تابع الكاتب طارق حجاج في تقرير له بموقع “موندويس” الأميركي رحلة عائلتين فلسطينيتين خلال هروبهما من مدينة رفح بسبب القصف والحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، وهما عائلتا جميلة عليوة ونعيمة الرك.
جمعت جميلة عليوة (66 عاما) ما تبقى لها من متعلقات صغيرة لنفسها وحفيدتيها الباقيتين على قيد الحياة ووضعتها في حقائب عدة، وقررت العودة إلى مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة بعد أن سمعت أن هناك غزوا إسرائيليا وشيكا لرفح، وغادرت ملجأها الحالي لتجنب المذبحة التي كانت تعلم أنها ستتبعها.
فقدت جميلة 90 فردا من أفراد أسرتها منذ بداية الحرب، وجميعهم أقارب من الدرجتين الأولى والثانية، وقد توفي معظمهم عندما استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية منازلهم في النصيرات وقرية زويدة قبل وقت طويل من نزوح سكان هذه المناطق إلى رفح في أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي.
همها الأكبر هو حفيدتاها الصغيرتان
نزحت جميلة مثل كثيرين آخرين من مكان إلى آخر، وشمل نزوحها العديد من المحطات، وفي طريق النزوح كانت هناك أماكن غير صالحة للسكن، مثل وحدات التخزين والمتاجر، مع تحمل الجوع والعطش وعدم الحصول على الرعاية الطبية.
لكن همها الأكبر طوال الوقت كان حفيدتيها الصغيرتين يارا ولارا اللتين فقدتا أمهما وشقيقتهما الرضيعة بعد استهداف منزلهما في النصيرات، وعندما طلبت جدتهما منهما الاستعداد للخروج من رفح ظنت الفتاتان أن الحرب قد انتهت غافلتين عن انتقالهما من جحيم إلى آخر.
عندما انتهت جميلة من حزم الأمتعة حاولت استدعاء سيارة لنقلهن إلى النصيرات، وبعد محاولات عديدة تمكنت من الحصول على رقم سائق شاحنة بسبب كثرة أمتعتها وحاجياتها، فعندما فررن من النصيرات لأول مرة حملن معهن الألواح الشمسية والبطاريات والملابس والأفرشة والوسائد لاعتقادهن أنهن سيقضين فترة طويلة في رفح.
اتفقت جميلة مع سائق الشاحنة على أن يقلهن في اليوم التالي إلى النصيرات، وطلب 500 دولار للرحلة، علما بأنها كانت تكلف قبل الحرب 70 دولارا فقط.
واحدة من أفظع الليالي
كانت الليلة التي سبقت المغادرة صعبة بالنسبة لجميلة، إذ استهدفت القوات الإسرائيلية العديد من المنازل في رفح وقتلت 150 فلسطينيا، مما جعلها واحدة من أفظع الليالي بالنسبة للفتيات منذ بداية الحرب.
شهدت الأسابيع القليلة الماضية التصريحات الإسرائيلية المتواصلة التي تتوعد بغزو رفح قريبا، مما أدى إلى ترويع السكان المدنيين هناك، وبدأ الآلاف بالفرار عائدين إلى الشمال، متجهين نحو المدن ومخيمات اللاجئين وسط القطاع.
تم تصوير حملة التهجير القسري من الشمال للجنوب ليراها الجميع، وتكررت مرارا طوال فترة الحرب، لكن الفارق خلال هذه الحملة الأخيرة هو أنه لا يوجد مكان للفرار إليه، إذ تمت تسوية مساحات واسعة من وسط القطاع بالأرض وتحويلها إلى ساحات مفتوحة لعمليات الجيش الإسرائيلي.
قالت جميلة “لقد أمضينا ليلة مرعبة في رفح قبل أن نقرر العودة إلى وسط غزة، كانت حفيدتاي تصرخان عندما سقطت القنابل بالقرب منا، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي قضتا يوما كاملا محصورتين تحت الأنقاض عندما قُتلت أختهما وأمهما بينما كانوا جميعا نائمين”.
وتابعت جميلة “عندما سمعتا نفس الصوت المألوف الذي سمعتاه يوم مقتل والدتهما لم يعد أحد منا قادرا على تحمله، لقد ظلتا تبكيان قائلتين: هذه المرة سنموت مثل ماما وشقيقتنا جودي”.
لم يتمكنوا من انتشال جودي من حضن أمها
ماتت وعد أبو شوق والدة لارا ويارا وجودي إلى جانب جودي في الغارة الجوية، وعندما تم انتشال جثتيهما لم يتمكنوا من انتشال جودي من حضن وعد، فلفّوهما في نفس الكفن ودفنوهما معا.
