القدس المحتلة- عشية الشهر السادس للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدت إسرائيل منقسمة على نفسها بشأن أولويات الحرب، لكنها مجمعة في ما بينها على استمرار قتال فصائل المقاومة الفلسطينية -وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)- على أن تكون بوصلة ذلك استعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين الموجودين في القطاع.
تشكل الرأي العام بين الجمهور الإسرائيلي الداعم للحرب نتيجة للصدمة الجماعية التي تلقاها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع بدء معركة “طوفان الأقصى”، والتي شكلت شعورا بالتهديد الوجودي، وبالتالي إجماعا واسع النطاق على أن إسرائيل تخوض حربا بلا خيار، وهذا ما روج له رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وعلى أساس التأييد الشعبي الإسرائيلي الواسع للغاية لأهداف الحرب وللعمليات البرية للجيش الإسرائيلي المتمثلة في إعادة جميع المحتجزين وتدمير الترسانة العسكرية للمقاومة الفلسطينية وإنهاء حكم حماس، ناور نتنياهو لإطالة أمد الحرب، وهو ما تلاقى مع مصلحته السياسية الشخصية بالبقاء على كرسي رئاسة الوزراء وتجنب المحاكمة بتهمة الفساد.
لكن ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجنود الإسرائيليين عكس حالة الفشل الإسرائيلي بالقضاء على حماس عسكريا وسياسيا، وشكّل ذلك تحديا كبيرا لقدرة المجتمع الداخلي على الصمود، وسط اتساع الاحتجاجات المطالبة بإبرام صفقة تبادل شاملة تضمن إعادة جميع المحتجزين، وهو ما ألقى بظلاله على المشهد السياسي والحزبي بإسرائيل.
خارطة الأحزاب
في ظل الحرب والسجال المتواصل بشأن تحقيق أهدافها وحالة الصدام في المسارين الدبلوماسي والسياسي مع البيت الأبيض ودول الغرب تشهد الخارطة السياسية الإسرائيلية حالة من الانقسام، ما بين التأييد المطلق والداعم لنتنياهو وبين المعارضة لسياساته في إدارة الحرب وملف المحتجزين.
فمن جهة، يحظى نتنياهو بدعم مطلق من كل من الائتلاف الحاكم برئاسة حزب الليكود، والمعسكر الحريدي ممثلا بحزب “شاس” برئاسة أرييه درعي، وحزب “يهودية التوراة” برئاسة موشيه غافني، ومعسكر اليمين المتطرف ممثلا بحزب “عظمة يهودية” برئاسة إيتمار بن غفير، وتحالف “الصهيونية الدينية” الذي يتزعمه بتسلئيل سموتريتش.
وفي الجانب الآخر، تبدي كتلة المعارضة تحفظا على نهج نتنياهو في إدارة الحرب وتضع ملف المحتجزين في سلّم الأولويات متمثلة بكل من حزب “هناك مستقبل” برئاسة يائير لبيد وحزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة أفيغدور ليبرمان وحزب العمل برئاسة ميراف ميخائيلي.
وعلى بعد من جميع مكونات الخارطة السياسية الإسرائيلية تقف الأحزاب العربية الممثلة في الكنيست معارضة للحرب، وهي “الجبهة والتغيير” برئاسة أيمن عودة والقائمة الموحدة برئاسة منصور عباس، وتدعو إلى انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، والبدء بعملية سياسية من أجل إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو/حزيران إلى جانب إسرائيل.
فشل نتنياهو
وفي قراءة لتباين هذه المواقف، يقول المحلل السياسي عكيفا إلدار “إن الاستمرار في الحرب والتيقن باستبعاد تحقيق أهدافها -خاصة إنهاء حكم حماس مدنيا وتحرير المحتجزين- عززا الاعتقاد السائد في المشهد السياسي الإسرائيلي بأن نتنياهو يوظف إطالة أمد الحرب لمصالحة الشخصية للبقاء في الحكم”.
وأوضح المحلل السياسي للجزيرة نت أن “نتنياهو -الذي لن يتردد بتفكيك حكومة الطوارئ والاستغناء عن التحالف مع المعسكر الوطني برئاسة بيني غانتس– يحظى حتى الآن بدعم الائتلاف الحكومي الذي يعتمد على اليمين المتطرف والأحزاب الحريدية، حيث يبدو هذا الائتلاف المكون من 64 عضوا في الكنيست متماسكا، باستثناء موقف وزير الأمن يوآف غالانت الذي يعارض سياسات نتنياهو في إدارة الحرب”.
ولفت إلى أن التقاء مصالح الائتلاف الحاكم يمنح طوق نجاه لنتنياهو، ويمكنه من مواصلة المناورة والاستمرار بالحرب وتحدي الإدارة الأميركية التي تراهن على غانتس كورقة ضغط داخلية، فهو يلتقي مع واشنطن بكل ما يتعلق في أولويات الحرب.
واستذكر إلدار التوتر والخلافات بين نتنياهو وغالانت بكل ما يتعلق في سير الحرب، والتجاوب مع مطالب الرئيس جو بايدن بشأن صفقة التبادل وتنفيذ وقف مؤقت لإطلاق النار، وإحداث تغييرات في تركيبة الائتلاف الحكومي.
ويعتقد المحلل السياسي أن نتنياهو -الذي يواجه أزمات داخلية متعددة تتمحور حول فشله في تحقيق أهداف الحرب- يجد نفسه قبالة محطة مفصلية في مسيرته السياسية بسبب قانون تجنيد الحريديم، وهو القانون الذي يحظى بدعم أغلبية الأحزاب السياسية من الائتلاف والمعارضة.
أثر الحرب
بدوره، يقول المتحدث باسم كتلة “السلام الآن” آدم كلير إنه “مع مرور الوقت وتكشف حقيقة عدم تحقيق أهداف الحرب واحتدام المعارك والاشتباكات في شمال ووسط القطاع -وهي المناطق التي زعم الجيش الإسرائيلي السيطرة عليها- تباينت المواقف بشأن أولويات الحرب حتى داخل حكومة الطوارئ”.
وأوضح كلير -وهو ناشط في الحراك الداعي لتحرير المحتجزين ووقف الحرب- للجزيرة نت أن “هذه الخلافات تعكس تصاعد الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي والمطالبة بوقف الحرب واستعادة جميع المحتجزين مهما كان الثمن، وساهمت بتقويض التضامن الاجتماعي العام والمرونة، وباتت تلقي ضوءا سلبيا على ملف المحتجزين والدعم الشعبي للمجهود الحربي”.
وأضاف أن “الحرب الطويلة والإخفاق العسكري في تحقيق أهداف الحرب ساهما في إحداث تصدعات في الإجماع الشعبي الإسرائيلي بشأن استمرار الحرب التي توسعت إلى جبهات إضافية، وأصبحت معقدة مع بقاء الأغلبية العظمى من المحتجزين في الأسر”.
وأشار كلير إلى أن “المعارضة تختلف مع نتنياهو في أولويات الحرب وليس في مبدأ القتال، وتضع ملف تحرير المحتجزين في سلّم الأولويات، لكنها تسعى لاستغلال الأزمات والضغوطات الخارجية وكافة الظروف التراكمية من أجل استبدال نتنياهو في الكنيست الحالي أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة في ظل الحرب والانقسامات”.
شرخ مجتمعي
في الآونة الأخيرة عادت الخلافات والانقسامات السياسية إلى الواجهة في الخطاب العام الإسرائيلي، بحسب تقدير موقف صادر عن مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، مما يشكل تحديات كبيرة أمام المرونة الاجتماعية في إسرائيل.
ووفقا لتقديرات الجنرال مائير ألران المساعد السابق لرئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان) والمتخصص في علم الاجتماع عنات شبيرا اللذين صاغا تقدير الموقف لمركز الأبحاث، فإن “استمرار الحرب وعودة الخلافات والانقسامات أظهرا تقويض التضامن الاجتماعي وقللا الثقة في الأنظمة والمؤسسات الإسرائيلية المختلفة وطريقة اتخاذ القرارات، وألقيا ظلالا من الشكوك على دوافع منظمات المجتمع المدني والأحزاب”.
ويعتقد ألران وشبيرا أنه “يتعين على صانعي السياسات والسياسيين في إسرائيل توخي الحذر الشديد لتجنب الخطاب السياسي السام والمهين، وتجنب التصويت باستقطاب سياسي في القضايا الحساسة المتعلقة بالحرب والتي طفت الخلافات بشأنها، مثل قضية المحتجزين، الأمر الذي من شأنه أن يعمق الشرخ في المجتمع الإسرائيلي ويظهر هشاشة الجبهة الداخلية”.
باختصار، يقول ألران وشبيرا في تقدير الموقف إن “عودة الخطاب السياسي المسموم والانقسام قد يكونان عاملين سلبيين كبيرين في بناء القدرة الاجتماعية اللازمة لتعافي المجتمع الإسرائيلي من الأزمة الحادة وتداعيات الحرب والآثار والتراكمات السلبية، مما من شأنه أن يسهم بتعميق الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، حتى بالقضايا المتعلقة بالحرب والمحتجزين”.