برلين- يمكن لطائرة درون (طائرة دون طيار) غير مرخصة أن تحلّق فوق منشآت عسكرية ألمانية وتلتقط ما تريد من صور وفيديوهات، مما قد يستخدم لأغراض التجسس، دون أن يجد الجيش الألماني حلولا واقعية لحل هذه المشكلة، بسبب تداخل الاختصاصات بينه وبين الشرطة، حسب ما أكده تقرير للقناة الألمانية الثانية (زد دي إف) مؤخرا.
هذا جانب بسيط ممّا يعانيه الجيش الألماني من تحديات باتت أخبارها متعددة خلال السنوات الماضية، خيم عدد منها على مؤتمر الأمن في ميونخ الذي انتهى الأحد 18 فبراير/شباط 2024، لكن جزءا كبيرا منها يعود إلى نظرة الألمان والدولة الألمانية إلى جيشهم بعد الحرب العالمية الثانية، ثم السياسة الخارجية الألمانية التي نهجت لعقود سياسة خارجية مهادنة.
تقول متحدثة باسم الجيش الألماني في كولونيا، للجزيرة نت، إن الدفاع عن بلادها وشركائها في “الناتو” في جوهر مهام الجيش، لافتة إلى أنه وبعد نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد البلاد، اتجهت ألمانيا نحو “تحمل المزيد من المسؤولية عن الأمن الدولي خارج أراضي حلف الناتو، ومن ذلك إدارة الأزمات في دول كالعراق وكمبوديا ورواندا وأفغانستان.
لكن الجيش عاد إلى “التركيز على الدفاع الوطني والدفاع عن التحالفات منذ عام 2014 مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ولاحقا مع الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا” -كما تؤكد المتحدثة- لافتة إلى وجود اهتمام كبير حاليا بالعمليات مع الناتو وباستعادة الجاهزية العملياتية للجيش الألماني.
وما يميز الجيش الألماني أن القرارات الرئيسية لا تتخذها وزارة الدفاع، وإنما البرلمان الألماني، خصوصا بما يتعلق بالموازنة وطرق إنفاقها ومجال نشر القوات، كما تمارس لجنة برلمانية لشؤون الدفاع رقابة على الجيش، لكن هذه الخصوصية ساهمت كذلك في إشكاليات يعرفها الجيش، وفيما يلي 5 من هذه التحديات:
عتاد مشهور لكنه قديم
رغم أن ألمانيا تعد أحد أكبر مصدّري السلاح في العالم، إذ توجد في المركز الخامس بحصة 4.2% من التصدير العالمي ما بين 2018 و2022 حسب معهد سيبري، فإن تطور مبيعات الشركات الألمانية لم تنعكس إيجابيا على الجيش الألماني، الذي يعاني مشكلة كبيرة في نقص التجهيزات، وصرّح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس قبل مدة أن هذه الثغرات لن يتم سدها بالكامل قبل 2030.
وأكد الوزير أن حرب أوكرانيا زادت من ثغرات تسليح الجيش الألماني، بحكم أن عددا من الأسلحة المصدرة إلى أوكرانيا، جاءت من مخازن الجيش، لكن مشكلة تقادم العتاد ليست جديدة في ألمانيا، ففي عام 2018، نشرت وسائل إعلام محلية وثائق سرية تؤكد أن كثيرا من الآليات العسكرية لا تعمل.
وذكرت الوثائق أن الجنود لا يحصلون على وحدات سكنية متنقلة كافية، أو حتى على سترات واقية بالعدد المطلوب، بسبب عدم توافق المشتريات مع الاحتياجات، وانتقد حينها مفوض الجيش في البرلمان الألماني هانز بيتر بارتلز هذا الإشكال، وقال إنه “غير مقبول أن يصل الخصاص إلى المعدات الشخصية للجنود”.
وزراء دفاع لا علاقة لهم بالجيش
عكس ما يجري في دول أخرى، فوزير الدفاع في ألمانيا هو منصب سياسي بالأساس، وخاضع لاتفاق داخل الحكومة، وغالبا ما يكون منتميا لحزب المستشار، ولا يُشترط أن يمتلك الوزير خبرات عسكرية، فمثلا رئيسة المفوضية الأوروبية الحالية، الألمانية أورسولا فون دير لاين، كانت وزيرة للدفاع ما بين 2013 و2019، رغم أن عملها السابق كان في مجال الطب، كما كانت وزيرة لشؤون الأسرة ثم وزيرة للعمل.
ورغم أن فترة دير لاين شهدت انتقادات كبيرة لها، خصوصا بعد تفجر ما اعتبر فضيحة في الاستعانة بمستشارين من خارج الوزارة، فإن الحكومة الألمانية اختارت خلفا لها سيدة مغمورة في عالم المناصب السياسية، وهي أنغريت كرامب-كارنباور، لمجرد انتخابها حينها خليفة للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل في الحزب المسيحي.
وبعدها جاءت كريستين لامبرخت في عهد أولاف شولتس، التي استقالت بعد سلسلة فضائح بيّنت محدودية معرفتها بالمجال العسكري، خصوصا قرارها دعم أوكرانيا في بداية الحرب الروسية بالخوذ العسكرية فقط!
ورغم أن الوزير الحالي بوريس بيستوريوس، لا يمتلك مسارا قويا في الجيش، لكنه على الأقل سبق له أن أدى الخدمة الإلزامية لعدة أشهر، وتخصص في قضايا الأمن السيبراني، وكان وزيرا للداخلية في ولاية ساكسونيا السفلى، وعهد له شولتس بالمهمة الأصعب في تاريخ الجيش الألماني منذ إعادة التوحيد، وهي تحديث الجيش، وهو الأمر الذي يجري بتقييم إيجابي حتى الآن حسب استطلاعات الرأي المحلية.
خبرات ضعيفة
في نهاية عام 2022، كشفت رسالة من مسؤول في الجيش، نشرتها مجلة “دير شبيغل”، أن ناقلات الجند المدرعة من طراز “بوما” واجهت مشاكل فنية خطيرة خلال تدريبات مع حلف الناتو، لدرجة لم يكن ممكنا استخدام أيّ منها، وحاولت وزيرة الدفاع حينها لامبرخت إلقاء المسؤولية على شركات السلاح، لكنها اعترفت في تقرير قدمته للبرلمان أن الإشكال كان “الافتقار إلى الخبرة اللازمة” لتشغيل الناقلات، ومن ذلك تركيب السلاح بشكل غير صحيح.
وفي رسالة أخرى عام 2017 من رقيب أول في الجيش، نشرتها صحيفة “دي فيلت”، بيّنت وجود مشاكل في تدريب الجنود، لدرجة أنهم قاموا بمحاكاة ماسورة مركبة مدرعة بعصا مكنسة خلال تدريب مع الناتو في النرويج، مما أدى إلى سخرية كبيرة.
كما أدى مقتل جنود ألمان في أفغانستان عام 2010 إلى تأكيد وجود عجز كبير في توفير ما يكفي من تجهيزات للتدريب، وفق ما أكده متحدث من الجيش حينها، كما نشرت صحيفة “بيلد” عام 2010 تقارير عسكرية داخلية أفادت بأن التدريب على الأسلحة اليدوية لا يتوافق مع المتطلبات في بلد كأفغانستان.
ثقة شعبية متأرجحة
كشفت أحداث في مركز تدريب عسكري في بلدة فوليندورف جنوب البلاد عام 2017، أجواء غير سليمة داخل بعض مراكز الجيش، كشكاوى التنمر والإكراه الجنسي والإذلال والإساءة للكرامة الإنسانية خلال الفحوصات الطبية، واعترفت وزارة الدفاع بما جرى، واصفة إياه بـ”الأحداث المثيرة للاشمئزاز”، وأكدت في تقرير للبرلمان وجود “نقائص خطيرة في القيادة والتدريب والإشراف على الجنود”.
ووفق استطلاع رأي للقنوات العامة “إيه آر دي” (ARD)، فإن فقط 35% من الألمان المستجوبين لديهم إما ثقة عالية أو عالية جدا في الجيش، وإن 85% لا ثقة لهم في تسليح الجيش، لكن تشير دراسة أخرى لمركز التاريخ العسكري والعلوم الاجتماعية، التابع للجيش الألماني، إلى ارتفاع ثقة الألمان في جيشهم من 76% عام 2019 إلى 83% عام 2022، وأن فقط 55% هم من يحسون بارتباط عاطفي مع الجيش، و77% يرون أن الجيش مهم لألمانيا.
