الانتقام بعد “طوفان الأقصى”.. مراسلة الجزيرة نت شاهدة على ما حدث

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

غزة- هي الحقيبة ذاتها التي اصطحبتها معي في 5 حروب وجولات تصعيد لا تُعد على غزة. لكنّ المختلف هذه المرة أنني سأضيف فيها شيئا من ذكرى زوجي الشهيد، الذي ارتقى في معركة “سيف القدس” قبل عامين.

هل تكفي الحقيبة لأطوي فيها زوايا البيت العامر بذكراه؟ وكيف أختزل عبق الجدران أو 12 عاما من الحب؟  تناولت ساعته الثمينة التي كانت لا تبرح يده، لتكن أثرا لأبنائه إن بقوا.

الساعة أولا، ثم الأوراق المهمة التي تثبت هويتنا وميلادنا وحقوقنا، ثم بضعة أشياء ثمينة معنويا وماديا، وقليل من الألبسة التي قد نحتاجها خلال مكوثنا في منزل أبي، الذي سأحل عليه ضيفة حرب، لأنني لا أقوى على تحمل عبء الحرب وحدي.

إنها أول ليلة لمحاولة إسرائيل دفع الطوفان، وأنا أتساءل: كيف لكفيّن من ورق أن تواجها طوفانا؟ وكم من دماء بريئة ستسفك كي ترد اعتبارها وترسم -عبثا- صورة النصر وتغطي على فشلها المدوي؟

منزل والد مراسلة الجزيرة نت الذي انتقلت إليه مع أطفالها بعد قصف الحي الذي كانت تسكنه في منطقة “الرمال” (الجزيرة)

تكدس العائلات

في شقة والدي التي تبلغ مساحتها 200 متر، نتكدّس 6 عائلات، ولجأنا إليه لسببين: الأول أننا نحن الفلسطينيين تجمعنا الحرب كما الحب، نريد أن نتألم معا، ونعاني معا، وننتصر معا، ونترقب معا، وننعى شهداءنا وصمت العرب معا. والسبب الثاني أن بيت أبي في مركز المدينة الآمن عادةً، لا يصله قصف ولا تنقطع عنه أسباب العيش، كما كنا نظن.

قرابة 40 روحا بينهم 19 طفلا لا تتجاوز أعمارهم 12 سنة، نتوزّع في 3 غرف وصالتين، نفرش فيها الأرض ألحفة وأغطية وننام أحيانا دون وسائد، لأنها لا تكفي لهذا العدد.

لأول مرة أعجز عن العدل في توزيع الأمان؛ كيف ستتمكن ذراعاي من احتواء 3 قلوب معجونة بالفقد، قلوب داست عليها غطرسة المحتل في حروب سابقة، حين اختطفت منهم أباهم وجدهم وخالهم وبعض أصدقائهم، كيف لقول “لا تخف أنا بجانبك” أن تخمد، ولو جزءا، من ثورة خوفهم المتقدة؟ وأنا التي أحتاج لعدوى سكينة أبحث عنها في عيون من حولي ولا أجدها.

نحن لا نكره الموت ولا هو يخيفنا، إنه يتزين لنا كرحمة مهداة ينتهي فيها الخوف والقلق والتعب، لكنه في المقابل يبدو شبحا حين يُخيل إلينا أنه سينقض على أحدنا دون الآخر فيفرقنا، أو قبل أن يلتقطنا يريد منا أن نقدّر نعمته، حين نتعرض لإصابة أو اختناق تحت الأنقاض، ونتنماه فلا نجده.

تقنين الاستهلاك

فصلتْ إسرائيل اتصالنا بالعالم، ولأننا شعب نستشعر المنحة في كل محنة، فقد استغليت ذلك في التحديق والتأمل في الشدّة التي ألمّت بنا. لم أجد شيئا مدعاة للتأمل سوى وجوه شاحبة تتسع فيها الهالات السوداء، وأجساد خاملة متعبة يبدو أن دواءها هو بضع ساعات من النوم وأخبار نصر تعطي الروح فسحة، بعد ما تشبعت أعيننا بمشاهد الإبادة العرقية المتداولة على الشاشات.

تستيقظ أمي باكرا، تتفقد الأطعمة واللحوم في الثلاجة التي لا تصلها الكهرباء بقرار إسرائيلي، وتتناول منها التي لا تحتمل لليوم القادم كي تطهوها قبل أن يتلف، وهي بذلك تُشغل نفسها لأنها لم تعد تحتمل رؤية مشاهد القتل والدمار بشكل مطلق منذ اليوم الذي فقدت فيه ابنها الشهيد عام 2014.

