في الثاني عشر من مايو/أيار 2024، كشفت صحيفة هآرتس أن 10 من قوات دولة الاحتلال الإسرائيلي أقدموا على الانتحار منذ بدء طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، بعضهم قام بذلك خلال مواجهات مع المقاومة الفلسطينية. اعتُبر عدد المنتحرين مرتفعا، لدرجة دفع إدارة جيش الاحتلال إلى تكثيف برامج الرعاية الصحية التي تعالج الميول الانتحارية، خاصة داخل الشرائح العمرية التي تفشت فيها هذه الظاهرة وهم العسكريون الذين بلغوا العقدين الثالث والرابع.
ركزت هآرتس في تقريرها على حالة ضابط في الخدمة، كان قد وُجد في سيارته قتيلًا بإطلاق النار على نفسه بعد أسبوعين من طوفان الأقصى، وعلى الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي أنه لا رابط بين الحدثين، فإن أقارب وزملاء الجنود المقدمين على الانتحار أفادوا بأن بعض الجنود القتلى “عانوا من ضائقة نفسية بعد اندلاع الحرب”.
الموت ثم الانتحار
يعتبر العلماء منذ عقود أن الانتحار هو السبب الرئيس للوفاة في معظم الجيوش بعد القتل في المعارك، إذ يعاني الجنود في أحيان كثيرة من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب الأحداث القاسية التي عايشوها أو شاركوا فيها أثناء القتال. تشكل هذه الأحداث عبئا نفسيا ثقيلا على الجنود، بذكريات مريعة يصعب في بعض الأحيان الشفاء منها أو تجاوزها، ويدفعهم ذلك في بعد الأحيان إلى التفكير في الانتحار، وفي أحيان أخرى إلى الإقدام عليه.
وتظهر دراسة في دورية “سايكولوجيكال تروما” أن الأبحاث في هذا النطاق ترى أن المحاربين القدامى الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة عرضة أكثر من غيرهم لخطر الانتحار بمقدار الضعف مقارنة بأولئك الذين لا يعانون من هذا الاضطراب. وبشكل عام فإن معدلات الانتحار بين الجنود تزيد في أعقاب الصراعات الكبرى، مما يعني أن أثر هذه الاضطرابات قد يستمر بعد الحرب.
هناك بالطبع أسباب أخرى متنوعة، بعضها يتعلق بالميل الوراثي إلى الاضطراب النفسي ومن ثم الإقدام على الانتحار، وبعض آخر يتعلق بالشعور بالوحدة وصعوبات مكان العمل والجداول الزمنية المضطربة وزيادة التوتر وقلة النوم. وإضافة إلى كل هذه العوامل، يأتي عامل مساعد يسهل الانتحار في وسط الجنود مقارنة بعامة الناس، وهو توفر أداة الانتحار: السلاح.
كل ما سبق، يتعلق بالحروب النظامية، تلك التي يواجه فيها جيش منظم جيشًا آخر في نفس تنظيمه العسكري تقريبا، لكن في حالة الحرب القائمة حاليا على غزة، فإن الأمر يختلف قليلا، وذلك لأن المقاومة الفلسطينية تقاتل جيش دولة الاحتلال بنمط الحروب غير النظامية حيث لا مواجهات عسكرية بفرق وألوية، كما هو الحال في الحرب التقليدية. يعتمد هذا النوع من الحروب على تكتيكات قتالية غير معهودة لتقليل تأثير فارق العدد والعتاد بين القوتين، فتكون الكمائن وهجمات الكر والفر وأسلحة القنص داخل التضاريس الحضرية وانتقاء المعارك في الزمان والمكان الملائمين أمثلة على التكتيكات الفعالة.
وفي هذا السياق يظهر سلاح طالما استخدمته المقاومة لتنفيذ كمائنها، وهو العبوات الناسفة، ويعدّ فريق من العلماء هذا السلاح سببًا إضافيًّا لبث مستويات عليا من القلق والتوتر في قلوب الجنود؛ مما قد يدفع بعضهم إلى الإقدام على الانتحار.
