غزة- في مبنى تهاوت قواعده ولم يتبقّ منه سوى الطابق العلوي الأخير، فتحت الحاجة زكية ثغرة جانبية بالكاد تكفي لمرور شخص نحيف لتدخل منها إلى مأواها. بصعوبة بالغة عبرنا إلى المكان وخلال الدقائق القليلة التي أجرينا فيها المقابلة شعرنا بدوار شديد بسبب الأرضية المائلة التي نقف عليها.
سألناها “كيف تحتملون العيش هنا ونحن لم نستطع المكوث فيه وقتا قصيرا؟”، لتجيب باقتضاب “مجبرة لا مخيرة”، لم تكن الأرضية المائلة المعضلة الوحيدة، فزكية تنام مع عائلتها على أرضٍ رملية باردة يفرشونها بغطاء استخرجه زوجها من مكب القمامة، غسلته بصبر ودموع وينامون عليه بلا وسائد ولا أغطية.
تعيش زكية في رعب مستمر وتقول “أرتعد من أصوات القصف والانفجارات وأتخيل انهيار السقف علينا”، وعند هطل الأمطار يتسرب الماء من الأسقف والجدران المتهالكة ومن الفتحات الجانبية فيصير المكان مستنقعا من الطين ويلجؤون إلى الزوايا المرتفعة من الأرض المنحدرة ليقضوا ليلتهم في صراع مع البرد والرطوبة.
حلم العودة
وتشير زكية، النازحة من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، إلى زاوية مستترة بستائر بالية، صنعت منها حماما بدائيا لعائلتها لقضاء الحاجة. ولا تتمنى سوى الاجتماع مع أبنائها الذين فرقتهم عنها الحرب والعودة ولو في “خم دجاج على أرض بيتها”، كما تقول.
في مبنى متهاوٍ لم يبق منه سوى فناء أرضي بسقف مهترئ وجدران متصدعة، تحتمي عائلة أبو الحسنى المكونة من أكثر من 40 فردا، جمعهم النزوح بعدما فقدوا كل ما كانوا يملكونه. ويتبين من بقايا تصاميمه أنه كان في يوم ما مقهى فاخرا.
تكابد هذه الأسرة ظروفا بالغة القسوة، فالجدران بالكاد تصمد أمام الرياح، والأسقف لا تقوى على منع تسرب مياه الأمطار. يقول إسماعيل أبو الحسنى “قضينا الشتاء الماضي ونحن نحتمي بقطع من البلاستيك، لكن الماء تسرب إلينا من كل مكان، اضطررنا للانتقال إلى مخزن مؤقت، ثم عدنا هنا بعد انتهاء المطر، لا خيار لدينا”.
مع انعدام خدمات المياه بسبب تدمير شبكات الإمداد، يعتمد إسماعيل وبقية العائلات على صهاريج تعبئة المياه العذبة لتلبية احتياجاتهم اليومية، من الشرب إلى الغسيل والطهو. ويتساءل بحزن “كيف سنعيش إذا استمر هذا الوضع؟ حتى أبسط الأمور أصبحت رفاهية ونعاني حتى نحصل عليها”.
كانوا يعيشون حياة مترفة، ويذكر إسماعيل للجزيرة نت “كنا تجارا نملك عشرات المشاريع الكبيرة، لكن الحرب حولتنا إلى لاجئين بلا مأوى، كل ما بنيناه خلال سنوات العمر انتهى في لحظة”. كما فقدوا 3 من أبنائهم في غارات جوية، ويعيش أطفال هؤلاء الشهداء الآن في المقهى المهجور ذاته في خوف دائم وصور محفورة في الأذهان عن حياة كانت أفضل.
ورغم المعاناة، يحمل إسماعيل حلم العودة إلى أرض منزله حتى ولو لم يستطع أن يبني إلا خيمة، ويقول “أن تشعر أنك على أرضك إحساس يعطيك نوعا من الاستقرار وإن كنت بلا سقف. فما الفائدة من قصر تحت مرمى الصواريخ؟ نريد فقط أن تنتهي الحرب بعدها سنعيد بناء حياتنا من جديد، حتى لو بدأنا من الصفر”.
نزوح قسري
على مفترق طرق صاخب وسط مدينة غزة حيث محطة وقود مدمرة، تتعجب من وجود أحبال غسيل تتدلى على حافة المبنى المنهار، وأغطية قماشية تسد ثغرات واسعة أحدثتها قذائف الحرب، تقترب أكثر فتكتشف مأوى غير اعتيادي حيث غرفة بلا باب، تضم أكثر من 10 عائلات نزحت قسرا من مخيم جباليا، هربا من الموت الذي يلاحقهم.
التقت الجزيرة نت أم ربيع، التي حاولت النزوح إلى مخيمات الشمال في ملاعب كرة القدم، لكن الاكتظاظ هناك وانعدام الخيارات أمامها أجبرها وعائلتها على اختيار هذا المكان الآيل للسقوط، وتقول “آخر ما كنت أتوقعه في حياتي أن يجبرني أحدهم على ترك بيتي الواسع والعيش في محطة وقود تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة”.
ليلها وأطفالها أقسى من النهار، فظلام المحطة يجذب عشرات الكلاب الضالة التي تتجمهر حول الغرفة، تنبح بلا توقف، بينما يرتجف الأطفال من الخوف والبرد رغم محاولاتها سد مدخل الغرفة بحصيرة بالية، لكن الأصوات المزعجة تظل تنخر أمانهم المفقود، وتجعل النوم حلما بعيد المنال.
استغرق تنظيف المكان أكثر من أسبوع في محاولة لجعله صالحا للسكن، وتضيف أم ربيع “لا توجد مياه كافية ولا كهرباء، ولا حتى ملابس شتوية تقي أطفالنا البرد، طلبت المساعدة، لكنهم أخبروني أنني غير مسجلة ضمن نازحي الخيام”.
وبعدما كانت تسكن بيتا رحبا وجميلا في جباليا تجد نفسها اليوم في مكان لا يصلح لعيش الآدميين، كما تقول. ورغم أنها تحمل قلبا مثقلا بفقدان ابنها البكر فإنها ما تزال تتشبث بأمل عودتها إلى جباليا رغم الصور التي كشفت عن دمار منزلها. وتؤكد “ربما لن أجد البيت لكنني سأجد الأرض التي احتضنت ذكرياتي، سأجد شيئا أتشبث به حتى لو كان حجرا واحدا”.
وجع واختبار
وفي مربع مجمع مستشفى الشفاء الطبي الذي لطخته بصمات الحرب وآثار التدمير، تقبع عائلة أم ديب التي نزحت قبل شهر فقط، ولكنها عاشت خلاله عمرا من الوجع والاختبار، حين وصلت السيدة وأطفالها إلى المنطقة ليلا وكانت المدارس مكتظة بالنازحين، والخيام القماشية المنصوبة لم تكن أكثر من استعراض هش أمام قسوة الريح والمطر، ليجدوا أنفسهم في مدخل عمارة سكنية منهارة فنظفوا ما استطاعوا منها ليصير مأوى مؤقتا.
مع كل يوم يمر، تتعقد الحياة أكثر للحصول على ماء الشرب، تنتظر الأسرة بصبر مرور سيارات توزيع المياه في الشوارع، أما الطعام فتُعد أم ديب أبناءها لمهمتهم اليومية، التوجه إلى التكايا حيث توزَّع وجبات بسيطة. وتقول “نأكل العدس أو المعكرونة أو الأرز كل يوم، الصغار يرفضون أحيانا، لكن لا خيار لنا”.
حتى النوم بين الركام وتحت سقف آيل للسقوط أصبح امتيازا نادرا، ففي بداية نزوحهم حصلوا على سجادة قديمة استخرجوها من تحت الأنقاض. وتقول أم ديب “نمت وأطفالي عليها مدة أسبوعين دون أغطية أو وسائد ثم استلفنا بعضها من أهل الخير”.
وتضيف حاملة طفلتها الصغيرة البالغة من العمر عامين طوال الوقت خوفا عليها من الركام المحيط “هناك أسياخ حديدية وزجاج مكسور في كل زاوية لا أستطيع المخاطرة، عندما يحل الليل، أظل مستيقظة، أخشى دخول القوارض أو الكلاب الضالة على أطفالي. وعندما تشرق الشمس، أسمح لنفسي بالنوم”.