تِنْسَكْتْ- “من فضلكم، زوروا مدرسة دوار تِنْسَكْتْ، لا تنسوها خلال جولتكم بمنطقة الحوز، زوروها من فضلكم”، بلهجة حزينة حارقة خاطبنا أحد المعلمين الذين مروا من هنا قبل سنوات، والذي صدم عندما علم بمصير هذه المدرسة المنكوبة بعد الزلزال العنيف.
فالمدرسة لم يختلف مصيرها عن مصير دور القرية، والسكان ما يزالون ينتظرون -بعد مرور نحو أسبوعين على الزلٰزال- وصول الخيمة الكبيرة التي ستستغل لتدريس تلاميذ المرحلة الابتدائية بشكل مؤقت في انتظار إعادة بناء مدرسة جديدة.
أما تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية، فقد قررت السلطات نقلهم إلى مدينة مراكش لمتابعة دراستهم تحت رعاية الدولة التي ستتحمل كل التكاليف.
لكن ما حدث بهذه المدرسة كان شيئا كبيرا، يحرص سكان تِنْسَكْتْ على أن يحكوه لك بأدق التفاصيل.
في حضن الجبل
يقع دوار تِنْسَكْتْ على بعد نحو 77 كيلومترا جنوب مراكش، في أحضان جبال الأطلس الشاهقة، ويفترض أن تصل إليه في نحو ساعتين، لكن بسبب وعورة الطريق الجبلية وضيقها وامتلائها بسيارات الإسعاف والشاحنات التي تحمل المساعدات، وكذلك سيارات الإعلاميين ومن لديهم فضول ممن جاؤوا لمعاينة تداعيات الزلزال العنيف، فالوصول إليه يستغرق أكثر من ضعف المدة المفترضة.
مدرسة تِنْسَكْتْ كانت تقع فوق مرتفع يطل على مباني القرية الصغيرة كلها، وكان يدرس فيها أبناء المنطقة فقط، وتميزت عن بيوت السكان بألوان الدهان التي تزين بها المدارس عادة، فضلا عن أنها مبنية بالإسمنت.
ثم وقع الزلزال، ولم يغن الإسمنت عن المدرسة شيئا في مواجهة هزة أرضية عنيفة من سبع درجات، فأصبحت أثرا بعد عين مثلها مثل كل بيوت القرية ومسجدها الكبير، ومثل كل مدارس منطقة الحوز المنكوبة.
منظر قاس
“منظر المدرسة وهي حطام كان منظرا صعبا قاسيا عليّ” يخبرنا إبراهيم، أحد شباب دوار تِنْسَكْتْ، والذي درس هنا المرحلة الابتدائية من 2000 إلى 2006.
كانت المدرسة تتكون من 3 قاعات دراسية صغيرة، ومكتب بسيط للإدارة، وقاعة أخرى خصصت لتقديم وجبات بسيطة للتلاميذ في فترة الاستراحة.
“كان صباحنا بهذه المدرسة يبدأ على الساعة الـ8 صباحا -يتابع إبراهيم- فنلتحق بالفصل، ثم ندرس إلى الـ10، حيث نخرج بعدها للفسحة ونمارس شغبنا كأطفال، نجري ونلعب في الساحة، ثم نعود للفصل حتى منتصف النهار”.
بعدها يذهب التلاميذ إلى بيوتهم لتناول الغذاء، ثم يلتحقون بالمدرسة على الـ2 بعد الزوال ولا يخرجون منها إلا عند الساعة الـ5 مساء.
يتذكر إبراهيم ذلك اليوم الذي وصل فيه إلى المدرسة متأخرا بساعتين بعدما استغرق في النوم، وعندما لقيته المعلمة طلبت منه المجيء إلى السبورة وحل معادلة رياضية صعبة. “خشيت في البداية من أنها ستعاقبني، لكنها طلبت مني حل المعادلة الصعبة، وهو ما نجحت فيه فأخبرت التلاميذ بأنها كانت صادقة عندما أكدت لهم أنه لن يحلها إلا إبراهيم”.
“بعدها عدت مزهوا إلى مكاني وأنا أنظر إلى أقراني من عل” يتابع محدثنا مبتسما، لكنها ابتسامة سرعان ما غابت إذ استدرك وقد عادت إلى صوته نبرة الجدية والحزن “مع الأسف كل هذه الذكريات تحطمت الآن”.
في مثل هذه الدواوير النائية بقمم جبال الأطلس، لا يكاد ينشغل الأطفال بما ينشغل به نظراؤهم في المدن والمراكز الحضرية.
هنا حياتهم تتوزع ما بين المدرسة، واللعب مع الأقران، والمساعدة في الحرث، أو الحصاد أو بيع المنتوجات الفلاحية البسيطة، أو الرعي. لهذا فأطفال هذه الدواوير المعلقة في الجبال يكبرون بسرعة، ويتحملون المسؤولية في سن صغيرة.
