أولمبياد باريس 2024.. الوجه الآخر لعاصمة الأنوار

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

في حين تجري المياه في نهر “السين”، تستعد العاصمة الفرنسية باريس على قدم وساق لاحتضان دورة الألعاب الأولمبية الصيف المقبل، ولا يتعلق الأمر بالتحضير اللوجيستي أو الهاجس الأمني فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تحدٍّ آخر يشمل وجه الشوارع والساحات وضواحي العاصمة.

وتقود باريس، مهد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على امتداد أشهر، حملة صامتة لإبعاد المشردين والمهاجرين غير النظاميين، بهدف تصدير صورة مثالية لعاصمة الأنوار، لكن روائح هذه السياسة بدأت تفوح لدى المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وتثير أسئلة بشأن مدى احترام القيم الأولمبية للألعاب نفسها.

أهداف الفكر الأولمبي

من بين أهداف الفكر الأولمبي، كما تحددها الحركة الأولمبية على موقعها الرسمي، “تسخير الرياضة لخدمة التنمية البدنية المتجانسة، بغية تشجيع إقامة مجتمع يسوده السلام، ويعنى بالمحافظة على كرامة الإنسان، ويساهم في بناء عالم أفضل عن طريق استثمار ممارسة الرياضة في تعليم الشباب الفكر والقيم الأولمبية”.

وتمثل “الصداقة” ركنا أساسيا في أهداف الفكر الأولمبي، من خلال التشجيع على استثمار الرياضة كوسيلة للتفاهم والتواصل المتبادل بين الأفراد والشعوب والثقافات في كل أنحاء العالم ومد جسور الصداقة، وتبادل الخبرات، وتوطيد العلاقات بين كافة منتسبي الحركة الأولمبية.

هناك تضارب بين القيم الأولمبية وسياسات باريس على أرض الواقع (شترستوك)

وفي تعريف الفكر الأولمبي، تسعى الألعاب الأولمبية والألعاب الرياضية ذات الصلة إلى تكريم الإنسان، وجعل الرسالة الإنسانية القيمة المثلى في العلاقات المتبادلة، ومحاربة كافة أشكال العنصرية والتغلّب على الفوارق السياسية والاقتصادية والدينية.

كما تصنف الحركة الأولمبية “الاحترام” كقيمة أساسية في الألعاب، تقوم أولا على احترام الإنسان واحترام الأفراد لبعضهم البعض، والاحترام المتبادل للثقافات المختلفة التي تجمعها المنافسات الرياضية.

وفي حديثه مع الجزيرة نت، يشير الناشط الحقوقي والمحامي عبد المجيد مراري، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة “إيفدي” لحقوق الإنسان في باريس، إلى التضارب الواضح بين القيم الأولمبية وسياسات باريس -مضيفة الألعاب- على أرض الواقع.

ويقول مراري إن “السياسات تخالف القيم المنصوص عليها في الإعلان المؤسس للألعاب الأولمبية، فمن غير الأخلاقي استهداف الإنسان بسياسات تمس الكرامة وتضرب قيم الصداقة، وهذا يعطي صورة خاطئة عن الألعاب، وكأننا عبر عمليات الإبعاد نريد أن نخفي شيئا ما”.

ويضيف الناشط الحقوقي والخبير في القانون خلال تعليقه أن هذه السلوكيات ليست فقط منافية للقيم الأولمبية وحقوق الإنسان، لكنها أيضا منافية للقيم الدستورية التي قامت عليها الجمهورية الخامسة، كما هي منافية لروح الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تعد المرجع الأساسي الذي ينبغي أن يضبط سلوكيات السلطات الفرنسية.

حملات ممنهجة

في منطقة “سين سانت دوني” بضاحية باريس، كان يعيش قرابة 400 من المشردين، أغلبهم قدموا من أفريقيا، في مبنى عشوائي مهجور كان فيما مضى مقرا لمكاتب.

لكن منذ أبريل/نيسان 2023 اضطروا جميعا لحزم أمتعتهم ومغادرة المكان إلى وجهة أخرى بقرار من الأجهزة الأمنية الفرنسية، وكانت السلطات القضائية قد أصدرت بالفعل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020 قرارا بالإخلاء، بحجة أن المبنى غير صالح للسكن.

ولا يمثل هذا المشهد سوى جزء من حملة واسعة النطاق تشمل الشوارع والساحات والجسور في باريس والضواحي بدأت قبل أشهر من انطلاق الألعاب، وتصاعدت الحملة مع إخلاء مخيمين مخصصين للقاصرين غير المرافقين في بداية مارس/آذار 2024، وهو ما يعد أمرا نادرا من قِبل السلطات.

وفي مارس/آذار 2024، تم إخلاء مبنى آخر في ضاحية “فيتري” من المئات من ساكنيه من المهاجرين واللاجئين إلى وجهة غير معلومة، وقبل سنوات كان المبنى يأوي في المعدل قرابة 200 شخص، لكن مع تواتر عمليات الطرد والإخلاء من نقاط أخرى بضواحي باريس تضاعف عدد ساكنيه.

ومن بين أكثر من 450 شخصا، تم إخلاؤهم من المبنى، فإن 40% يتمتعون بصفة لاجئ وفق منظمة “ميغرانتس يونايتد”، بينما 43% هم من طالبي اللجوء و17% مهاجرون من دون وثائق، وتقر المنظمة بوجود أزمة سكن وإيواء حادة في فرنسا لاستيعاب الأعداد المتزايدة من اللاجئين.

ومع أن الحكومة أعلنت عن فتح عدد محدود من مراكز للإيواء في مدن أخرى، مثل مرسيليا وليون وتولوز وبوردو، فإن نحو 80 منظمة نددت بما يحدث من مطاردات وعمليات طرد جماعي، ووصفتها بأنها عملية “تطهير اجتماعي”، بينما اعتبرتها نقابات مدافعة عن تجارة الجنس بمثابة “الحجر الاجتماعي”.

ولاحظت صحيفة “ليبيراسيون” في تقرير موثق، تصعيدا في حملات الإبعاد منذ سبتمبر/أيلول 2023، ومع نهاية العام تم تسجيل 17 عملية أمنية لإخلاء مباني إيواء عشوائية أو مخيمات لاجئين. وفي مقارنة مع وتيرة هذه العمليات الأمنية في الماضي فإنها لا تتعدى معدل العملية الواحدة في الشهر.

حملات واسعة ضد اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين في باريس تتزايد مع اقتراب موعد الألعاب الأولمبية  (الأناضول)

ويشير المحلل السياسي عن مركز الدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ، في حديثه مع الجزيرة نت، إلى أن هذا التناقض بين باريس الحضارية من جهة وباريس “غير الحضارية” من جهة أخرى، ليس وليد اليوم لكنه يتزايد ويتفاقم مع الأيام.

ويتساءل الشيخ ما إذا كانت عمليات “التطهير الاجتماعي” ستفضي في نهاية المطاف إلى الحد من تناقضات باريس أم ستزيد من حدتها، ويرى أنه كان من الأجدى تبني إجراءات أخرى أكثر إنسانية تليق بفرنسا وحضارتها بعيدا عن التوظيف السياسي للمشاكل التي يطرحها وجود عدد كبير من المشردين ضحايا البؤس وسياسات التضخم والغلاء.

وفي ظل الانتقادات الموجهة لسياسات باريس، يشارك الشيخ السؤال ذاته الذي يطرحه كثير من المراقبين: “أي قناع سترتديه باريس عند إطلاق شارة الألعاب؟”.

العديد من منظمات غير الحكومية مدافعة عن حقوق الإنسان تفاعلت مع إجلاء المهاجرين غير الشرعيين (الفرنسية)

إحباط في عاصمة الألعاب الأولمبية

بعيدا عن الوجه المرتقب للألعاب، لا تخفى حالة الإحباط عن الآلاف الذين يعيشون بلا مأوى في باريس والمقيمين من دون أوراق ثبوتية، أو ممن تقدموا بطلبات للحصول على إقامات منذ سنوات لكنهم لا يزالون يعيشون في وضع معلّق.

ويتفادى هؤلاء البقاء في مراكز الإيواء الدائمة أو المؤقتة التي توفرها الدولة بسبب وضعهم الإداري.

وقد شارك في باريس وحدها الآلاف من المهاجرين في أكثر من مسيرة للمطالبة بتسوية وضعياتهم لكن دون جدوى.

ويزداد الوضع قتامة مع تمرير الجمعية الوطنية في يناير/كانون الثاني 2024 قانون هجرة معدلا يفرض المزيد من القيود على المهاجرين غير النظاميين، وليس واضحا مصير القانون بعد إعلان المجلس الدستوري عن تحفظاته بشأن عدد من بنوده.

وفي تحقيق نشرته صحيفة “ليبيراسبون” في شهر مارس/آذار الماضي يواجه عدد من المهاجرين المستجوبين ضغوطا مزدوجة، فمن جهة يتعيّن عليهم التجاوب مع السلطات لإخلاء الكثير من المناطق السوداء لحماية صورة العاصمة في الإعلام الدولي.

ومن جهة أخرى، يواجه كثيرون منهم حملات تنمر على مواقع التواصل الاجتماعي مصدرها بلد المنشأ، بسبب الوضع المهين الذي تردوا فيه بفرنسا رغم المتاعب والصعوبات الكبيرة التي رافقت مشوار هجرتهم حتى وصولهم الى الأراضي الفرنسية.

بالنسبة للشاب غودفراي، طالب اللجوء القادم من نيجيريا مع زوجه منذ 2017، فإنه يعاني من حالة يأس متقدمة، وهو لا يرى أي أفق واضح لبنتيه الصغيرتين، وقال في يأس للصحيفة الفرنسية “باريس لم توفر لنا العمل ولا المسكن”.

في الأثناء يقضي الشاب النيجيري معظم ساعات النهار في طلب خدمة سكن الطوارئ على الرقم 115 عشرات المرات، من أجل الحصول على فرصة إيواء لعائلته الصغيرة.

وعلى النقيض من ذلك، فإن فرصة محمد، القادم من أفغانستان، تعد ضعيفة للحصول على سكن طوارئ، لذا فهو يقضي أغلب أيام الأسبوع بحثا عن مسكن ما يضطره للمبيت في مبانٍ عشوائية أو في الشوارع، ويقول للصحفية “لا أعرف حتى متى يمكنني الصمود”.

نحو 17 ألف شخص تعرضوا للطرد والترحيل من فرنسا عام 2023 (الفرنسية)

وفي حين يتم قبول طلبات لجوء بنِسب أعلى للقادمين من السودان بسبب الحرب وخطر المجاعة المحدقة بالبلد هناك، فإن باقي المهاجرين القادمين من دول أخرى من القارة تعد فرنسا أغلبهم في وضع مخالف للقانون.

ويعتمد أغلب هؤلاء على ضربة حظ لتسوية أوضاعهم عبر إمكانية الحصول على فرصة عمل بأجور متدنية، ما يمهد لتسوية محتملة لإقامتهم في آجال محددة لا تقل في المعدل عن 4 أو 5 سنوات في أفضل الحالات.

لكن هذه الآمال تلقت ضربة قوية مع سياسات تشديد القيود على المهاجرين غير النظاميين في قانون الهجرة الجديد، ومن ثم أيضا ميثاق إدارة الهجرة المصادق عليه في البرلمان الأوروبي في 10 أبريل/نيسان 2024.

ووفق بيانات وزارة الداخلية الفرنسية، لم تشهد عمليات تسوية إقامات المهاجرين غير النظاميين في عام 2023 سوى زيادة بنسبة 0.3% مقارنة بعام 2022، وزيادة بنحو 5% للعمال من دون أوراق.