الحرب غيّرت عاداتنا الغذائية، فاضطررنا لتقنين الوجبات، اثنتان بدل ثلاثة، لأن ذلك سيحد من حاجتنا لاستخدام المراحيض، ويقلل من الإسراف في الماء الذي ينزل على هيئة قطرات.

زجاجة معدنية بسعة نصف لتر هي نصيب كل واحد من المتواجدين يوميا، لنضمن عدالة توزيع الماء ولا يتعدى أحدنا على نصيب غيره، هذا ونحن عائلة الطبيب المترف الذي يستهلك دون حسبان في المأكل والمشرب.

كلما لجأت العائلات إلى منطقة أصبحت عرضة للقصف (غيتي)

أين نذهب؟

“أين نذهب؟” هو السؤال الأكثر تكرارا على مسامعنا خلال هذه الحرب، خاصة حين طلبتْ إسرائيل من مليون و200 ألف فلسطيني الإخلاء من شمال قطاع غزة إلى الجنوب حيث وادي غزة، في نكبة ثانية وتهجير قسري نزح فيه 400 ألف من سكّان الشمال إلى الجنوب فرارا من الموت.

كان وقع المشاهد المنقولة عن النزوح سيئا جدا؛ المدينة حزينة أكثر من أي وقتٍ مضى، وبدت الليلة الأقسى علينا نحن الثابتين فيها.

كان للصواريخ الساقطة حولنا صدىً معززا بفراغ المدينة الذي سببه هجر البعض لها، أنزلنا زجاج النوافذ من مكانه إلى الأرض تحسبا لتهشمها في الغارات المتوقعة والتحامها بأجساد الصغار، عمل يبدو لصالحنا، لكن الفسفور الذي قذفوه علينا وريح البارود باغتنا من حيث لا نحتسب.

صنعت هذه الحرب منا خبراء هندسيين، فقبل كل نوم نتفحص الزاوية الأكثر أمانا لنلجأ إليها، ماذا لو ضرب الشارع حزام ناري (قصف مستمر بنفس الموقع)، ماذا لو استهدفوا المسجد في جهة الشرق، ماذا لو أعادوا ضرب الملعب في الجهة الشمالية مرة أخرى، وماذا لو كنّا نحن الهدف ونزلت قنبلة علينا؟.

والأطفال كذلك، صاروا خبراء متفجرات مخضرمين بعد تجارب الحرب المتكررة، يميزونها من خلال الصوت، ويعرفون الصاروخ الخارج منا والنازل علينا، وكذلك محاولات القبة الحديدية إسقاطها وأصوات القذائف المدفعية.

مخاوف الليل ورضا الصباح

الليل في الحرب قصة أخرى، خوف الدقيقة فيه كخوف يوم كامل. تتشبع فيها أصوات القنابل، نسمعها حين نتحرر من مرور الطائرات حين تخترق الهواء، ونراها حين تضيء، ونسمع انهيار المباني بالتزامن مع أصوات ارتطامها.

هذا بالإضافة لصوت رصاص الزوارق بحرا، ومدافع الدبابات أرضا. يتوه التركيز بين زنّ طائرات الاستطلاع وبين أصوات مروحيات الأباتشي، وأنواع أخرى حربية حديثة منحها الغرب لعدونا للتخلص منا.

تشعر في ظل كل هذا أنك أنت الهدف القادم، ولأجلك رصدوا برميلا مخصصا من طائرة سُيّرت من أجل قتلك، بينك وبين الموت حائط واحد وجزء من الثانية. احتمال الموت لا يصبح ضئيلا مع شروق الشمس، لكن يضمن الواحد فينا أن يموت على مرأى وعِلم. وحين يحل الصباح نعمم رسالة مفادها “هل أنت بخير؟” نتفقد بها الأقرباء والأصدقاء.

وفي كل مرة يجيب الناس بالحمد. حالة الرضا في هذا الطوفان تبدو غريبة جدا. فقدَت صديقتي 15 فردا من عائلتها ومنزل طفولتها، ثم وجدتها تواسيني قائلة “فدا الله وفدا فلسطين، مش أغلى من أرواح الشباب اللي استشهدوا جوّا”. بينما فقد جارنا برجا بناه بشق الأنفس، ومُلكه وتجارته وبضاعته، ثم عقّب “الله بيعوض”. كل فلسطيني هنا على استعداد للفداء دون سخط أو جزع.

هذه شهادة حية من فلسطينية عاصرت الطوفان. ويمكن للشاهد أن يموت، لكن شهادته تبقى حيّة إلى الأبد.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *