نجحت “رياح التغيير” التي بشرت بها فرقة “سكوربيون” الموسيقية الألمانية قبيل سقوط جدار برلين في خريف العام 1989، في ذروة الثورات المخملية في المعسكر الشرقي، في أن تضع ألمانيا لاحقا على طريق الوحدة وفي دائرة التقدير الدولي مع تحولها إلى دولة محورية في بناء السلم والأمن الدوليين.
لكن رياح التغيير التي عكست الأمل في نهاية الحرب الباردة آنذاك لم تشمل الصراع الطويل في الشرق الأوسط، كما فشلت ألمانيا الموحدة في أن تدفع نحو التوصل لاتفاق عادل وملموس على الأرض للصراع العربي الإسرائيلي.
ثم جاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ليحدث شرخا غائرا في علاقات ألمانيا بالعالم العربي على نحو غير مسبوق، ويعد هذا الأمر نادرا في تاريخ الدبلوماسية الألمانية منذ الوحدة وحكومة المستشار الراحل هيلموت كول.
فقد حافظت برلين على علاقات جيدة مع العالم العربي، ووقفت إلى جانب الدعوة إلى تلبية مطالب الفلسطينيين لإقامة دولتهم واستعادة أراضيهم المحتلة، على الرغم من شعورها بالمسؤولية التاريخية تجاه إسرائيل.
فلماذا فشلت هذه المعادلة في الحرب على قطاع غزة مع حكومة المستشار أولاف شولتس؟ ولماذا تتحيز ألمانيا بشكل كامل لإسرائيل؟ وهل يعني ذلك أنها مستعدة للمخاطرة بعلاقاتها مع العالم العربي؟
التزام يخفي تضاربا
يقول المركز الألماني للإعلام في تعريف الدور السياسي للدولة الألمانية فيما يرتبط تحديدا بالعلاقات في الشرق الأوسط، إن ألمانيا تدعم مع شركائها البحث عن حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما تعمل على حل النزاعات في سوريا وليبيا واليمن، موضحا أن الحوار يعد أهم وسائل إيجاد الحلول المستدامة.
لكن هذا التعريف ينطوي على تضارب على المستوى الرسمي وفي مستوى التعريف الموجه عندما يشير المركز في الوقت ذاته إلى أن ألمانيا “تحرص على الالتزام بنصوص القرارات المتوازنة التي تصب في مصلحة السلام الدائم في الشرق الأوسط، وتعارض المعاملة غير العادلة لإسرائيل في الأمم المتحدة”.
كما يشدد المركز على أن الحكومة الألمانية تعتمد مبادئ أساسية في التقييم السياسي لمشاريع القرارات، ومنها أساسا “المسؤولية التاريخية عن دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية وحقها في الوجود، وكذلك القناعة الراسخة بأن حل الدولتين القائم على التفاوض هو وحده الذي يمكن أن يضمن السلام والأمن الدائمين للإسرائيليين والفلسطينيين”.
ويجد هذا التعريف في نصفه الأول على الأقل صداه بقوة في سلوك الدبلوماسية الألمانية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أعلن المستشار أولاف شولتس يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي “في هذه اللحظة لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا: المكان إلى جانب إسرائيل”، وهو الموقف الذي أعرب عنه أيضا البوندستاغ (البرلمان الألماني).
ويوضح الكاتب والباحث الألماني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كيرستن كنيب أنه لا يمكن فصل هذه المواقف عن التاريخ الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، “عندما قتل النظام النازي ملايين اليهود”.
ويضيف، في حديثه للجزيرة نت، أن ألمانيا تشعر أن عليها دينا تاريخيا وواجبا في حماية إسرائيل، وينظر إلى هذا الالتزام على أنه أكثر من مجرد هدف سياسي، بل يعتبر أن أمن إسرائيل ووجودها هما سبب وجود الدولة في ألمانيا، ولذلك فإن أمن إسرائيل ووجودها يمثلان معا جوهر المصالح الألمانية.
وقف الحرب
وخلال زيارة وزيرة الخارجية الألمانية وزعيمة حزب الخضر أنالينا بيربوك في الثامن من يناير/كانون الثاني 2024 إلى إسرائيل دعت إلى إتاحة المزيد من الإمكانيات لإيصال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة، وأن يتصرف الجيش الإسرائيلي بحذر أكبر في هجومه.
لكن على الرغم من ذلك، فإنها لم تسلم من انتقادات داخل حزبها من قيادات نسوية قبل الزيارة بشأن إحجامها عن المطالبة بشكل صريح بوقف القصف على غزة في وقت تتزايد فيه أعداد الضحايا في صفوف النساء والأطفال الفلسطينيين.