وفي المقابل، عرفت عمليات الطرد والترحيل عن التراب الفرنسي نحو 17 ألف شخص، أي زيادة بنسبة 10% في 2023 مقارنة بعام 2022.

أولوية مؤجلة

يبلغ تعداد المشردين بلا مأوى في فرنسا أكثر من 330 ألفا حتى عام 2022، بحسب بيانات منصة “ستاتيستا” الإحصائية، وكان العدد في حدود 143 ألفا عام 2017، ولا تؤشر هذه الزيادة اللافتة والتي تجاوزت الضعف في خلال 5 سنوات، إلى رغبة حقيقية من الحكومة لاحتواء مشكلة الإيواء.

أدت إزالة العشوائيات والمخيمات إلى تفاقم حالة المشردين في باريس (غيتي)

ومع أن أعداد المشردين بلا مأوى في شوارع العاصمة باريس تناقص بشكل لافت في فترة تفشي وباء كورونا، بسبب توفير المزيد من مراكز الإيواء، فإن العدد عاد للارتفاع منذ 2023.

وفي يناير/كانون الثاني 2024، أحصت تظاهرة “ليلة التضامن” السنوية قرابة 3500 مشرد بلا مأوى في شوارع باريس، من بينهم حوالي 500 من القاصرين، في زيادة تقدر بنسبة 16% عن العام الماضي، وتقول العضو بلجنة تنظيم التظاهرة ليا فيلوش إن “العدد هو بمثابة إنذار للحكومة المطالبة بوضع هذا الملف ضمن أولوياتها”.

وبعد إعلان اللجنة الأولمبية بفوز باريس في 2017 باستضافة الألعاب، أعلنت بلدية العاصمة في وقت لاحق عن خطط لرفع أعداد مساكن الطوارئ إلى نحو 30 ألفا باحتساب الفنادق الاجتماعية لمجابهة تدفق المهاجرين وأزمة السكن في الشوارع في فصل الشتاء.

غير أن تلك الخطط التي أعلنت عنها السياسية الاشتراكية ورئيسة البلدية آن هيدالغو، لم تؤد إلى احتواء المشكلة، وقد طالبت، من جهتها، وزير الداخلية جيرالد دارمانان بإيجاد الحلول بدلا من ملاحقة المهاجرين وتفكيك المخيمات.

وفي يناير/ كانون الثاني 2024، كشفت الحكومة عقب موجة برد عن خطة لتخصيص تمويلات جديدة بقيمة 120 مليون يورو لتوفير 10 آلاف ملجأ للمشردين على المستوى الوطني، لكن المقترح ظل موضع خلاف مع المجالس البلدية بسبب تنازع الاختصاص.

وفي نظر نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان، لا تعكس الأزمة تعثرا في عمل الحكومة فحسب، ولكن أيضا عن انتهاك للمعايير الأخلاقية بسبب التنكر لعدد كبير من العمال من المهاجرين غير النظاميين الذين تم استخدامهم في تشييد المنشآت الرياضية المخصصة للألعاب الأولمبية.

وكشف المحامي والناشط الحقوقي في باريس عبد المجدي مراري للجزيرة نت، وجود دعاوى قضائية بالفعل، قامت بتحريكها نقابة العمال ضد تشغيل مهاجرين من دون وثائق، وفي ظروف غير إنسانية في عدد من المنشآت التي ستحتضن الألعاب الأولمبية.

ويتابع مراري في ملاحظته “هؤلاء مهاجرون أو لاجئون، ينبغي تسوية وضعهم، خاصة منهم من قضى سنوات في فرنسا، ومنهم من دفعته الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية للجوء إليها، هذه الوضعيات تحكمها ضوابط وقوانين واتفاقيات دولية”.

ويشير الخبير في تعليقه “للأسف يحصل هذا مع تنامي فكر اليمين المتطرف الذي يساعد على هذه الممارسات بدل أن يسوي هذا الملف بعيدا عن المقاربة الأمنية والسلوكيات المحطمة للكرامة الإنسانية”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *