحدة من تجاربها؟
وتحت عنوان “الحرب المشتركة”، يصف منشور لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الحرب التقليدية بأنها “صراع عنيف تخوضه الدول أو التحالفات باستخدام القوات التقليدية، سعيا للهيمنة”، ويفرّق المنشور بينها وبين “الحرب غير النظامية”.
ويعرف البنتاغون الحرب غير النظامية بأنها تلك التي تشن فيها الدول والجماعات الفاعلة غير الحكومية حملات لتطويع أو إكراه الجهات الأخرى، عبر اعتماد أساليب جديدة غير معتادة في الحروب، إما كنهج أساسي أو متناسق مع الحرب التقليدية.
ولا تقتصر عمليات الحرب غير النظامية على العمليات العسكرية الخاصة، بل تشمل أيضا العوامل والمستويات الاجتماعية والثقافية واللغوية والنفسية والتقنية والمادية، التي تؤثر على آلية فهم المؤشرات من المعلومات والتأثر بها والتصرف بناء عليها.
وقد تستخدم أطراف الحرب غير النظامية أساليب غير تقليدية، كحرب العصابات وعمليات التخريب، لكن كل ذلك يكون في إطار جهود جانبية لاستمالة المدنيين والسيطرة عليهم.
وفي هذا النوع من الحروب، يسعى خصم أقل قوة إلى عرقلة أو تعطيل القدرات والمزايا العسكرية لطرف آخر أكثر قوة. ولكونها تركز على التأثير على المدنيين، فإن إجراءات التأثير والسيطرة على “بيئة الخصم” تلعب دورا بارزا في الحرب غير النظامية.
العمليات في الحرب غير النظامية
تشمل الحرب غير النظامية أساليب وعمليات قتالية غير تقليدية، كالعمليات المعلوماتية -أو عمليات التأثير النفسي على ساحة الخصم- والحرب السيبرانية، ومكافحة الشبكات والأنشطة التي تهدد مصالح وحلفاء الولايات المتحدة، وتمويل المشاريع المضادة لها، وعمليات التنسيق العسكري والتعاون الأمني مع الشركاء المحليين، وغيرها مما يتعلق ببيئة المعلومات وكسب تأييد المدنيين.
ويُعرّف منشور وزارة الدفاع الأميركية رقم “جي بي 3- 13.2” العمليات المعلوماتية العسكرية بأنها “عمليات مخططة لنقل معلومات ومؤشرات مختارة إلى جماهير الخصم، للتأثير على عواطفهم ودوافعهم وتفكيرهم الموضوعي، والتأثير في نهاية المطاف على سلوك قيادة الخصم”.
بدورها تسعى الحرب السيبرانية لتوظيف القدرات التقنية الإلكترونية لتحقيق أهداف محددة، عبر عمليات هجومية وأخرى دفاعية لتعطيل قدرات الخصم والحفاظ على القدرات المحلية.
أما عمليات مكافحة الشبكات التي تهدد المصالح الأميركية فهي -كما يعرفها منشور “العمليات الخاصة جي بي 3-05”- “أنشطة لمنع أو تعطيل أو تدمير مقدّرات الخصم وخطوط إمداده وترتيباته اللوجستية، ومنع تخزينها ونقلها واستخدامها في الأنشطة المعادية لمصالح الولايات المتحدة”.
بينما عمليات التنسيق العسكري مع الشركاء المحليين فيعرّفها المنشور “جي بي 3-57” بأنها “إقامة العلاقات بين القوات العسكرية من جهة والمدنيين والمؤسسات المحلية من جهة أخرى، أو المحافظة والتأثير عليها واستغلالها لتحقيق الأهداف المرجوة”.
في حين يعرّف المنشور “جي بي 3-20” التعاون الأمني بكونه “تعاونا بين وزارة الدفاع الأميركية والمؤسسات الأمنية لدى الحلفاء لبناء علاقات تعزز المصالح الأمنية للولايات المتحدة، وتطوير القدرات العسكرية والأمنية للحلفاء للمشاركة في العمليات المتعددة الجنسيات، ودعم القوات الأميركية وقت الحاجة”.
الحرب غير المتكافئة والعمليات الخاصة
تتباين التعريفات الرسمية الأميركية للحرب غير المتكافئة، لكنها غالبا ما توصف في أدبيات الأمن القومي بأنها حرب بين أطراف متخاصمة لديها قوى عسكرية أو إستراتيجية أو تكتيكات متباينة، تُستخدم فيها أسلحة وتكتيكات غير تقليدية، كتلك المرتبطة بحرب العصابات.
وتعد الحرب غير المتكافئة شكلا من أشكال الحرب غير النظامية، لكن بسبب ارتباطها بالحرب غير النظامية وتشابهها معها، يُستخدم المصطلحان بشكل مترادف أحيانا.
وتقوم قيادة العمليات الخاصة الأميركية بتنظيم وتدريب وتجهيز قوات العمليات الخاصة (إس أو إف)، لتنفيذ المهام الخاصة وغيرها من المهام التي قد يحددها الرئيس الأميركي أو وزير الدفاع.