ومع أن الخارجية الألمانية ذكّرت بشكل علني في تلك الزيارة بأهمية الالتزام بمقترح حل الدولتين لتأسيس سلام دائم في المنطقة، إلا أن الدبلوماسية الألمانية لا تمارس عمليا ضغوطا حقيقية على إسرائيل للدفع نحو تحقيق هذا المقترح.
ويزيد هذا من خيبة أمل العرب بشأن الدور الألماني، مما انعكس في احتجاجات نادرة أمام عدد من مقرات سفارات ألمانيا في المنطقة العربية، حيث عمد محتجون إلى رسم شعار النازية على جدران المركز الثقافي الألماني ردا على موقف برلين.
تحد كبير
ويعترف الباحث الألماني كنيب بأن الوضع في الشرق الأوسط يشكل تحديا كبيرا للحكومة الاتحادية، وأنه للأسباب المذكورة تقف ألمانيا بثبات إلى جانب إسرائيل، ولكنها تدرك أيضا أن أجزاء كبيرة من العالم العربي تتخذ موقفا مختلفا، وأن هذا يمكن أن يؤدي إلى خلافات سياسية مع شركائها العرب. ومع ذلك، فمن غير المتصور -وفق الباحث- أن تنحرف الحكومة الاتحادية عن موقفها الأساسي.
ويعتقد كنيب أنه من المرجح أن تواجه الدبلوماسية الألمانية المزيد من التحديات في المنطقة، وسيتعين عليها أن تشرح الموقف الألماني مرارا وتكرارا، “وهذا ليس بالأمر السهل”.
ويضيف الباحث في تعليقه “يبدو لي أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتواصل ومنع تصاعد المواقف المختلفة. ومع ذلك، يبدو لي أيضا أن الغالبية العظمى من الدول العربية ليس لديها مصلحة في تعريض العلاقات الجيدة مع دولة مثل ألمانيا للخطر بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس”.
حضور قوي
تملك ألمانيا بالفعل حضورا مهما في المنطقة العربية، فعلى مدى عقود بعد الحرب العالمية الثانية نجحت ألمانيا في أن تؤسس لعلاقات وطيدة مع أغلب دول العالم العربي.
وكان للآلاف من “العمال الضيوف” الذين تم استقدامهم بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من دول عربية دورٌ في إعادة بناء اقتصاد ألمانيا الغربية، وتحويلها إلى قاطرة الاقتصاد الأوروبي.
وحسب بيانات مكتب الإحصاء الألماني التي نشرها موقع “دوتشلاند” التابع لوزارة الخارجية، يوجد في البلاد ما يقارب 800 ألف مهاجر من سوريا وحدها من غير الحاملين للجنسية الألمانية، يضاف لهم نحو 800 ألف من باقي المهاجرين العرب.
وعلى المستوى الاقتصادي ووفق المركز الألماني للإعلام، ترتبط ألمانيا بتبادل اقتصادي قوي مع العالم العربي، حيث تعد ألمانيا من أهم الشركاء التجاريين لكثير من الدول العربية، كما تستثمر شركات ألمانية كثيرة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج.
وعلى سبيل المثال، تضاعف الميزان التجاري بين الجانبين من قرابة 22 مليار يورو عام 2002 إلى حوالي 50 مليار يورو عام 2016.
وعلى المستوى الثقافي، تضم القاهرة أقدم معهد ألماني في الخارج على مستوى العالم (تم تأسيسه 1873) يدعمه المركز الثقافي الألماني الذي يملك فروعا على مستوى العالم، وهو معهد غوته لتعلم اللغة الألمانية وحوار الثقافات عبر 10 مقرات في العالم العربي.
وترتبط الوكالة الألمانية للتعاون الدولي ببرامج تعاون وتنمية وإعمار واسعة في المنطقة العربية بما في ذلك المناطق الفلسطينية، لكن هذه البرامج وهذا التعاون الواسع يوشكان أن يكونا على محك الأزمة الخطيرة والكارثة الإنسانية في قطاع غزة المدمر.
صدمات متلاحقة
وظهرت مؤشرات على ذلك بالفعل عندما ألغت الحكومة الألمانية تمويل مشروع لمناهضة الاتجار بالنساء في مصر تنفذه مؤسسة “قضايا المرأة المصرية”، ردا على توقيع رئيسة مجلس أمناء المؤسسة، المحامية عزة سليمان، على بيان يدعو لوقف الحرب على غزة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
وفي تونس، ظهرت مناوشات علنية بين السفير الألماني بيتر بروغل ومسؤولين في الحكومة التونسية رفضوا، خلال مؤتمر صحفي بمناسبة تدشين مدرسة بتمويل ألماني، إشارة السفير في تصريح له إلى أن “الإسرائيليين ضحايا الإرهاب الفلسطيني”، ليغادروا بعدها المؤتمر.
وظهر مؤشر آخر على الطرف الألماني عندما قررت إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في دورته لعام 2023 بالتزامن مع الحرب على قطاع غزة إلغاء تسليم “جائزة ليبراتور” التي تمنحها مؤسسة “ليتبروم” للكتاب والمؤلفين من دول جنوب العالم، والتي كانت مقررة للكاتبة الفلسطينية المقيمة في برلين عدنية شبلي عن روايتها “تفصيل ثانوي”.
وقال مدير المعرض يورجن بوس حينها، في بيان صحفي نشر على موقع المعرض، “إن الحرب الإرهابية على إسرائيل تتعارض مع كل قيم معرض فرانكفورت للكتاب”، معبّرا في الوقت نفسه عن رغبة المنظمين في “أن يجعلوا الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في معرض الكتاب”.
وعمقت تلك المؤشرات وغيرها من حالة الشكوك بشأن صورة ألمانيا في العالم العربي، وقيم الإنسانية والحرية التي تحرص الحكومة الاتحادية على التذكير بها في علاقاتها الدبلوماسية.
ومن المفارقة أن كثيرا من تصريحات مراقبين للحرب على غزة، جاء فيها أن ما يتعرض له “قطاع غزة بات يشبه بصورة أكثر فظاعة المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية إبان الحرب التدميرية التي قادها الحلفاء لتركيع ألمانيا”، كما يقول رئيس مركز القدس للدراسات السياسية عريب الرنتاوي في مقابلة صحفية.
حملة قمع
لكن موجة الاستياء العامة بلغت ذروتها مع حملة القمع العنيفة للشرطة الألمانية ضد المشاركين في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وحظر العاصمة برلين رفع الأعلام والكوفية الفلسطينية في المدارس، مع ما رافق ذلك من حملة اصطياد واسعة النطاق من قبل المؤسسات الرسمية الألمانية وممثلي الأحزاب وأغلب وسائل الإعلام للأصوات المنتقدة لسلوك إسرائيل في قطاع غزة.
وقالت صحيفة “ذا هيل” الأميركية إن ما يحصل في ألمانيا من حملات منظمة ضد داعمي الفلسطينيين أمر لم يسبق له مثيل في تاريخ هذا البلد منذ الحرب العالمية الثانية.
وبينما طالب الرئيس الألماني فرانك شتاينمار الجاليات العربية بالنأي بأنفسها صراحة عن دعم حركة حماس، ذهب حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى حد المطالبة بإصدار قرار يجعل دعم إسرائيل شرطا للحصول على الجنسية الألمانية.
وتهدد تلك القيود بنسف سياسة الباب المفتوح التي توختها ألمانيا لـ”أسباب إنسانية” في استقبال مئات الآلاف من الفارين من الحرب السورية.
استعداد لدفع الثمن
ويقول الباحث والأكاديمي السوري المقيم في ألمانيا والمحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي حسام الدين الدرويش إن صورة ألمانيا، شعبا ودولة وحكومة، والتي أصبحت زاهية لدى كثيرين مع التبني الرسمي والشعبي لسياسة الترحيب باللاجئين، أصبحت باهتةً أكثر فأكثر مع التحول في الخطابات والسياسات الحكومية واليمينة تجاه اللاجئين.
ويستطرد الدرويش، في تعليقه للجزيرة نت، أن الأمر يتعلق بصدمات متلاحقة في العالم العربي وخارجه بشأن السياسة الألمانية، من بينها ملاحقتها المقاومة السلمية للاحتلال الإسرائيلي، وسعيها لتجريم حركة المقاطعة لإسرائيل، ومحاولتها قبل ذلك تسويق قيمها بشأن الشذوذ الجنسي ورفع شعاراته في مونديال قطر عام 2022.
ويضيف الدرويش في ختام ملاحظته أن “ألمانيا لم تخفق، في علاقتها بالعالم العربي، لأن تلك العلاقة ليست أولوية بالنسبة إليها، وهي تركز على دعم دولة الاحتلال الإسرائيلية في كل الأحوال ومهما كان الثمن. ومن الواضح أن تشوه صورتها في العالم العربي هو أحد هذه الأثمان التي يبدو أن الحكومة الألمانية مستعدة لدفعه بكل طيب خاطر”.