ويشير تقرير للراديو الألماني “دويتشلاند فونك” إلى أسباب تاريخية منها: رفض التجنيد بسبب الماضي النازي، ثم انتشار الحركات الألمانية الرافضة للتسلح خلال الحرب الباردة، وكذلك لدور إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 في خفض أسباب التوتر وخلق جيش موحد لا يملك أعداء واضحين، بعد تفكيك جيش ألمانيا الشرقية.
تجنيد ضعيف
تمتلك ألمانيا حاليا 260 ألف عنصر في الجيش، لكن فقط 181 ألف عنصر يرتدون الزي العسكري، والبقية متوزعون على الوظائف المدنية، وفق أرقام رسمية، كما أن حوالي 64 ألفا ينتمون للقوات البرية، و30 ألفا للقوات الجوية، و17 ألفا للقوات البحرية، ومقارنة بعام 2022، هناك تراجع في عدد الجنود بـ1500 فرد، بينما تريد ألمانيا الوصول إلى 200 ألف جندي في أفق عام 2030.
وألغت ألمانيا التجنيد الإلزامي منذ عام 2011، وشجعت بدلا منه الخدمة التطوعية، مما أدى إلى تراجع عدد أفراد الجيش بشكل واضح، ومع أن وزير الدفاع الحالي يدعم إعادة التجنيد الإلزامي، فإن هناك معارضة سياسية وحقوقية كبيرة، لأسباب تتعلق بحرية الاختيار، بالإضافة لما يعانيه سوق العمل في ألمانيا من نقص مهول في الكوادر، وسيزداد تأثرا في حال العودة للتجنيد.
وتقول المتحدثة باسم الجيش الألماني إنه عند اندماج جيشي ألمانيا الشرقية والغربية غداة إعادة التوحيد، نصّت اتفاقية “2+4” (معاهدة التسوية النهائية) على حد أقصى هو 370 ألف جندي، ثم تقليل ميزانية الدفاع. وكلها عوامل ساهمت في خفض عدد الجنود، لافتة إلى أن هذا التحول يعود جزئيا إلى تراجع الاهتمام السياسي والاجتماعي بالسياسات الأمنية والدفاعية، ومن ذلك الجيش.
وتشهد ألمانيا نقاشا حول إمكانية سد النقص في أعداد الجيش بالتعويض بالأجانب، حيث يتيح القانون حاليا للأجانب داخل وخارج ألمانيا الانضمام إلى الخدمة التطوعية، وأعلنت وزارة الدفاع عن برامج لتشجيعهم على القدوم، لكن النقاش الحالي يخصّ الاستنجاد بهم في المهام القتالية بشكل دائم، وليس فقط الدعم المتعلق بالكوارث الطبيعية والطوارئ الصحية.
وتوضح المتحدثة أن قانون الجيش لا يزال يُلزم الجنود بالحصول على الجنسية الألمانية. لكن مع ذلك، يمكن لوزارة الدفاع السماح باستثناءات في الحالات الفردية متى ما كانت هناك حاجة ماسة لذلك، مبرزة وجود 4 جنود حالياً في الجيش ليسوا ألمانا.
هل الحل في رفع الموازنة؟
لم تكن برلين تولي أهمية كبيرة لميزانية الدفاع، وكانت الأحزاب الألمانية منقسمة بخصوص التسليح، بل كان منها أحزاب كالحزب الاشتراكي الديمقراطي (حزب المستشار الحالي) يطالب بتوجيه الأموال إلى قطاعات أخرى.
لكن الحرب الروسية لأوكرانيا غيّر الخطة، وأعلن أولاف شولتس غداة اندلاع الحرب إنشاء صندوق خاص لتحديث الجيش بقيمة 100 مليار يورو، لكن وزارة الدفاع قالت حينها إن الرقم غير كاف بسبب التحديات الكبيرة التي تواجه الجيش.
وأقرّت ألمانيا هذا العام 2% من ميزانيتها لشؤون الدفاع، وهو أمر يحدث لأول مرة منذ عام 1992، لتستجيب بذلك لطلب الناتو الذي يشدّد على ضرورة أن يصل الإنفاق الداخلي العسكري لكل دولة إلى هذا الرقم على الأقل.