يأمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرض “هدنة أولمبية” يتم بموجبها تعليق الأعمال العسكرية بين روسيا وأوكرانيا بمناسبة الألعاب الأولمبية التي تحتضنها باريس صيف 2024. وهي هدنة تمثل تقليدا في الألعاب القديمة ولها جذور تعود إلى حقبة اليونانيين.
مع ذلك تتحضر باريس لأسوأ السيناريوهات الممكنة، فبعد هجوم 22 مارس/آذار الماضي، الذي استهدف قاعة للحفلات في موسكو وتبناه تنظيم الدولة الإسلامية، أعلن مجلس الدفاع والأمن الوطني في فرنسا رفع درجة اليقظة الأمنية إلى أعلى مستوى تحسبا لهجمات محتملة، وذلك لأول مرة منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعد حادثة اغتيال البروفيسور دومينيك برنارد طعنا.
لكن الأمر لا يتوقف على التهديدات المحتملة لتنظيم الدولة الإسلامية، إذ تعتقد باريس أن الخطر الروسي يشكل أكبر تحد أمني لها قبيل انطلاق الألعاب الأولمبية.
هدنة تصطدم بشكوك
ومع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهد بالاستعداد لمناقشة أي مقترحات أو ملفات خلافية مع الغرب، ردا على دعوة الرئيس الفرنسي، فإنه لا يمكن الحديث عن ضمانات مسبقة حول هدنة فعلية على الأرض.
بالعودة إلى نداء الأمم المتحدة في ترسيخ الهدنة الأولمبية، فإن التقليد الإغريقي القديم المسمى “إيكيتشيريا” ولد في القرن الثامن قبل الميلاد، وشكل المبدأ المقدس الذي تسند إليه الألعاب الأولمبية.
وعام 1992 جددت اللجنة الأولمبية هذا التقليد بأن دعت سائر الأمم إلى مراعاة هذه الهدنة. ومن جهتها، حثت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء في قرارها 48/11 المؤرخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1993 على مراعاة الهدنة الأولمبية ابتداء من اليوم السابع قبل افتتاح الألعاب الأولمبية وحتى اليوم السابع الذي يلي اختتامها.
وبداية من عام 1994، شرع رئيس الجمعية العامة في إصدار نداء رسمي لمراعاة الهدنة، يصدر النداء الرسمي كل عامين قبل بداية دورة الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية والبارالمبية.
ولطالما وجّه الغرب اتهامات لموسكو بعدم احترامها الهدنات المعلنة، من بينها اجتياح القوات الروسية لجورجيا عام 2008 بالتزامن مع أولمبياد بكين، وضم شبه جزيرة القرم بالقوة في 2014 خلال الألعاب الشتوية بسوتشي، واجتياح أوكرانيا في 2022 بعد 4 أيام من انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين.
وبالنسبة لأولمبياد 2024، صوتت الدول في الجمعية العامة بالإجماع على مشروع قرار من أجل هدنة أولمبية، مع احتفاظ دولتي سوريا روسيا بصوتيهما.
ولكن، هل إعلان “الهدنة” يتعين أن يشمل فقط التوقف عن تحريك البنادق؟
تكتيكات “الحرب الهجينة”
تشارك باريس باقي عواصم الاتحاد الأوروبي الخوف من توسع موسكو في تكتيكات “الحرب الهجينة” التي تخوضها ضد أوكرانيا وحلفائها الغرب عبر الهجمات السيبرانية، والتلاعب بالمعلومات وتسلل العملاء المسؤولين عن عمليات زعزعة الاستقرار.
من جهتها، نقلت صحيفة لوموند الفرنسية أن الأمر يتعلق بـ”حرب استنزاف” تبرز آثارها أكثر في قطاع الخدمات والجيوش، واستدلت في تحليلها بأن جميع من واجهوا الروس في جهاز الدفاع الفرنسي، لاحظوا توجها أكثر “اندفاعا” ودون قيود اتخذته موسكو في هذه الحرب ضد الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
من أوجه الخطر المحدق التي تخشى باريس وقوعه، ما كشف عنه وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو من أن نظام المراقبة الجوي الروسي هدد بضرب مقاتلات فرنسية كانت تحلق في أثناء دورية في منطقة دولية حرة فوق البحر الأسود.
وفي فبراير/شباط 2024، كشف الوزير عن وقوع قرابة 100 تفاعل عدواني سيبيرني صادر عن موسكو من بينها 70 موجهة لأهداف أوروبية.
وفي حديث للجزيرة نت، يقول زيد العازم، المحلل السياسي والعضو في حزب “النهضة” الفرنسي، إن احتمال الخطر الروسي جدي وحقيقي، وفرنسا تأخذه على محمل الجد بشكل واسع.
وأضاف أن الحكومة الفرنسية كشفت بالفعل عن احتمال استخدام روسيا طائرات بدون طيار لشن هجمات على باريس يوم افتتاح الألعاب، بجانب احتمال استهداف القراصنة الروس أنظمة المعلوماتية وشبكات الإنترنت لتعطيل الألعاب.
“حرب عصابات إلكترونية”
وفي مقال نشر بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية أغسطس/آب 2023، رأى الكاتب والمحلل السياسي مايكل ميكلوتشيتش أن أوكرانيا تمثل جبهة لقتال أوسع نطاقا في إطار حرب تستهدف تحديد لمن تكون الغلبة والتفوق في النظام العالمي الجديد.
وأوضح الكاتب أنه بعيدا عن قوة السلاح والقدرات القتالية لروسيا، فلدى موسكو أدوات أخرى سبق أن استخدمتها في صراعات سابقة لإحداث الفوضى في دول الغرب والإضرار بمصالحها، مثل تدخلها في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، وإطلاق برمجيات “نوتبيتيا” الخبيثة إلى الإنترنت بمعرفة جماعة القرصنة الإلكترونية “ساندوورم” (Sandworm) المدعومة من الكرملين، علاوة على آلة الحرب المعلوماتية الروسية التي يمكنها أن تربك أي دولة.
وفي ضوء تلك القدرات، تقول صحيفة لوموند إنه يتعين على فرنسا، مثل الدول الأخرى، أن تواجه “حرب عصابات إلكترونية” حقيقية.
وللمقارنة، أحصى كليو كولومب، المحاضر في جامعة باريس، ونيكولاس هيرنانديز رئيس شركة “الاف ناتوورك”، وهي شركة متخصصة في الاستخبارات مفتوحة المصدر، قرابة 25 هجوما سيبرانيا شهريا في العالم مرتبطة بالحرب في أوكرانيا في الفترة ما بين يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران 2022، ليرتفع العدد إلى نحو 200 شهريا بدءا من فبراير/شباط 2023.
ووفق تقرير الصحيفة الفرنسية، تمثل هجمات الهويات المزيفة وتشفير البيانات، الهاجس الأكبر لجميع المنصات في فرنسا، وهي لم تعد مقتصرة على منصات صناعة الدفاع والشركات المناولة لها وإنما شملت أطرافا ثالثة، مثل شركات المحاماة والمحاسبين والخدمات وغيرها.
وتحذر لوموند من أن موسكو تحتاج إلى تطوير شبكاتها في الخارج، خاصة في أوروبا، لتنفيذ حربها “الهجينة” التي تجمع بين الوسائل التقليدية والتكنولوجية، فعلى الرغم من الضربة الكبيرة التي تلقاها نظامها منذ بداية الصراع، مع قيام الغرب بطرد نحو 600 من العملاء الناشطين تحت غطاء دبلوماسي وزيادة اليقظة بشأن التأشيرات الممنوحة في جميع أنحاء أوروبا، فقد تمكنت موسكو، خلال عامين، من إعادة تنظيم نفسها إلى حد كبير وإعادة نشر جزء من عملائها في بلدان تقع على أطراف أوكرانيا.
وتقول لوموند إن فرنسا تعمل، على غرار بريطانيا، على ضمان عدم قيام موسكو بإعادة تشكيل فريق عملائها قبل الحرب، والمقدر آنذاك بنحو 80 عميلا، كانوا يعملون تحت غطاء دبلوماسي.
ومع ذلك يشير جوليان نوسيتي، الباحث المشارك في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والمتخصص في الصراعات السيبرانية والرقمية، إلى أن باريس “لم تجد بعد الوسائل المناسبة لمواجهة هذه الحرب الهجينة الشاملة” التي تقودها روسيا عبر نافذة الحرب في أوكرانيا.
الدعاية المضادة
تشكو باريس، مضيفة الألعاب الأولمبية، أيضا من دعاية “ممنهجة” نشطة ضد صورتها بجانب دعوات للمقاطعة، اتهمت فيها موسكو، وجزئيا أذربيجان، بالوقوف وراءها، عبر شن حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي تركز على التخويف من أزمة “بق الفراش” وتفشي الجرذان في الشوارع، ووصلت الحملة إلى حد تعويض تعويذة الأولمبياد بحشرة البق والجرذ بالتناوب.
وفي حين حذر الوزير المنتدب المكلف بالشؤون الأوروبية لدى الحكومة الفرنسية جان نويل بارو من افتعال “رابط زائف” بين انتشار بق الفراش ووصول اللاجئين الأوكرانيين إلى فرنسا، تحدثت قناة “تي إف 1” الفرنسية عبر عمليات تحري وتدقيق عن انتشار تقارير مقلدة لواجهات الصحف الفرنسية على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تربط بشكل مباشر بين تفشي المشكلات البيئية والصحية والعقوبات الغربية ضد روسيا.
كما شكت باريس أيضا من انتشار حسابات تديرها روبوتات وتنشر مقاطع فيديو يعاد بثها تلقائيا، إذ يحذر أحد المقاطع علنا من وقوع هجمات في أثناء دورة الألعاب الأولمبية، ومع أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية نفت وجود تحذيرات رسمية، فإنها تأخذ جميع الاحتمالات على محمل الجد.
وحسب تحليل السياسي الفرنسي زيد العظم للجزيرة نت، فإن روسيا تريد من وراء خطواتها وسياساتها اتجاه باريس الانتقام لمسألتين: الأولى تتعلق بالدعم الفرنسي القوي لأوكرانيا في الحرب، والثانية ترتبط بحرمان الرياضيين الروس من رفع العلم الروسي خلال دورة الألعاب الأولمبية.
ووفق المحلل، فإن ما يؤكد أن باريس تأخذ التهديدات الروسية بجدية كبيرة هو انطلاق الجيش الفرنسي في تنفيذ مناورات للتدرب على صد هجمات سيبرانية شاملة.
قيود جديدة وخطوات احترازية
كان تحرك باريس الاحترازي موازيا لتحرك أوسع نطاق شمل الدول الأعضاء في التكتل الأوروبي. فقد قرر المجلس الأوروبي مارس/آذار الماضي فرض إجراءات تقييدية جديدة على 106 أفراد و88 كيانا إضافيا، اعتبرهم مسؤولين عن أعمال تقوض أو تهدد سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها.
وإجمالا، تنطبق التدابير التقييدية التي فرضها الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالحرب الأوكرانية، على أكثر من ألفي فرد وكيان، ويخضع الأشخاص المعنيون إلى تجميد أصولهم وحظرهم من السفر، مما يمنعهم من الدخول أو العبور عبر أراضي الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الأراضي الفرنسية.
كما أضاف المجلس الأوروبي 27 كيانا جديدا إلى قائمة الجهات التي تدعم بشكل مباشر المجمع العسكري والصناعي الروسي في حربها على أوكرانيا، ووفق قرار المجلس، سوف تخضع هذه الكيانات لقيود تصدير أكثر صرامة فيما يتعلق بالسلع والتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج، فضلا عن السلع والتكنولوجيا التي قد تسهم في التعزيز التكنولوجي لقطاع الدفاع والأمن في روسيا.
ومع أن موسكو شكت مرارا مما وصفته بالتمييز والإهانة ضد رئيسها فلاديمير بوتين ورياضييها على خلفية استبعادهم من المشاركة في الألعاب ودورات دولية أخرى، بسبب الحرب في أوكرانيا، إلا أن الدوائر السياسية والرياضية في روسيا لم يصدر عنها أي نية رسمية لمقاطعة روسية محتملة لأولمبياد باريس 2024.
وقال وزير الرياضة الروسي أولاغ ماتياسين “لا يتعين علينا أن ندير ظهرنا أو نقاطع الألعاب، بل السعي إلى الحوار والمشاركة في بعض الألعاب”.
رياضيون محايدون
واستبعدت اللجنة الأولمبية الدولية الرياضيين الروس من المشاركة أولمبياد باريس بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، لكنها وافقت في ديسمبر/كانون الأول 2023، على قبول الروس والبيلاروس في الألعاب بوصفهم رياضيين فرديين محايدين.
ثم قررت اللجنة أيضا حظر مشاركتهم في حفل الافتتاح، مع فرض شرط بألا يظهروا أي رمز إلى جنسيتهم وانتمائهم في حال فوزهم بميداليات، الأمر الذي اعتبر على نطاق واسع في موسكو تمييزا يتعارض مع الروح والمبادئ الأولمبية ومع قوانين الاتحاد الروسي.
وحسب ما نقلته وكالة “ريا نوفستي” الروسية، استبعدت سفيتلانا زوروفا النائبة الأولى لرئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس “الدوما” الروسي والبطلة الأولمبية في التزلج السريع، مشاركة الرياضيين الروس في أولمبياد باريس 2024، موجهة في الوقت نفسه اتهاما إلى اللجنة الأولمبية الدولية بمحاولة تقسيم المجتمع الروسي.
وفي كل الأحوال ورغم انتقاداته العلنية لقرار اللجنة الأولمبية، فإن وزير الرياضة الروسي ذكر بأن قرار مشاركة الرياضيين الروس في الألعاب سيعود في نهاية المطاف إلى الرياضيين أنفسهم.
لكن المشاركة ربما لا تقصي نهائيا أي تحرك انتقامي محتمل من موسكو بما في ذلك الهجمات السيبرانية، بسبب “التمييز الممنهج”، وهو ما يخشاه مراقبون في الغرب.
هجوم كروكوس
وتعززت هذه المخاوف بعد الهجوم على حفل في قاعة “كروكوس سيتي هول”، الذي لم تستبعد فيه روسيا تواطئا من الخارج، تحديدا من كييف وحلفائها الغرب، في تحريك عناصر تنظيم الدولة بهدف “ضرب الوحدة الوطنية”، كما جاء في تصريحات الرئيس بوتين.
ومع أن فرنسا أعلنت إدانتها الكاملة للهجوم وتضامنها مع موسكو، في محادثات بين وزيري الدفاع في البلدين هي الأولى منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، إلا أنه لا توجد مؤشرات فعلية على تجاوز التوتر.
وكانت اتهامات وزارة الدفاع الروسية صريحة تجاه وباريس وعواصم غربية بشأن الدفع بجنود مرتزقة لقتال القوات الروسية في أوكرانيا، ومن بينهم مرتزقة فرنسيون قدرت عددهم بنحو 350 جنديا.
وقد أرسل مكتب المدعي العام الروسي بالفعل طلبات إلى كل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وقبرص للمساعدة في التحقيقات وضمان إلحاق العقاب بالمسؤولين عن الأعمال الإجرامية وفق الاتفاقيات الدولية.
وتبقي تلك التطورات المتلاحقة والأوضاع المتشابكة في حرب أوكرانيا الأبواب مفتوحة بشأن ما قد يحدث على خط التماس بين روسيا والغرب بما في ذلك الأولمبياد المرتقب صيف 2024.