تارودانت- أن ترى الرجال في الميادين يواجهون الصعاب فتلك مهمتهم ولها خلقوا، لكن عندما تهب الأيادي الناعمة للجنس اللطيف لخوض غمار الأهوال يصبح الأمر لافتا للانتباه ويستحق تسليط الضوء عليه واستكشاف ما وراءه من دوافع.
في كل قرى إقليم تارودانت، جنوب المغرب، التي تجولت فيها الجزيرة نت، لمعاينة آثار زلزال الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري، لاحظنا أن النساء حاضرات بقوة في كل شيء، فأولئك اللائي يقطنّ في مناطق الزلزال هببن لمساعدة الرجال، وأخريات تركن أسرهن وبيوتهن في باقي مناطق المغرب وهرعن ليواسين ويؤازرن بما استطعن.
في قلب الركام
زينة امرأة في الـ60 من عمرها من قرية تاجكالت المنكوبة تحكي للجزيرة نت كيف أنقذت لحظة الكارثة زوجة ابنها و3 من حفيداتها، وتروي بطولات لنساء أخريات من قريتها صبرن عند الصدمة الأولى وقدمن خدماتهن للمتضررين.
أما السعدية الأطرش، وهي امرأة في الـ30، فقد قطعت نحو 5 كيلومترات ليلة الزلزال رفقة أخيها من قرية “تاركان الحنا” (ساقية الحناء” بالعربية) إلى قرية تاجكالت لإنقاذ أقاربها هناك وابنة جيرانها، وعندما انتهوا ذهبوا إلى قرية أخرى مجاورة هي “أنزال”.
تقول السعدية للجزيرة نت “منطقتنا تضررت لكن تاجكالت كانت أكثر تضررا ولها الأولوية، ساعدنا في رفع الركام والأحجار عن بعض المصابين، رأينا الجثث والمعطوبين، ولكني بعد فترة لم أعد أستطيع التحمل من شدة الكارثة فتنحيت جانبا مع المتضررين، أصبت بصدمة كبيرة ولعدة أيام لم أستطع النوم والأكل”.
النساء أعرف بحاجات النساء
أما حبيبة الصبان، فقد قطعت نحو 900 كيلومتر من طنجة شمال البلاد إلى إقليم تارودانت في جنوبها لتقدم شيئا للنساء والأطفال ضحايا الزلزال، والتقتها الجزيرة نت وسط قوافل من المساعدات في منطقة تفنكولت.
تقول حبيبة للجزيرة نت “عندما رأينا هذه الكارثة أنا وصديقاتي في حيّنا تنادينا لنجمع مساعدات للمتضررين، وكلفنا 4 منا لإيصال ما جمعنا من مساعدات، وسافرنا 13 ساعة متواصلة دون نوم”.
وتضيف “في البداية كنا ذاهبات إلى مراكش، لكننا ونحن في الطريق علمنا أن مناطق إقليم تارودانت تحتاج إلى المساعدات أكثر فغيرنا وجهتنا إليها، وفعلا لما وصلنا إلى هنا وذهبنا إلى القرى المتضررة في أيت معلا وجدنا مأساة”.
وتصف ما شاهدته قائلة “قضينا عدة أيام في هذه المنطقة شعرنا فيها فعلا أننا بين أهلنا، وأحضرنا عدة أنواع من المساعدات، لكننا ركزنا على لوازم النساء والأطفال، لأن النساء أعرف بحاجات النساء”.
سألناها كيف تترك أم أطفالها وتسافر مئات الكيلومترات لتخوض مغامرة مثل هذه؟ فأجابت “رغم أني تركت أبنائي وبناتي وجئت إلى هنا، فإني راضية ومرتاحة، فهم في أمان عكس هؤلاء الأطفال المشردين هنا في القرى الجبلية، هؤلاء أحوج إلي من أولادي الآن”.
وبحماس تشاركنا بعض خلاصات زيارتها للقرويين المنكوبين قائلة “سكان هذه المناطق أصلا فقراء من غير زلزال، لكن الكارثة ضاعفت معاناتهم، ورغم ذلك وجدنا لديهم تعففا وقناعة ورضى غير عاديين”.
توفير المآوي
الطفلة مريم (16 عاما) من فتيات قرية “تمسولت” بمنطقة “تيزي نتاست” تحكي بدورها للجزيرة نت أن نساء قريتها منهن من مات زوجها أو أبناؤها لكنهن صابرات وصامدات، ومنهن من أنقذن العالقين وعالجن الجرحى.
واستمر دور نساء “تمسولت” وغيرها من القرى المتضررة من الزلزال في تجهيز مآو بديلة للمشردين ومواساة من فقدوا أقاربهم في هذا المصاب الجلل، وتقول مريم إن مما يخفف مأساتهن أن يرين نساء مغربيات قدمن للمؤازرة من كل حدب وصوب.
نساء قرية أمندار اشتهرن قبل أسابيع بلقب “لبوءات الأطلس” بعد أن انتشر لهن مقطع مصور وهن يحملن الآجر على ظهورهن في المرتفعات والطرق الوعرة ليساهمن في بناء مسجد القرية، وقد عدن مرة أخرى هذه الأيام في مشهد مماثل يحملن المساعدات والإعانات على ظهورهن ليبلغن بها مساكنهن في قمم الجبال.
الجزيرة نت أثناء زيارتها القرية عاينت قوافل هؤلاء النساء وهن يصعدن الجبال وعلى ظهورهن أثقال مع أثقال شظف العيش في واد سحيق بين جبلين شاهقين. وعبر كثير منهن عن صبرهن واحتسابهن، مع أمل في أن تتحسن أوضاعهن ويتم إصلاح الطرقات كي تخفف عنهن هذه الأحمال التي تتكرر كل يوم.
طفلة تستنهض أسرتها
ومن شرق المغرب حضرت ليلى وأسرتها من مدينة بركان قاطعة أكثر من ألف كيلومتر لتساعد المتضررين، وحملت معها ما تيسر من مساعدات في سيارة الأسرة.
تقول ليلى “جئت أنا وعائلتي وجيراني من بركان، قطعنا هذه المسافة كلها لنواسي ضحايا الزلزال فهم إخواننا، وأنا بصفتي امرأة مغربية لا يمكنني إلا أن أشعر بمعاناة إخواني وأخواتي في المناطق المنكوبة”.
وتضيف “لا يمكن ألا تحركنا مشاهد الدمار هذه، ولا يمكن ألا تؤثر فينا صور الرجال والأطفال والنساء الذين ماتوا أو جرحوا، لا بد أن نشاركهم محنتهم وأحزانهم، رغم كل المصاعب التي تكبدناها، ورغم هذه الطرقات الوعرة والخطيرة التي سلكناها، لكن إخواننا وأخواتنا يستحقون”.
الطفلة هناء بشيري (15 سنة)، وهي جارة ليلى في بركان، هي الأخرى أبت إلا أن تأتي إلى هذه الجبال لتواسي أقرانها وتساعدهم، وتقول إنها هي التي استنهضت همة أسرتها لتبادر إلى المساعدة، وذلك بعدما أثرت فيها المشاهد التي رأتها.
وتحكي شعورها في حديث للجزيرة نت قائلة “رأيت مقطعا مصورا للضحايا وهم يبكون ويستنجدون، ورأيت أطفالا مرعوبين، فبكيت بدوري وجمعت أسرتي وقلت لهم لا بد أن نفعل شيئا”.
“كلنا لبوءات الأطلس”
في الأعالي حيث لا طرق ولا وسائل نقل التقينا كوثر بن دومو، وبدا من هيئتها أنها ليست من نساء المنطقة، وعلمنا بعد الحديث معها أنها رئيسة “جمعية الأمل للرياضة والتنمية البشرية”، وأنها ممن ألفن الصعود إلى المنطقة منذ سنوات.
تقول كوثر “اعتادت جمعيتنا تنظيم سباقات في هذه المنطقة، ولما وقعت هذه الكارثة وجدنا أن أول ما يجب القيام به هو مواساة هؤلاء السكان، الذين يرحبون بنا دائما خلال أنشطتنا طوال العام”.
وتضيف “حضرت للمنطقة منذ اليوم الأول للزلزال، وأنا أصلا أزور المنطقة باستمرار لحبي للرياضات الجبلية، كلنا لبوءات الأطلس”.
3 فرق
سارة ومليكة و4 نساء أخريات ناشطات في جمعية خيرية في العاصمة الرباط التقتهن الجزيرة نت في بلدة “أولاد برحيل” بإقليم تارودانت وعلمت منهن أن الجمعية أرسلت 3 فرق من النساء المتطوعات، فريق إلى تارودانت وآخر إلى مراكش والنواحي والثالث إلى إقليم ورزازات جنوب شرق البلاد.
تقول سارة إن “المرأة المغربية معروف عنها أنها تضحي وتعطي كل ما لديها”، وإنها وزميلاتها تركن أعمالهن وأسرهن “لأنهن لو خيرن بينها وبين المغرب لاخترن المغرب”.
بدورها تقول مليكة “استقبلنا أبناء المنطقة وآوونا في بيوتهم وجهزوا لنا قائمة من المناطق المتضررة، أحضرنا خياما وأغطية وحاجيات النساء والأطفال، وسنتفرق في القرى لإيصالها إلى المحتاجين”.
أيتام وأرامل
وتعلق حفيظة بوحيجى، الناشطة في “جمعية قلوب الرحمة لرعاية الأيتام والأرامل” على هذا التضامن الشعبي النسوي قائلة إن “المرأة المغربية حاضرة في كل مشاهد كارثة الزلزال”.
وتؤكد أنه منذ اللحظات الأولى للهزة الأرضية تحركت المرأة المغربية في كل الاتجاهات، “فقد احتضنت أطفالها وأهلها، ومن النساء من استشهدن ودفعن أرواحهن وهن يحاولن إنقاذ أطفالهن وذويهن”.
وبعد الهزة أيضا -تضيف حفيظة- “وجدنا المرأة المغربية في بؤر الكارثة، تنقذ وتساعد وتضحي بوقتها ومالها وأسرتها وتجود وتعمل جاهدة من أجل تنظيم حملات خيرية لجمع المساعدات للمنكوبين في كل بقاع الوطن، وتتكفل بالأيتام والأرامل”، معتبرة أن ذلك واجب وطني.
وتختم حديثها للجزيرة نت بالقول “رسالتي للنساء والأطفال المتضررين من الزلزال أن يثقوا بالله الذي قدر ولطف، وأن يعلمن ويعلموا أن لهذا الوطن نساءه ورجاله، وله جمعيات ستتكفل بالأرامل والأيتام، وفي الغد القريب ستشرق شمسهم من جديد، ونحن معهم حتى تتحسن ظروفهم بإذن الله”.
الكثيرات ممن تحدثنا إليهن وعاينا جهودهن في الميدان ظهرت عليهن علامات الرضا والحماس بالعطاء، وإن كن لا يخفين صدمتهن من هول الكارثة، لكنهن يؤكدن أن “النساء شقائق الرجال حتى في المحن”.