وتزيد التضاريس الجبلية الصعبة، والظروف المناخية القاسية من صقل مهاراتهم في الحياة فيتعلمون كيف يواجهون الأخطار، وكيف يتعاملون مع التحديات المفاجئة، وكيف يتعاملون مع الناس، وهذا هو الأهم.
ويحمد السكان الله كثيرا على أن الزلزال وقع في وقت لم يكن فيه الموسم الدراسي قد بدأ بعد، وأنه حدث ليلا عندما لم يكن داخل المدرسة أحد، لأن سيناريو حدوثه والتلاميذ والمعلمون داخلها هو كابوس مرعب يضفي على المشهد الدامي بعدا أكثر رعبا.
فالزلزال وقع مساء الثامن من سبتمبر/أيلول، وهي فترة عادة ما تشهد التحاق الأطر الإدارية والتعليمية بالمدارس للوقوف على آخر الاستعدادات لبدء الموسم الدراسي.
لكن بالنسبة للمدارس النائية، تتأخر هذه الخطوات قليلا، خاصة وأن المدرسة داخل هذه الدواوير الجبلية تكون عبارة عن قاعتين أو 3، وغالبا ما تضم أقل من 3 معلمين يدرّسون -في أحيان كثيرة- مستويات مختلفة داخل القاعة نفسها.
وعلى الرغم من أن مدرسة تِنْسَكْتْ كانت خالية من تلاميذها ومعلميها في وقت الزلزال، فإن من ضمن المصابين بالقرية كانت معلمة وأمها، سقط عليهما البيت الذي كانا يقطنان داخله، فأصيبت الأم بعدة كسور، بينما كانت إصابات المعلمة خفيفة، وقد نقلتا على وجه السرعة إلى أحد مستشفيات مدينة مراكش بعد انتشالهما من تحت الأنقاض.
سيناريو واحد
ما وقع لمدرسة دوار تِنْسَكْتْ وقع لكل المدارس في منطقة الحوز والمناطق الأخرى التي ضربها الزلزال بعنف، فهي ما بين مهدمة بشكل كامل، أو مصابة بتشققات خطرة تجعل استئناف الدراسة داخلها أمرا مستحيلا.
وضع دفع السلطات المغربية للبحث عن حلول بديلة في انتظار بدء برنامج إعادة الإعمار الذي خصصت له الدولة ميزانية ضخمة تقدر بنحو 12 مليار دولار.
وشرعت السلطات المختصة في نصب خيام كبيرة داخل ساحات القرى والدواوير المتضررة ستستخدم قاعات لاستئناف الدراسة، وما يزال دوار تِنْسَكْتْ ينتظر خيمة لاستقبال تلاميذ المرحلة الابتدائية.
“هذا هو الحل المتاح حاليا” يخبرنا إبراهيم وذلك حتى لا يضيع الموسم الدراسي على أطفال ما يزالون يعانون من آثار صدمة الزلزال العنيف، ومن لوعة فقدان الأهل والأحباب والجيران.
حل مؤقت وإن كان سيسمح لأطفال المرحلة الابتدائية بالانشغال قليلا مع الأقران في أحضان الدوار المنكوب، إلا أنه بالنسبة لمن يدرسون المرحلتين الإعدادية والثانوية سيعني الابتعاد عمن بقي حيا من الأهل والأحباب، إذ ستنقلهم السلطات إلى مراكش لاستئناف دراستهم.
صمود
في البداية، ظن من قضوا سنوات طويلة بمدرسة تِنْسَكْتْ -مثل إبراهيم- أن ذكرياتهم تحطمت وضاعت مع انهيار جدرانها وتحطمها بشكل كامل، إلا أن الحقيقة التي تكشفت بعد صدمة الزلزال هي عكس ذلك تماما.
ويؤكد لنا إبراهيم نفسه أن الزلزال وإن كان قد نجح في تحطيم الجدران والأسقف الإسمنتية، إلا أنه رسّخ تشبث كل من مروا من هناك بذكرياتهم داخل المدرسة، وهي ذكريات ستبقى ما بقي دوار تِنْسَكْتْ، والزلزال لم يزدها إلا صمودا ورسوخا في القلوب.
فهنا، وسط قمم جبال الأطلس، درس إبراهيم وأقرانه -ومن قبلهم ومن بعدهم- حروف الأبجدية، وترنموا بأناشيد كثيرة بينها النشيد الذي لا يمكن لأي منهم أن ينساه “أرسم بابا، أرسم ماما بالألوان، أرسم علمي فوق القمم، أنا فنان”، وهو نشيد يبدو أنه صمد في وجه هزة أرضية بلغت شدتها 7 درجات، بحيث يتذكره الآن شباب القرية فيرسم بسمة خافتة على وجوههم التي أتعبتها أثقال الزلزال وأحزانه.