عبوات تنسف الروح
العبوات الناسفة هي قنابل رخيصة الثمن محلية الصنع، تحتوي على مكونات عسكرية وغير عسكرية، قد تُستخدم في الكمائن على جانب الطريق بحيث تعترض القوات المهاجمة أو خطوط إمدادها، ويكون تركيبها في المداخل أو المباني لضرب فرق الجنود، وقد يكون تركيبها على العربات والدبابات لتدميرها. كما أن هناك طرقا لا حصر لها لصنعها، ويمكن تطويعها لأي غرض بحسب المهمة، فتتمكن من اختراق الدروع وهدم المباني وضرب الجنود إن كانوا في فرق حرة، كما تمكنت المقاومة من إسقاطها من مسيّرات على تجمعات لجنود الاحتلال.
في عام 2017 لاحظ فريق الباحثين في جامعتي ماريلاند وهارفارد الأميركيتين أن نسب انتحار الجنود تصاعدت بشكل خاص في حرب الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان، حيث كانت العبوات الناسفة تحديدًا تشكل تهديدا حقيقيا (جديدًا وقتها). استُخدمت العبوات الناسفة في أكثر من 100 هجوم شهريا بحلول نهاية عام 2003، وبحلول أبريل/نيسان 2005 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 1000 هجوم شهريا، وارتفع الرقم إلى أكثر من 2500 هجوم شهريا بالعبوات الناسفة بدءا من صيف عام 2006، وبحلول نهاية عام 2007، كانت العبوات الناسفة مسؤولة عن نحو 63% من قتلى قوات التحالف في العراق، وتسببت في أكثر من 66% من قتلى قوات التحالف في حرب أفغانستان.
تتميز العبوات الناسفة بتنوع استخداماتها كما أسلفنا، مما يزيد عدم اليقين بشأنها من قبل الجنود، فقد تنفجر فيهم في أي مكان، حيث يمكن أن تأتي من تحت الأرض أو من بين الجدران أو تسقط من السماء. لهذه الأسباب رأى الباحثون أن التعرض المباشر للعبوات الناسفة أو التوجس المستمر من وجودها في أي مكان، قد أدى إلى ارتفاع خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بين الجنود الذين خدموا في أفغانستان والعراق، فهم دائمًا في حالة خوف وترقب قَلِقٍ ومُرهِق من أي مفاجأة تخطف حياتهم في لمح البصر.
تظهر هذه الدراسة ارتباطا واضحا بين تكرار استخدام العبوات الناسفة شهريًّا خلال الحروب في العراق وأفغانستان وبين محاولات الانتحار بين جنود الجيش الأميركي، مع زيادة الخطر الإجمالي بنسبة 30٪ تقريبًا لكل 1000 حادث عبوات ناسفة إضافية في الشهر، وسيظهر هذا الارتباط بشكل أقوى في صفوف الجنود الذين لم يقضوا أكثر من عامين في خدمتهم العسكرية. يبني هذا الفريق البحثي فرضيته على أن التهديدات الجديدة التي لا يمكن السيطرة عليها تزيد الخوف والضيق، وأن هذا التأثير يتفاقم بسبب قلة الخبرة.
شراسة حرب الشوارع
بشكل أوسع يتجاوز العبوات الناسفة حصرا، تعتبر المواجهات غير النظامية من مصادر القلق النفسي الحاد، حيث من الممكن أن تساهم هذه التكتيكات في هذا النوع من الحروب في إحداث ضغوط نفسية فريدة مقارنة بالحروب التقليدية بسبب عدم اليقين الشديد المحيط بأجوائها، وهو ما قد يساهم بالتبعية في زيادة معدلات الانتحار بين الجنود.