وتتطلب هذه المهام أنماطا فريدة من التوظيف والتقنيات التكتيكية والمعدات والتدريب، وغالبا ما تتم في بيئات معادية أو معارضة أو حساسة على المستوى السياسي. ولذلك يجري تنسيق وتنفيذ العديد من مهام الحرب غير النظامية عبر قيادة العمليات الخاصة وقواتها.
وتلعب الجيوش التقليدية أيضا دورا في الحرب غير النظامية، فقد حدد ملحق “الحرب غير النظامية” في إستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية لعام 2018، الذي نشرته وزارة الدفاع في عام 2020، هدفا يتمثل في الحفاظ على الكفاءة الأساسية في الحرب غير النظامية لدى جميع وحدات الجيش الأميركي، وليس فقط قيادة العمليات الخاصة.
كما تتعاون قيادة العمليات الخاصة مع الشركاء والحلفاء والقوات المشتركة بين المؤسسات العسكرية لإنجاز مهمتها، فعلى سبيل المثال يعمل “مركز المشاركة العالمية” التابع لوزارة الخارجية الأميركية مع قيادة العمليات الخاصة كجزء من مهمته لمواجهة الدعاية الإعلامية والمعلومات المضللة التي ينشرها خصوم الولايات المتحدة.
مخصصات مالية
تنص الفقرة 1202 من قانون تفويض الدفاع الوطني المالي لعام 2018 على أنه يجوز لوزير الدفاع، بموافقة قائد المهام المعني، إنفاق ما يصل إلى 10 ملايين دولار سنويا بين عامي 2018 و2020 لتقديم الدعم للحلفاء الأجانب، من القوات غير النظامية أو الجماعات أو الأفراد المشاركين في دعم أو تسهيل عمليات الحرب غير النظامية المستمرة والمصرح بها من قبل قوات العمليات الخاصة الأميركية.
وقد عدّل قانون العام 2022 المادة 1202 لتمديده حتى سنة 2025، مع طلب تقرير عن إستراتيجية الحرب غير النظامية المحددة في ملحق إستراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018.
في حين حدد قانون تفويض الدفاع الوطني المالي لعام 2024 مخصصات الدعم، ورفع النفقات إلى ما يصل إلى 20 مليون دولار سنويا.
محور الجهد الرئيسي في الحروب غير النظامية
في تحليل لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى حول اعتماد إستراتيجيات جديدة للحرب على الإرهاب، يرى الجنرال المتقاعد في مشاة البحرية الأميركية جون ألين أنه لا بد للقوات الأميركية من فهم السياقين الثقافي والسياسي لحلفائها وخصومها، وكيفية تأثيرهما على القوات.
كما يُقدّم كتاب “في ظل أسياد الحرب” لكاتبه دانيال غرين عددا من التوصيات لخوض الحروب غير النظامية، تشمل تدريب الوحدات العسكرية على المهارات الدبلوماسية، وتوجيهها للعمل في المنطقة ذاتها بصورة متكررة لبناء العلاقات وتوطيد الثقة مع الحلفاء المحليين.
بينما يرى المقدم المتقاعد من الجيش الأميركي جون ناجل، في تقديمه لكتاب دايفيد جاليولا “حرب مكافحة التمرد بين النظرية والتطبيق”، أن الأولوية في الحروب غير النظامية تكمن في استمالة المدنيين في ساحة النزاع.
ولذا، فإن مفتاح النجاح في مثل هذه الحروب بالنسبة للمقدم ناجل يكمن في “جمع المعلومات الاستخبارية المستمدة من السكان المحليين لتحديد العدو، وتكون الحرب خاسرة حين تغيب هذه المعلومات”.
هل استفادت أميركا من تجاربها؟
خاضت الولايات المتحدة العديد من الحروب غير النظامية، من فيتنام مرورا بـأفغانستان والعراق، ووصولا إلى مواجهتها الدائرة مع فصائل “محور المقاومة” في منطقة الشرق الأوسط، واستخلص محللوها ومنظروها العسكريون الكثير من الدروس من هذه التجارب، لكنها على ما يبدو أنها لم تستفد من دروسها بعد.
فقد خرجت من أفغانستان بعد حرب دامت عقدين من الزمن، وعاد الحكم في كابل لـحركة طالبان، ولم تستطع بناء الدولة العراقية التي بشّرت بها إبان الغزو عام 2003، حيث آل الأمر ميدانيا لفصائل قوية تدعمها إيران وتهدد المصالح الأميركية في المنطقة.
ورغم نصائح إدارة الرئيس جو بايدن لحكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، قبيل بدء الحرب البرية على قطاع غزة، بعدم تكرار أخطاء الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، فقد واصلت واشنطن دعمها الدبلوماسي والعسكري لإسرائيل التي ترتكب مجازر يومية بحق أهالي غزة.
وفي ظل استمرار الحرب الإسرائيلية وتعاطي البيت الأبيض معها، فإن ما يحدث سينعكس على المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط كلها، حيث تتنامى مشاعر التنديد بسياسة واشنطن الداعمة للاحتلال على حساب دماء الأطفال والنساء.