فجّر خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مفاجأة من العيار الثقيل حين أكد أن الحصول على منفذ بحري قضية حياة أو موت لبلاده الحبيسة، ملمحاً إلى أنها ستحصل على هذا الحق بالقوة أو بغيرها.
ورغم تأكيده اللاحق على اتباع إثيوبيا الطرق السلمية لمعالجة هذا الملف، فإن هذه المطالبات رفعت مناسيب التوتر مع جيران بلاده الساحليين في القرن الأفريقي.
وفي مفاجأة جديدة استقبلت كل من أديس أبابا وإقليم أرض الصومال الانفصالي العام الجديد بتوقيع مذكرة تفاهم وصفها الطرفان بالتاريخية وستتيح لإثيوبيا الوصول إلى البحر، مما أطلق موجة من التكهنات حول الارتدادات الجيوسياسية لهذه الخطوة، وتأثيراتها على العلاقات بين دول القرن الأفريقي المضطرب.
إثيوبيا والبحر.. حلم لا يموت
لطالما احتل الوصول إلى البحر مكانة مركزية في الوجدان الإثيوبي، ولا سيما بعد استقلال إريتريا عام 1993 الذي حوّل المستعمر السابق إلى أكبر الدول الحبيسة في أفريقيا.
هذا الطموح الإثيوبي المتجدد كانت آخر تجلياته الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء آبي أحمد أمام برلمان بلاده في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي إطار إثبات أحقية بلاده في الحصول على منفذ بحري ساق أحمد العديد من المبررات التاريخية والاقتصادية والديمغرافية والجيوسياسية.
وأكد أن أبناء وطنه الذين سيبلغ عددهم 150 مليونا خلال أقل من عقد “لا يستطيعون العيش في سجن جغرافي”، وأن “النيل والبحر الأحمر هما الأساس لتطوير إثيوبيا أو فنائها”.
اعتماد إثيوبيا على ميناء جيبوتي المجاورة في الاستيراد والتصدير عبر البحر الأحمر، مثّل قلقا دائما لأديس أبابا مما دفعها إلى العمل على إستراتيجية لتنويع الموانئ، بعقد اتفاقيات مع جيرانها كالصومال وكينيا وغيرهما، لكن التطور الأخير كان في الرغبة في الحصول على منفذ بحري سيادي خاص بها.
على إثر إطلاق هذه التصريحات تتابعت الردود من جيران إثيوبيا الساحليين جيبوتي والصومال وإريتريا، وتحدثت تقارير عن حشود عسكرية على الحدود الإريترية الإثيوبية، مما أدى إلى تصاعد المخاوف من اندلاع نزاع مسلح من الطرفين يكون “البحر” فتيل تفجيره.
منعطف هام
وفي ظل تلبد الأجواء السياسية في القرن الأفريقي وقع كل من رئيس الوزراء الإثيوبي ورئيس إقليم أرض الصومال الانفصالي موسى بيحي عبده مذكرة تفاهم شكلت منعطفا جديدا في مسار الأزمة الحالية.
وأكد بيان صادر عن رئاسة الوزراء الإثيوبية أن هذه المذكرة “ستمهد الطريق لتحقيق تطلعات إثيوبيا في تأمين الوصول إلى البحر وتنويع وصولها إلى الموانئ البحرية”.
في سياق مواز، أعلنت وزارة خارجية أرض الصومال في بيان لها أن الاتفاق “يضمن لإثيوبيا وصول قواتها البحرية إلى البحر، مقابل الاعتراف الرسمي بجمهورية أرض الصومال”، حيث سيؤجر إقليم أرض الصومال إثيوبيا شريطا ساحليا بطول 20 كيلومترا لمدة 50 عاما.
دوافع ومكاسب
ويرى رئيس تحرير موقع نيلوتيك الإثيوبي نور الدين عبدا أن مذكرة التفاهم بين الطرفين تأتي في ظل أوضاع إقليمية ودولية بالغة التعقيد “يسعى فيها الجميع إلى إعادة التموضع قبل أن تضع التقلبات الحالية في العلاقات الدولية أوزارها”.
وأضاف عبدا للجزيرة نت أن لكل من إثيوبيا وأرض الصومال دوافعه الخاصة وراء هذا الاتفاق.
