تتداول أغلب وسائل الإعلام العالمية في الأسبوعين الأخيرين، أخبارًا مؤلمة عن هاييتي، ذلك البلد الكاريبي الذي ارتبط اسمه بالزلازل والأعاصير والسيول الجارفة، وتاريخ حافل بتلاعب القوى الاستعمارية بثرواته.
لكن الأخبار الأخيرة تتعلق بانفجار الأوضاع الاجتماعية والسياسية، التي منعت رئيس وزراء البلاد المؤقت أريال هنري من العودة للبلاد، وأجبرته العصابات في النهاية على الاستقالة، وسط عجز تام للسلطات الهاييتية في وضع حدّ للانفلات الأمني. ولئن بدت هذه الأحداث مؤلمة، فإن الأسباب التي قادت هاييتي إلى هذا الواقع هي أشدّ إيلامًا.
مجلس رئاسي انتقالي
صحيح أن المظلمة الفلسطينية وحرب الإبادة الممنهجة التي تقودها إسرائيل، بضوء أخضر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على غزة وأهلها، تعلو على كل الجرائم المقترفة ضد الإنسانية، غير أن ما حدث ويحدث في هاييتي، هو دليل آخر على نفاق القوى العظمى، وتكالبها على استنزاف البلدان الضعيفة، فقط من أجل تحقيق مصالحها المادية دون أدنى اعتبار لشعارات الديمقراطية والعدالة وحق تقرير المصير التي ترفعها.
ما تعيشه هاييتي مؤخرًا، هو انهيار الدولة بأتمّ معنى الكلمة، فأزمة الشهر الجاري انطلقت بتمكّن عصابات المخدرات والجريمة المنظمة من اقتحام أهمّ سجن في العاصمة وتحرير سجنائه، والسيطرة على الشارع وشلّ حركة المطار والموانئ، ممّا حال دون عودة رئيس الوزراء المؤقت أريال هنري من القمة الإقليمية التي كان يحضرها في جامايكا، ورضخ لقرار الاستقالة، تحت ضغط المحتجّين ونفوذ العصابات.
ورأت القوى السياسية في البلاد، بتنسيق مع أطراف أجنبية، أن الحل العاجل يتمثل في تأسيس مجلس رئاسي انتقالي يمنح البلد فرصة للخروج من الانسداد، ويرسم خارطة طريق للمشهد السياسي القادم.
ولم يعارض أريال هنري هذا القرار، نظرًا لهشاشة دوره، وتوقّع حدوث السيناريو الحالي من قبل الجميع. حيث تولى الرجل إدارة البلاد، على إثر اغتيال الرئيس السابق جوفينيل مويسي في عقر قصره في 2021، على أيادي فريق كولومبي من القتلة المأجورين وبمساعدة من عسكريين هاييتيين.
وهي ظروف تكاد تكون اعتيادية في هاييتي، حيث إن الفترات الانتخابية فيها لا تكتمل، ولطالما ارتبطت بمتغيرات حالت دون إنهاء أغلب الدورات منذ زمن طويل وعطّلت إجراء أخرى، فمثلًا تداول على البلاد من 1911 إلى 1915، ثمانية رؤساء، في المقابل، لم تجرِ البلاد انتخابات منذ 2016.
اختطاف وابتزاز
وفي الحقيقة، عاشت هاييتي تقلبات لأكثر من خمسة قرون، تداولت فيها القوى العظمى على استعمارها، وتفنّنت في تركها مُكبّلة، بشكل تعجز فيه عن تحقيق استقلال حقيقي، وهو ما أدّى إلى تباين صارخ في واقعها: ثروات طائلة منهوبة واستعمار مالي يجثم على إيراداتها إلى اليوم، مقابل فقر يفتك بـ 63% من سكانها، وعصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات تعيش على “فديات” ابتزاز الأهالي، واختطاف الأجانب.
وهو ما جعلها تُصنّف البلد الأشدّ فقرًا في القارة الأميركيّة، علمًا أنّ تعدادها حوالي 11 مليون ساكن، يعيشون على 27 ألف كيلو متر مربع، ويصل متوسط أعمارهم إلى 24 سنة، ويصنّف نصفهم في قائمة الأمّيّة.
فهاييتي التي تعتبر أفقر بلد في النصف الغربي من الكرة الأرضية اليوم، كانت أولى وجهات الغزو الإسباني بقيادة كريستوفر كولومبوس في 1492، ومثّلت مكسبًا ثمينًا للإسبان بفضل الثروات المعدنية والزراعية التي كانت تحتويها.
ونظرًا للتوسع الذي حققته الإمبراطورية الإسبانية في ذلك الوقت في جنوب ووسط القارة الأميركية، قامت بتمرير المستعمرة إلى فرنسا في 1697، التي أغرقت المستعمرة بأعداد هائلة من العبيد استجلبتْهم من أفريقيا، وحولتها إلى أغنى مستعمرة في القرن الثامن عشر، مكّنتها من إنتاج 60% من احتياجات القهوة للقارة الأوروبية، إضافة إلى خيرات أخرى، مثل السكر والمعادن.
الغريب في الأمر، أنه وتحت وطأة الاستعمار الفرنسي المتوحش، نجح سكان هاييتي والذين كانوا يسمون بـ “الدومانغيين” في تلك الفترة، بالقيام بأول ثورة للعبيد في التاريخ الحديث بزعامة الأيقونة توسان لوفرتير. ونجحت انتفاضتهم في افتكاك حريتهم في 1793، واضطر برلمان فرنسا بعد ذلك بسنة، إلى إلغاء العبودية في جميع مستعمراتها. وتمكنوا في 1804 من الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
فوضى سياسية
لكن الأغرب هو ما حدث بعد ذلك، في 1825، عندما قام الملك الفرنسي المتشدد، شارل العاشر بتهديد هاييتي بالغزو ثانية، في حال عدم دفع تعويضات لفرنسا، وكان ذلك بمباركة من الولايات المتحدة، التي لم تعترف، شأنها شأن فرنسا بثورة هاييتي. وقد مثّل المبلغ الذي طالب به شارل العاشر، رقمًا خياليًا بلغ 150 مليون فرنك (مايعادل 21 مليار دولار اليوم)، مع منح الواردات الفرنسية تخفيضًا بـ 50% لرسومها، وهو ما رضخت له هاييتي واستمرّت في تسديده لأكثر من قرن، وأدّى إلى الإجهاز على اقتصادها وإغراقه في الديون.
أما الأمر الأكثر استفزازًا مِمّا سبق ذكره، فهو دخول الولايات المتحدة على خطّ الاستعمار، بعد أن كانت ترصد منطقة الكاريبي بطمع في نهاية القرن التاسع عشر.
حيث مثّلت الفوضى السياسية التي عاشتها هاييتي بين 1911 و1915 الحجّة الأقوى لها للتدخل، وحرّكت لأجلها أساطيلها العسكرية لقطع الطريق أمام تدخل ألماني محتمل، رافعة شعار التدخل المؤقت لاستعادة الأمن في هاييتي، غير أن التدخل انقلب غزوًا والمؤقت دام 19 سنة.
وبهدف فرض النظام في البلاد، اشترطت واشنطن معاهدة على هاييتي تمنحها إدارة الشؤون المالية والجمارك والموانئ، وأسست لها جيشًا متكونًا من قوات من الهاييتيين والأميركيين، تحت إمرة البحرية الأميركية.
كما نجحت واشنطن في تثبيت الرئيس فيليب سودري في منصبه حتى 1922، رغم احتجاج الشعب عليه، ممّا مكنها من تحقيق مآربها في ظلّ استقرار سياسي غير مسبوق في هاييتي.
ووفقًا لعدد من الوثائق التاريخية، قامت القوات الأميركية بسلب مخزون بنك هاييتي المركزي من الذهب، ونقلته إلى بنوك أميركيّة، تحت حجج واهية، ولم تُعده إلى اليوم.
ورغم كل هذه المظالم، تجدر الإشارة إلى أن جان برتران أريستيد، الرئيس الهاييتي الوحيد الذي تم انتخابه ديمقراطيًا، وطالب فرنسا بإرجاع الأموال التي فرضتها على هاييتي جورًا، تمّت الإطاحة به قبل انتهاء فترته الانتخابية بتدبير فرنسي وأميركي مُعلن.
قد يبدو الحلّ في استعادة السلم والنظام في هاييتي، هدفًا مستحيلًا أو بعيد المنال، إلّا أن المؤكد أن القوى العظمى لو لم تكن منشغلة بمهامها في غزة وأوكرانيا، لكان السيناريو القادم في هاييتي، مختلفا تمامًا عن كل ما كانت ستشهده من سيناريوهات.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.