طوت عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية ممثلة بإدارة العمليات العسكرية صفحة حكم عائلة الأسد، وفتحت أبوابا مشرعة على مستقبل يحمل آمالا عريضة للسوريين، وفي الوقت نفسه يضع السلطات الجديدة للبلاد أمام تحديات جديدة.
ورغم التصريحات التي صدرت عن دبلوماسيين وسياسيين بشأن فرصة تاريخية لإعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار، والتأسيس لمرحلة جديدة تدخلها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فإن الواقع يشير إلى تحديات ضخمة تواجهها البلاد في ظل واقع معقد محليا وإقليميا ودوليا.
في هذا التقرير سنلقي الضوء على أبرز هذه التحديات، ونستعرض بعض المواقف والآراء بشأن كيفية تعاطي صانع القرار السوري القادم مع هذه الملفات الشائكة.
- تأسيس الدولة وشكل النظام السياسي
يختلف وضع سوريا الآن عن باقي الدول التي تتضح فيها أسس الدولة من دستور وشكل محدد للسيادة والنظام السياسي، والحدود الجغرافية، حيث أصبحت بحكم الثورة بلا دستور معتمد أو نظام سياسي وحدود واضحة، ويشكل هذا تحديا كبيرا للسلطات الجديدة.
ومن ناحية أخرى، فإن المعارضة السورية الحالية تتسم بتعدد الأطياف بين الفصائل المسلحة ذات المرجعيات الإسلامية والأيديولوجية إلى جانب القوى السياسية الليبرالية، وهذا التنوع يمثل تحديا للوصول إلى توافق حول شكل الدولة المقبلة.
ويرى محللون أن نجاح مسار الدولة المأمول يعتمد بشكل كبير على قدرتها على تجاوز خلافاتها، وإيجاد حلول للقضايا الشائكة، وطريقة التعامل مع بقية العقبات والملفات والسياسات الخارجية.
- تحقيق العدالة الانتقالية
وإلى جانب تأسيس مجلس انتقالي يأتي تحقيق العدالة الانتقالية التي كما تعهد القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع بأنها ستأخذ مجراها، وتوعّد بعدم التواني في محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري، مؤكدا أنه ستتم ملاحقتهم وطلبهم من الدول التي فرّوا إليها لتتم محاسبتهم.
وقال إن “دماء وحقوق” القتلى والمعتقلين الأبرياء “لن تُهدر أو تنسى”، لكنه في الوقت ذاته أكد التزامه “بالتسامح مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري”، وتعكس تلك الخطوة الإدراك بأن الانتقام العشوائي ليس مناسبا أيضا وقد يخلف مشاكل عدة، وأن التطمينات من شأنها أن تلعب دورا مهما في تلك المرحلة.
ومن جهتها، أكدت إدارة الشؤون السياسية التابعة للمعارضة السورية أن المرحلة القادمة تتطلب مصالحة مجتمعية شاملة، يتم خلالها بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، على أن تكون مبنية على مبادئ العدالة واحترام حقوق الإنسان.
وقالت إن سوريا الجديدة ستكون دولة قانون ومؤسسات، تضمن الكرامة والعدالة لجميع مواطنيها، مشيرة إلى أن هذه الرؤية تمثل حجر الأساس لإعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
- الدولة العميقة
تدرك السلطات الجديدة للبلاد أبعاد وجود الدولة العميقة وبقايا الأجهزة الأمنية والمخابرات التي كانت تحكم سوريا، مما يأتي على رأس المخاطر في المرحلة القادمة.
ومما يزيد من خطورة هذا الملف أن ما يمكن أن يوصف بالدولة العميقة في سوريا يختلف عن غيرها من الدول، نظرا لهروب أو اختفاء جزء كبير من قادة ومسؤولي النظام السابق، وحالة السيولة التي كانت تدار بها البلاد، في ظل غياب مؤسسات الدولة.
في ظل العودة المتوقعة لأكثر من 6 ملايين لاجئ سوري، يعرض ملف اللاجئين ليس على طاولة التحديات الاقتصادية فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ملفات أخرى لها ارتباطات وثيقة بالاقتصاد والسياسية الخارجية، وقد بدا ذلك واضحا في التحركات الأوروبية والتصريحات الخاصة بقوانين اللجوء والنصائح الموجهة للاجئين.
بحسب ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فإن 70% من سكان سوريا المقدر عددهم الآن بنحو 15 مليونا يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية، وإن 9 من كل 10 سوريين يعيشون تحت خط الفقر؛ فقد ترك نظام الأسد خلفه تحديات اقتصادية كبيرة، مع انهيار شبه كامل للبنية الاقتصادية نتيجة السياسات التي نفذها هذا النظام على مدى أعوام طويلة لا سيما مع بدء الحرب عام 2011.
ووفق بيانات من البنك الدولي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا انكمش بأكثر من 85% منذ 2011 إلى 2023، لينخفض إلى 9 مليارات دولار، في حين من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد السوري 1.5% أخرى هذا العام، هذا بالإضافة إلى قطاع الطاقة الذي أصابه الشلل.
ومع ذلك كان الشرع قد شدد على ضرورة عودة المهجرين والنازحين لبناء سوريا جديدة، مضيفا “معركتنا نجحت في إعادة لحمة السوريين”.
وفي حديث للجزيرة، قال رئيس الحكومة السورية المؤقتة محمد البشير إن حكومته ورثت من نظام الأسد تركة إدارية ضخمة فاسدة “ونحن في وضع سيئ للغاية ماليا، لا توجد لدينا سوى الليرة السورية التي لا تساوي شيئا، ولا عملة أجنبية لدينا”.
- تحديات أمنية
يكشف تحذير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من استغلال الوضع الحالي من قبل “التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني”، عن ملف آخر، وتحديا أمنيا للسلطات الجديدة في البلاد.
كما برز من تصريحات رئيس الوزراء الجديد محمد البشير أن “الأولوية في المرحلة الحالية هي ضبط الأمن بكافة المدن وعودة الاستقرار، وسيتم الإعلان خلال أيام عن التشكيلة الكاملة للحكومة المؤقتة”.
ومن جهة أخرى، تبرز تجارة “تهريب المخدرات” -الذي كشف تورط آل الأسد في تجارة الكبتاغون- كملف خطير تعاني منه سوريا، بالإضافة إلى ما ينتج من جرائم ومخاطر كنتيجة حتمية للفقر وسوء الأحوال الاقتصادية.
- المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)
مع وجود أكثر من 30% من الأراضي شرق سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة من الولايات المتحدة، فإن المشهد السوري المتفائل قد يهتز قليلا، ويطرح معه التساؤلات أيضا، خاصة مع التحركات المستمرة للمعارضة نحو تحرير المزيد من المناطق في سوريا.
لكن في المقابل، أكد قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أن هناك فرصة لبداية سياسية جديدة، وأن هذا التغيير يوفر فرصة لبناء سوريا جديدة قائمة على الديمقراطية والعدالة، بما يضمن حقوق جميع السوريين.
ولا يبتعد هذا الملف من خطوات واشنطن القادمة تجاه الملف السوري، التي بدأتها بتصريحات حول دعمها للحكومة القادمة وتواصلها معها، ومن جهة ثانية أكدت استمرار وجودها في سوريا.
- الوجود العسكري الأجنبي داخل سوريا
بالإضافة إلى الاتفاقيات السياسية الدولية التي منها ما قد يمنح بلد حق استخدام قاعدة عسكرية إلى مدى الحياة، فإن سوريا كانت تحوي على أرضها عددا كبيرا من القوات الأجنبية، من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران بالإضافة إلى وكلاء إيرانيين، وتتعدد القواعد العسكرية في مناطق عدة.
وتتمركز القوات الأميركية في قاعدة التنف الحدودية، ولها بالمجمل 17 قاعدة و13 نقطة عسكرية منها 6 قواعد بارزة، كما تتمركز روسيا في سوريا بقاعدتين رئيسيتين هما حميميم وطرطوس، ولها بالمجمل 114 منشأة عسكرية، منها 21 قاعدة و93 موقعا عسكريا، كما تمتلك تركيا في سوريا 126 موقعا عسكريا، بينما كانت تتمركز القوات التابعة لإيران في 52 قاعدة، بالإضافة لمواقع قوات حزب الله اللبناني والقوات المحلية التابعة.
وكان الشرع قد أعرب في حديثه لشبكة “سي إن إن” العربية عن رغبته في خروج القوات الأجنبية من سوريا، وأضاف “أعتقد أنه بمجرد سقوط هذا النظام، سيتم حل المشكلة، ولن تكون هناك حاجة لبقاء أي قوات أجنبية في سوريا”.
ومن جهته، أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن تركيا ملتزمة بالعمل مع كافة الأطراف الفاعلة، سواء في المنطقة أو على المستوى الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، لضمان تحقيق الاستقرار ومواجهة أي تهديدات محتملة لدول الجوار.
وفي حين قال مصدر في الكرملين، الأحد 9 ديسمبر/كانون الأول، إن الفصائل السورية المعارضة قدمت لموسكو ضمانات أمنية للقواعد العسكرية الروسية في سوريا، يبقى هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية والتدخل الأجنبي العسكري يشكل تحديا كبيرا أمام الحكومة السورية الجديدة ويعرب عن الحاجة إلى التمكن من لعب سياسات بما يخدم مصالح البلد.
- المجتمع الدولي وحالة القبول والاعتراف
توالت ردود الفعل الخارجية على سقوط نظام الأسد وبرزت تصريحات دولية تشير إلى إمكانية رفع اسم هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وهو ما يفتح للسلطات الجديدة بابا الحصول على اعتراف وقبول دوليين، ويمكّن الحكومة الحالية من شغل مقعد سوريا في المنظمات الدولية والإقليمية.
وقد ظهرت علامات تشير إلى زخم الدعم الدولي لعمليات فصائل المعارضة تتمثل في فتور حلفاء نظام الأسد في مساعدته، كما تحدّث محللون أن الولايات المتحدة والدول العربية بحاجة إلى رؤية مشتركة لدعم السلطات الجديدة في سوريا.
وتحدثت المتحدثة السابقة باسم قوى الثورة والمعارضة فرح الأتاسي عن ضرورة رفع العقوبات عن سوريا، وأشارت إلى أنه سيكون خطوة حاسمة لدعم الشعب السوري وتحقيق الاستقرار.
- المواجهة مع إسرائيل
مع انهيار نظام الأسد، سارعت إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية وتعزيز وجودها في الجولان المحتل، حيث توغلت في المنطقة العازلة المقرة وفق اتفاقية عام 1974.
ومع هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد من دمشق، بدأ الجيش الإسرائيلي توغلا بريا اجتاز على إثره خط فض الاشتباك مع سوريا، وسيطر على عدد من النقاط، بعضها يقع على مرتفعات في جبل الشيخ.
على مدى السنوات الماضية، نفذت إسرائيل عشرات الضربات الجوية ضد أهداف في سوريا، مؤكدة أنها تابعة لإيران ومليشيات حزب الله.
الدور الإسرائيلي في سوريا لم يكن فقط عسكريا بل سياسيا أيضا، حيث أشارت تصريحات مسؤولين إسرائيليين مثل وزير الخارجية غدعون ساعر إلى أن وجود القوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية يهدف إلى “ضمان أمن إسرائيل خلال فترة الارتباك بعد سقوط الأسد”.
ولهذا، فإن شكل العلاقة مع إسرائيل يمثل تحديا شاملا للحكومة السورية المقبلة عبر الأبعاد العسكرية، السياسية والدبلوماسية.
- التحدي الأميركي.. التوازن بين المصالح والضغوط
من جانبها، تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا من زاوية أوسع تتعلق بمصالحها الإقليمية والعالمية، فالسياسة الأميركية تجاه سوريا ارتبطت بـ3 محاور رئيسية:
- محاربة الإرهاب.
- احتواء النفوذ الإيراني.
- ضمان استقرار مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
في تصريحات سابقة لجيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، أشار إلى أن “الولايات المتحدة تدعم أي حل سياسي يعكس إرادة الشعب السوري، لكن يجب أن يضمن قطع علاقات سوريا مع إيران”. هذا الموقف يعكس رغبة واشنطن في التأثير على هوية أي حكومة سورية قادمة، من خلال فرض شروطها.
إضافة إلى ذلك، فإن العقوبات الأميركية، مثل قانون “قيصر” تمثل تحديا كبيرا لأي حكومة سورية جديدة. فهذه العقوبات لا تستهدف فقط النظام الحالي، بل تمتد إلى أي كيان يتعامل مع الحكومة السورية، مما يضع المعارضة أمام خيار صعب بين تأمين دعم دولي لإعادة الإعمار أو مواجهة قيود اقتصادية خانقة.
وفي هذا الإطار يقول جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي إن بلاده لا تزال تدرس كيفية التعامل مع قوى المعارضة، ورأى أنه من الأفضل التريث باتخاذ قرار بشأنها لحين معرفة ما ستفعله هذه التنظيمات، لأن القرارات بشأن هذه التنظيمات لا بد أن تستند إلى الحقائق.
المعارضة السورية بين المطرقة والسندان
في ظل هذه التحديات، تجد المعارضة السورية نفسها في وضع لا تحسد عليه. فمن جهة، تحتاج إلى بناء علاقات مع الولايات المتحدة لضمان الاعتراف الدولي والدعم السياسي. ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطًا داخلية من قبل الشعب السوري والمكونات الوطنية الأخرى، التي ترفض أي تنازلات تتعلق بالسيادة الوطنية أو القبول بشروط قد تؤثر على الاستقلال السياسي للبلاد.
وفي أثناء سعي المعارضة السورية في التقدم سياسيا وعسكريا لتحرير باقي المناطق والمضي نحو وضع الأسس لبناء الدولة الجديدة، يشير الشرع إلى أن “الناس منهكون من الحرب وبالتالي فإن البلاد غير مستعدة للدخول في حرب أخرى، الخوف كان من وجود نظام الأسد وهو الآن سقط، والبلاد تتجه نحو التنمية وإعادة الإعمار والاستقرار”.