عانت جمهورية تشاد، الواقعة في قلب أفريقيا، من تقلبات سياسية واضطرابات أمنية عديدة على مدار أكثر من 63 عاما، حيث لم تشهد البلاد أي تداول سلمي للسلطة أو انتقال ديمقراطي حقيقي. ومرت البلاد بأحداث سياسية عاصفة خلال العقود الستة الماضية.
وشهدت جمهورية تشاد تحولا في مسارها السياسي يوم 11 أبريل/نيسان عام 2021، حيث أُجريت الانتخابات الرئاسية، إذ كان الرئيس إدريس ديبي إتنو، الحاكم منذ 3 عقود، يقف على أعتاب فوز ساحق لفترة رئاسية سادسة، بحصوله على 80% من الأصوات وفق النتائج التي أعلنتها الحكومة.
غير أن الأشهر التي سبقت الانتخابات كانت تموج بالتوتر، حيث كثف النظام جهوده لقمع المسيرات المُطالبة بالتناوب السلطوي الذي دعت إليه المعارضة.
في ذروة تلك اللحظات الحرجة، شنّت المعارضة المسلحة “جبهة التغيير والوفاق”، المؤسسة عام 2016 من قبل ضباط سابقين في الجيش التشادي، هجوما في شمال البلاد يوم الانتخابات، متقدمة من ليبيا نحو العاصمة نجامينا.
فصل جديد
ديبي، الذي وصل إلى السلطة عبر تمرّد مسلح، توجّه إلى الخطوط الأمامية لدعم قواته ضد المتمردين. لكن تلك الشجاعة كلفته حياته، إذ توفي في 20 أبريل/نيسان 2021، متأثرا بجروح في اشتباكات مع المتمردين، وفق ما أعلنه التلفزيون الرسمي.
بيد أن الغموض لا يزال يحيط بالظروف المباشرة لوفاته، فهل كان مقتله نتيجة الاشتباكات حقا، أم أنه كان اغتيالا من قريبيه كما تزعُم أقسام من المعارضة.
هذا الحدث لم يكن إلا بداية لفصل جديد مليء بالاضطرابات في تاريخ تشاد، فتح الباب أمام عدة تساؤلات حول مستقبل البلاد ومسارها نحو الاستقرار والديمقراطية.
ويُعد إدريس ديبي إتنو، الذي تولى مقاليد الحكم منذ الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1990 وحتى لحظة مقتله، شخصية محورية في تاريخ تشاد الحديث. ينتمي إلى قبيلة الزغاوة، وتلقى تدريبه العسكري في فرنسا قبل أن يعود إلى البلاد في 1976، حيث بقي وفيا للجيش وللرئيس آنذاك فليكس معلوم.
وبعد نشوب خلاف مع الرئيس الأسبق حسين حبري، الذي اتهمه بمحاولة الانقلاب، اضطر ديبي لمغادرة البلاد وتأسيس “جبهة الإنقاذ الوطنية”، ليبدأ طريق العودة إلى السلطة عبر استيلائه على العاصمة نجامينا في 1990.
وتم تعيين ديبي رسميا رئيسا للدولة في 28 فبراير/شباط 1991، إثر إقرار الميثاق الوطني. وفاز في الانتخابات الرئاسية لعامي 1996 و2001، وتلاها تعديل دستوري مكنه من الترشح لفترات رئاسية إضافية، ففاز مجددا في استحقاقات 2006 و2011 و2016، مما جعله أحد أطول القادة بقاء في السلطة على مستوى العالم، بأكثر من 30 عاما.
تخللت رئاسته تقييمات متباينة، فمن جهة، كان يحظى بشعبية عارمة بين أفراد قبيلته الزغاوة، ومن جهة أخرى، واجه انتقادات شديدة من المعارضة والقوى المدنية بسبب القمع والتحريض على العنف وتوليه السلطة لأمد طويل.