وفي توضيحه لدوافع أديس أبابا ذكر عبدا أن لبلاده “رغبة جامحة للوصول الحر إلى البحر لتأمين تجارتها الدولية وتحقيق أمنها القومي”، وأنه لا يمكن لإثيوبيا “أن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء التهديدات الأمنية الكبيرة التي يشهدها البحر الأحمر”.
وهو ما يوافقه فيه المحلل السياسي المختص بشؤون القرن الأفريقي شفا عمر موضحا أن طبيعة البواعث الإثيوبية تتعدى الدواعي الاقتصادية إلى الأبعاد الجيوسياسية والأمنية، وفقاً لما أظهره رئيس الوزراء الإثيوبي في خطاباته بهذا الشأن.
ويربط عمر في حديثه للجزيرة نت بين إقدام حكومة أرض الصومال على توقيع هذا الاتفاق وبين رغبتها في الحصول على اعتراف دولي، مبينا أنها بهذه الطريقة “نالت اعترافا إثيوبياً ضمنيا”.
لكن ليس هذا المكسب الوحيد للإقليم الانفصالي كما يرى عمر، فهناك دوافع اقتصادية لا يمكن إغفالها، موضحا أنها تتمثل “في الحصول على حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية، التي تعد كبرى شركات الطيران في أفريقيا، وهذا يشكل فرصة اقتصادية مهمة لأرض الصومال”.
الطريق لاعتراف دولي
ومنذ انهيار الدولة في الصومال عام 1991 أعلن إقليم أرض الصومال نفسه دولة مستقلة تحت اسم “جمهورية أرض الصومال”، وهو استقلال لم تعترف به السلطة المركزية في مقديشو، التي تعتبر الإقليم ولاية تابعة لها.
وخلال 3 عقود عمل الإقليم الانفصالي على نيل الاعتراف الدولي باستقلاله لكنه لم يفلح في هذا المسعى، في حين يرى مراقبون أن الاعتراف الإثيوبي قد يكون مقدمة لخطوات مماثلة من دول أفريقية أخرى.
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي عرض في خطابه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على الدول الساحلية المجاورة خيار الحصول على نسبة تصل إلى 30% في مؤسسات حيوية إثيوبية كسد النهضة أو الخطوط الإثيوبية أو شركة الاتصالات الإثيوبية، وذلك مقابل تأمين منفذ سيادي على البحر لبلاده، لكنه لم يجد قبولاً منها.
حضور إماراتي
مثّل موقع أرض الصومال الإستراتيجي على خليج عدن قريبا من باب المندب مطمعا للعديد من القوى، في سياق التكالب على القرن الأفريقي وموانئه الذي شهده العقد الماضي.
وفي هذا الإطار يبرز اسم الإمارات العربية المتحدة التي وقعت عبر شركتها العملاقة موانئ دبي العالمية اتفاقا مع أرض الصومال عام 2016 بقيمة 442 مليون دولار، لتشغيل مركز تجاري ولوجستي إقليمي في ميناء مدينة بربرة التجارية.
كما وقع الطرفان بعد سنتين من ذلك التاريخ اتفاقية لتطوير مشروع منطقة اقتصادية حرة تتكامل مع مشروع تطوير ميناء بربرة، لتحتفظ موانئ دبي بحصة تبلغ 51% من المشروع، الذي تم الانتهاء من المرحلة الأولى منه عام 2021 بما يمكّن الميناء من العمل بقدرة تشغيلية تصل إلى 500 ألف حاوية سنوياً.
ولهذا يربط بعض المراقبين مذكرة تفاهم أرض الصومال وإثيوبيا بموافقة إماراتية بالنظر إلى العلاقات المتينة التي تربط الأطراف الثلاثة، بجانب أن عائد أرباح دبي العالمية سيتزايد بشكل كبير في حال تحول ميناء بربرة إلى ممر رئيسي لتجارة إثيوبيا التي تشكل أكبر اقتصادات القرن الأفريقي.
جدير بالذكر أن اتفاق عام 2018 بين موانئ دبي وأرض الصومال وإثيوبيا ضمن حصول الأخيرة على حصة تبلغ 19% من ميناء بربرة، وهو ما لم يكتمل نتيجة فشل أديس أبابا في الوفاء بالشروط المطلوب إنجازها بحلول عام 2022.