يظهر ذلك بوضوح في الحروب الحضرية مثل حرب غزة، تلك التي يكون للمُدافِع فيها ميزة على المهاجم بوجود الأول داخل تضاريس تُمكِّنه من الاحتماء واصطياد الطرف الآخر. وتوفر التضاريس الحضرية دائما نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية مهمة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع بالنسبة لجندي دولة الاحتلال مهمة خطيرة جدا. يسهِّل ذلك على جنود المقاومة أيضا بناء الكمائن المتخفية لاستهداف جنود الاحتلال، وهنا يكون لبنادق القنص مثلا دور فعال في هذه النوعية من المعارك، أضف إلى ذلك أن الأنفاق تفتح الباب لجنود المقاومة كي يتحركوا بحرية أكبر داخل المدينة، ويمكّنهم ذلك من الظهور كأنهم أشباح يظهرون من اللامكان بالنسبة لجنود الاحتلال. هذا النوع من التكتيكات الذي يتضمن ظهورًا مفاجئًا، وتنفيذ عمليات سريعة ثم الاختفاء عن الأنظار هو بالضبط ما يترك أثرا نفسيا شديد الإرباك في جنود دولة الاحتلال.
تنطوي الحرب التقليدية على خطوط أمامية واضحة وأعداء يمكن التعرف عليهم بسهولة، لكن تكتيكات الحرب غير النظامية تشمل هجمات لا يمكن التنبؤ بها؛ مما يُحدث حالة تأهب قصوى مستمرة. أضف إلى ذلك أن الحرب غير النظامية تتطلب من الجنود العمل في وحدات صغيرة معزولة لا كتائب كبيرة كما يحدث في حالة الحرب التقليدية، ويمكن أن تؤدي العزلة إلى الشعور بالوحدة، وهي كذلك عوامل خطرة تؤدي إلى التوتر النفسي الشديد؛ مما قد يدفع إلى الاكتئاب والانتحار، خاصة مع استمرار العمل فترات طويلة.
والواقع أن من سمات هذا النوع من الحروب أنه يستمر فترات طويلة؛ مما يؤدي إلى عمليات انتشار طويلة الأمد دون تحقيق تقدم أو نصر واضح. عدم وجود نهاية واضحة في الأفق يمكن أن يسبب مشاعر اليأس والعجز؛ مما يساهم في الاضطراب الشديد وتدهور الصحة العقلية.
يأتي ذلك في سياق مهم، حيث أظهر استقصاء أجرته منصة “ميليتاري تايمز” لأعداد المقدمين على الانتحار في الجيش أن سلاح الدبابات بشكل خاص واجه ضِعف عدد الضحايا، ولا تزال هذه الأرصاد بحاجة إلى تأكيدات بحثية، لكنها تتفق مع الفكرة القائلة بأن ظروف الضغط الشديد في الحرب تدفع بعضا من الجنود إلى الاضطراب، خاصة أن سلاح الدبابات يكون عادة في مقدمة المعركة ليفتح الباب لجنود المشاة، وجنود هذا السلاح عادة ما يقبعون في أماكن ضيقة مغلقة فترات طويلة، ويمكن تدمير هذه الدبابات بقذيفة ترادفية من مسافة أقل من 50 مترا، وهو ما يعني حشر الجنود داخل قنابل مؤقتة.
ضبابية قاتلة
قواعد الاشتباك في الحرب غير النظامية غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا وغموضًا؛ مما يؤدي إلى الارتباك والتوتر بين الجنود، ويمكن أن يؤدي عدم اليقين هذا إلى زيادة التوتر والقلق، حيث يخشى الجنود أن يؤدي اتخاذ القرار الخاطئ إلى عواقب وخيمة، الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد قواعد الاشتباك والقرارات العملياتية.
أظهرت الأبحاث القليلة التي أجريت حول هذا النطاق أن الجنود الذين يتعرضون لتكتيكات غير نظامية عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة أكثر من أولئك الذين يشاركون في القتال التقليدي، لنفس الأسباب وهي التعرض لفترات طويلة من التهديدات غير المتوقعة في بيئات حربية، الأمر الذي يساهم في ارتفاع معدلات اضطرابات القلق والأفكار الانتحارية.
وأشارت إحدى الدراسات الصادرة في 2016 من جمعية علم النفس الأميركية إلى أن استخدام التكتيكات غير المتماثلة أو أسلوب حرب العصابات يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بين الأفراد العسكريين مقارنة باستخدام التكتيكات التقليدية. تناولت هذه الدراسة معدلات تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة في عينة من المحاربين القدامى ووجدت أن هؤلاء الذين واجهوا تكتيكات غير نظامية كان تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة أكثر بضعفين من غيرهم.
وفي دراسة أخرى تضمنت بيانات عن جميع الأفراد العاملين في الجيش الأميركي من عام 1819 إلى عام 2017، أشارت النتائج إلى أن حالات الانتحار انخفضت تاريخيا خلال زمن الحرب، ولكن هذا النمط قد تغير خلال الحروب في فيتنام والعراق وأفغانستان، وهي ثلاث حروب واجه الجنود الأميركان خلالها حربا غير نظامية.
القلق في كل مكان
في تصريح للفاينانشيال تايمز قبل بدء حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، يؤكد جندي إسرائيلي عمل خبيرَ متفجرات في عملية تفكيك الأنفاق مدة تسع سنوات أن ما يواجه جنود الاحتلال في غزة هو “كابوس.. لكنه كابوس حقيقي”، قائلا إنه على الجنود دائما التحرك ببطء وحذر، وإن الطرف الآخر (يقصد المقاومة) يتحرك بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه.
يتجلى هذا النوع من التوتر بسبب التكتيكات غير النظامية في حادثة مقتل جنود إسرائيليين كانوا في الأسر. تقول رواية جيش الاحتلال إنه أثناء اقتحام أحد المباني في 10 ديسمبر/كانون الأول 2023 سمع الجنود نداءات بالعبرية يقول أصحابها “نحن مخطوفون”، “النجدة!”، وحملوا لافتة مكتوبا عليها “النجدة! 3 رهائن”، لكن جنود جيش الاحتلال اعتقدوا أنها حيلة أعدّها جنود القسام لإيقاعهم في كمين شرق مدينة غزة؛ فقَتلوا الأسرى الثلاثة خطأً.
ما اكتشفناه لاحقًا أن هذا الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال، كان له ما يبرره؛ إذ استَخدمت كتائب القسام هذا التكتيك البسيط الفعال أكثر من مرة، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد استخدمت الكتائب كذلك مكبرات الصوت التي يخرج منها صوت ناطق بالعبرية، بل وظّفت العرائس وحقائب الظهر والمجسمات التي تستخدم في عرض الأزياء للإيقاع بجنود الاحتلال، أو لدفعهم إلى طريق مختلف للوقوع في كمين مجهز مسبقًا.
لذا، فقد شكّلت هذه التكتيكات المختلفة تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ تركت صدًى نفسيًّا داخل جيش الاحتلال. وهو ما تسبب في حالة من الارتياب الشديد مع ضغط نفسي هائل على جنود الاحتلال، وربما كان ذلك السبب وراء حادثة غريبة أخرى حين استيقظ أحد جنود دولة الاحتلال في منتجع علاجي تابع للجيش في عسقلان فزِعًا وأطلق النار بشكل عشوائي، فتسبب في إصابة بعض زملائه.
هذا هو الوضع اليوم في غزة، حيث يمكن لكل همسة أو حركة طفيفة أو صوت ورقة شجر جافة تتكسر تحت قدمي جندي، أن تتحول إلى كمين يرمي بالمحتل إلى الجحيم، في كل لحظة وفي كل ثانية هناك عبوة ناسفة جاهزة للانفجار، أو رصاصة مسددة من قناص في المنزل المقابل نحو جندي تنتزع روحه مرة، وتصعّد أرواح زملائه خلفه في كل يوم مرات ومرات.