نقاط ضعف
اقتصاديا، رغم أن ديبي أشرف على بدء إنتاج النفط عام 2003، فإن تشاد ظلت من الدول المتخلفة اقتصاديا. ويُعزى إليه الفضل في تحقيق مستوى من الاستقرار النسبي في مواجهة التحديات الأمنية، خصوصا التنظيمات الإرهابية، مقارنة بالتوترات في منطقة الساحل.
أهم النقاط النقد الموجهة إلى سجل ديبي، تتمثل في تركه بلدا ببنية مؤسساتية ضعيفة، مما أدى إلى الالتفاف على الدستور بعد وفاته. هذا الوضع أصبح واضحا من خلال توريث السلطة لنجله، الأمر الذي يعكس فشله في بناء دولة مؤسساتية ودستورية رغم عقوده الثلاثة في الحكم.
بعد وفاة ديبي، غمرت نجامينا أمواج من القلق والتوتر. الهجمات التي شنها المتمردون أحدثت حالة من الذعر، وتم نشر الدبابات في الشوارع الرئيسية لضمان الأمن والنظام.
وأعلن الجيش حل الحكومة وتعيين محمد إدريس ديبي إتنو (37 عاما) ابن الرئيس الراحل -حينها- رئيسا مؤقتا، وتنظيم انتخابات خلال 18 شهرا من وفاة ديبي الأب. على رأس المجلس العسكري، وعد محمد إدريس بإجراء انتخابات “حرة وديمقراطية” بمجرد انتهاء الفترة الانتقالية.
هذا الانتقال السريع للسلطة، رغم مخالفته للدستور التشادي الذي ينص على أن يتولى رئيس البرلمان منصب الرئاسة بصفة مؤقتة في حال غياب الرئيس بسبب الوفاة، لاقى تأييدا من أنصار المجلس العسكري، مستندين على تبرير أن رئيس البرلمان قد تخلى طوعا عن حقه في الرئاسة.
ومهّد ذلك الطريق لمحمد ديبي ليقود فترة انتقالية مضطربة مع إخلال بوعوده المتعلقة بالفترة الانتقالية وترشح أعضاء المجلس للانتخابات.
واجهت تشاد مرحلة انتقالية معقدة مليئة بالتحديات السياسية والأمنية، واستهل النظام الجديد مهامه بمواجهة حركات التمرد عسكريا، لتتجه لاحقا نحو مسار المفاوضات في قطر.
في الدوحة، توصلت الحكومة التشادية -عبر مفاوضات السلام- في أغسطس/آب 2022 إلى اتفاق مع أكثر من 52 حركة معارضة و200 حزب سياسي، تعهدوا بوقف كامل ونهائي للأعمال العدائية والبدء في عملية نزع السلاح وإعادة الدمج.
توتر جديد
أعقب ذلك فورا، جلسات حوار وطني شامل في تشاد، جمعت 1400 مندوب، بما في ذلك ممثلون عن المجموعات المسلحة، بهدف التوصل إلى اتفاق لإنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء انتخابات حرة وديمقراطية.
رغم مبادرات تحقيق السلام، عانت البلاد موجة توتر جديدة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بتنظيم مسيرات واسعة في اليوم الذي يصادف انقضاء الفترة المحددة بـ 18 شهرا التي أعلن المجلس العسكري التزامه بها.
وقمع الجيش الاحتجاجات التي أقامها معارضو تمديد الفترة الانتقالية، مما أسفر عن مقتل حوالي 300 شخص واعتقال المئات. في خطوة لاحقة نحو الدمج السياسي، أُجري استفتاء في ديسمبر/كانون الأول 2023.
انتقد المجتمع المدني وقادة المعارضة عملية الاستفتاء بسبب عدم تمكنها من تغطية القضايا الجوهرية للمعارضة السياسية، مثل القمع وغياب حريات التعبير والتجمع، ووجود هيئة إدارة انتخابية غير محايدة وإشكاليات تتعلق باللامركزية والفدرالية في إدارة دولة تُعتبر خامس أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة.
ودعت غالبية الأحزاب المعارضة إلى التصويت بـ “لا” أو إلى مقاطعة الاستفتاء تماما. مع ذلك، أقرّت نتيجة الاستفتاء دستورا جديدا يسمح بمشاركة أعضاء المجلس العسكري في الانتخابات المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وتم تقديمها إلى مايو/أيار، ولتحقيق المصالحة، أُعلن عفو عام عن المتورطين في الأحداث العنيفة التي وقعت في أكتوبر/تشرين الثاني 2022.
أبرز التحفظات التي قد تُسجل بخصوص مبادرات محمد ديبي للسلام، أنه أقام حوارا وطنيا واستفتاء دستوريا تحت إشراف الموالين له بإحكام، مما أدى إلى تمديد الفترة الانتقالية لعامين إضافيين وسمح لمجلسه العسكري بالمشاركة في الحكومة المدنية المقبلة، وهو ما كان قد نفاه في السابق.
تحول جذري
طرأ تحول جذري آخر في السياسة التشادية بتعيين سوكسيه مسرا، قائد المعارضة، رئيسا للوزراء في الأول من يناير/كانون الثاني 2024.
مسرا، الذي كان قد فرّ إلى المنفى بعد مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول -وكان أحد قادتها- وصدرت بحقه مذكرة توقيف دولية، عاد إلى البلاد في إطار اتفاق تفاوضي وأُطلق سراح أنصاره، مما عدّ خطوة نحو الوحدة في مواجهة التحديات القائمة.
وفي تقلب مفاجئ آخر للأحداث، قُتل يحيى ديلو جيرو (49 عاما)، زعيم الحزب الاشتراكي “بلا حدود”، المعارض البارز وابن عمة الجنرال محمد ديبي، خلال عملية عسكرية استهدفت مقر حزبه يوم الأربعاء 28 فبراير/شباط الماضي.
جيرو الذي كان يُعد منافسا رئيسيا لديبي في الانتخابات الرئاسية القادمة، واجه اتهامات بتنظيم هجوم على مقر الاستخبارات الوطنية في الليلة السابقة، إثر اعتقال أحد أنصاره بتهمة محاولة اغتيال رئيس المحكمة العليا.
وقبل ساعات من مقتله، أصدر جيرو بيانا ينفي فيه بشكل قاطع التهم الموجهة إليه، قائلا إنها “كذبة” و”تمثيلية” مفبركة لاستبعاده من الترشح ضد محمد ديبي.
أضاف الحادث طبقة أخرى من التوتر إلى الأجواء المشحونة -بالفعل- قبل الانتخابات الرئاسية، وسلط الضوء على الصراعات العميقة داخل قبيلة الزغاوة الحاكمة.
يُذكر أن التعديلات الدستورية التعسفية، والتأخيرات الانتخابية، ضمت شخصيات بارزة من المعارضة تحت وطأة التهديد، وكانت الاغتيالات السياسية جزءا من إستراتيجيات ديبي الأب للبقاء في السلطة.
وبفضل دستور يمكن تعديله بسهولة، استطاع ديبي إرساء نظام يكفل له إمساكا دائما بالسلطة، ويُستنتج أن نجله يتبع مساره. هذه الترتيبات كانت السبب الرئيس وراء فشل تشاد في تجربة انتقال انتخابي سلمي، رغم المطالب الشعبية بتبني معايير ديمقراطية.
وأسهم هذا النمط من الحكم في استمرار حالة عدم الاستقرار التي عانت منها البلاد عبر عقود، شملت التمرد المسلح والاغتيالات والأزمات الاقتصادية وتفاقم الفوارق الاجتماعية في الدولة الغنية بالنفط والتي يعيش فيها 18 مليون نسمة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في السادس من مايو/أيار القادم في ضوء تصريحات عثمان ديلو -شقيق يحيي ديلو- الذي توعد بالانتقام لأخيه، فإن تقلبات سياسية مصحوبة بتحركات مسلحة شبيهة بظروف مقتل إدريس ديبي في الأشهر المقبلة ذات احتمالية معتبرة، مما يهدم أسس أي تطلعات ديمقراطية مستقبلية.