تأثير خارجي
من جانبه، يذهب المحلل السياسي المختص في شؤون القرن الأفريقي عمر أحمد إلى أن هناك بعدا دوليا لا يمكن إغفاله في كواليس مذكرة التفاهم.
وأضاف أنها تأتي بضوء أخضر أميركي، فواشنطن، كما يقول أحمد، “تمثل أهم اللاعبين في المنطقة وتمتلك أكبر قاعدة عسكرية في جيبوتي، ولن يكون لإثيوبيا قاعدة بحرية في أرض الصومال المجاورة دون موافقة أميركية”.
وفي حديثه للجزيرة نت، ذكر أحمد أنه لا يمكن فصل هذه المذكرة عن “التطورات في باب المندب وإعادة تشكيل منطقة القرن الأفريقي بحيث يتماشى مع المصالح الأميركية مستقبلا، والحد من أي نفوذ روسي صيني في المنطقة”.
وتحتضن جيبوتي معسكر ليمونير الذي يعد القاعدة الوحيدة الدائمة للولايات المتحدة في القرن الأفريقي، وتقوم بأدوار أمنية وعسكرية حساسة مرتبطة بمكافحة “الإرهاب” في شرق أفريقيا واليمن.
وكان رضوان حسين المستشار الأمني لرئيس الوزراء الإثيوبي ذكر في تغريدة على موقع إكس أن التفاهم الحالي سيمهد الطريق لحصول إثيوبيا على قاعدة عسكرية على البحر الأحمر.
أزمة جديدة
يهدد التفاهم الإثيوبي مع أرض الصومال بإشعال أزمة بين مقديشو وأديس أبابا، حيث صوت البرلمان الصومالي بمجلسيه الشعب والشيوخ، بالإجماع، على إلغاء المذكرة، واعتبرها منافية للمواثيق والأعراف الدولية.
كما اعتبرتها الحكومة الصومالية “انتهاكا سافرا لسيادة الصومال”، مؤكدة أنها ستتخذ كل الإجراءات التي تمكنها من الدفاع عن سيادتها شعباً وأرضاً.
وسارعت مقديشو أيضا أمس الثلاثاء إلى استدعاء سفيرها في أديس أبابا للتشاور غداة الإعلان عن الاتفاق.
ويرى عمر أحمد أن رد الفعل الصومالي متوقع، مضيفا أن هناك آخرين في الإقليم سيشاركون مقديشو تخوفاتها.
ومن المرجح أن تكون دولة جيبوتي من المتحفظين على الاتفاق، حيث كانت تقود وساطة بين الصومال وأرض الصومال خلصت إلى توقيع الطرفين اتفاقية في 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي وضعت خارطة طريق لاستئناف التفاوض بينهما، وبعد يوم واحد جاءت مذكرة التفاهم لتنسف كل هذه الجهود.
ويضيف عمر أن استخدام أديس أبابا لميناء بربرة سيحرم جيبوتي من ميزة كونها المعبر الرئيس لواردات وصادرات إثيوبيا، مما يهددها بفقدان قدر معتبر من دخلها من الرسوم والضرائب.
توجس إريتري
وفي السياق نفسه فإن إريتريا تبدو متوجسة أيضا من حصول أديس أبابا على أي قواعد بحرية، “فالنظام الإريتري كان يسعى دوما لإبقاء إثيوبيا حبيسة”.
ويرى شفا عمر أن هذه الاتفاقية ستفاقم التوترات القائمة أصلا في المنطقة، موضحا أن هذا يبرز الحاجة “إلى التفاهم والتفاوض المستمر لاحتواء التداعيات”.
بالنسبة لنور الدين عبدا فإن الخطوة التي قامت بها إثيوبيا وأرض الصومال “محسوبة العواقب من الطرفين”، موضحا أن الخيار الأفضل بالنسبة إلى إثيوبيا هو “تحمل مخاطر التوترات، سواء البينية مع دول القرن أو الإقليمية، بدل الانتظار والمراقبة دون القيام بالإجراءات لتأمين أمنها القومي”.
وفي المقابل -يتابع عبدا- فإن أزمة أرض الصومال مع مقديشو قائمة أساسا، ولذا يمكنها المجازفة بالتصعيد معها مقابل الحصول على اعتراف وتنشيط الاقتصاد والتجارة.