قالت جميلة إن قرار العودة إلى وسط غزة جاء بالدرجة الأولى لضرورة تهدئة لارا ويارا اللتين أصابهما الرعب من تذكّر اليوم الذي أخذ منهما والدتهما، لكن هذا لا يجعل مخيمات اللاجئين في وسط غزة أكثر أمانا، لأن تهديدات الجيش بالغزو شملت أيضا تلك المناطق.
وأضافت جميلة “كان الطريق الساحلي من رفح إلى النصيرات مرعبا على الرغم من أن الآلاف كانوا يسيرون عليه، مشينا تحت أنظار السفن الحربية الإسرائيلية التي لم تكن بعيدة، وكانت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية فوقنا”.
وتابعت “مررنا بخان يونس في طريقنا إلى هناك، وكنا نسمع صوت الرصاص وقذائف المدفعية، ظننا أننا لن نتمكن من الوصول إلى الجانب الآخر”.
لم يبق أي منزل
شبهت جميلة لحظة دخولها حيها في النصيرات بالدخول إلى مدينة أشباح حيث “لم يتم قصف الكتل السكنية فحسب، بل تم تجريفها وإزالتها، لقد تحول الحي الذي كنت أعيش فيه إلى حقل فارغ لم تبق منه سوى الرمال، لم يبق أي منزل من منازل الجيران أو منازل عائلاتنا”.
واستمرت تقول “وبقدر ما تستطيع العين رؤيته كانت هناك مبان مدمرة، كان بعضها لا يزال قائما، ولم يتم استهداف سوى عدد قليل من الطوابق، وبعضها انهار بالكامل، والبعض الآخر تم تدميره جزئيا، كانت مثل مدينة أشباح، وفي الليل شعرت أنه لا توجد علامات على وجود حياة بشرية”.
وشددت جميلة على أنه “لا يوجد سوبر ماركت ولا مخابز، ولا يوجد ما يشير إلى إمكانية وجود أي شخص في هذا المكان”.
بعد وصولهن إلى النصيرات توجهن إلى منزل أخت جميلة الذي نجا من القصف، ومع ذلك كان الحصول على الغذاء والماء أسوأ بكثير مما كان عليه في رفح، حيث كانت الضروريات الأساسية متاحة إلى حد ما.
يقضي معظم أيامه بحثا عن الماء
وقالت جميلة إن ابنها كان يقضي معظم أيامه يتجول في المنطقة ومعه غالون فارغ بحثا عن الماء لعائلته المكونة من 13 شخصا، ومع ذلك رأت جميلة أن النضال اليومي لتأمين الاحتياجات أفضل من انتظار الموت في رفح وسماع الرعب في أصوات حفيدتيها.
تعتقد جميلة أن حفيدتيها بحاجة إلى علاج نفسي، لكنهما بدلا من التوقف للعلاج ظلتا تنزحان وسط هذه الظروف الصعبة.
وقالت جميلة “في النهاية، هربنا من الموت لنسير نحو نوع مختلف من الموت، أنا لا أستطيع تحمل الحياة بدونهما”.
عائلة نعيمة الرك
واستعرض الكاتب قصة نعيمة الرك (55 عاما) -وهي نازحة أخرى تعيش في خيمة بالمواصي غرب مدينة رفح القريبة من الساحل- التي التقطت أمتعتها مع عائلتها وتوجهت إلى النصيرات بعد أن سمعت عن العملية الوشيكة.
قالت نعيمة إنها أرادت الهروب من أي مكان يوجد فيه الجيش على مقربة منها بعد أن سمعت قصصا لا حصر لها عن جنود يعدمون شبانا بدم بارد أمام عائلاتهم.
قال له الجندي: أريد قتل ابنك دون أي سبب
وأضافت نعيمة “لقد رأيت بأم عيني عبر وسائل التواصل الاجتماعي أبا يتحدث إلى أحد الصحفيين عن جندي قال له: أريد أن أقتل ابنك دون أي سبب، كان يبكي ويقول: إنهم قتلوا ابنه بدم بارد”.
وأوضح الكاتب أن نعيمة أم لـ5 شبان تتراوح أعمارهم بين 17 و25 عاما، وهي تتساءل “لمن سأعيش إذا رحلوا؟ لا أستطيع أن أتحمل الحياة بدونهم”.
بعد وصولهم إلى النصيرات ونصب خيمة جديدة تلقوا تحذيرا من الجيش الإسرائيلي لإخلاء المنطقة.
وقالت نعيمة “صدرت أوامر بإخلاء مجمع سكني كامل يضم أكثر من 50 منزلا، وبعد ذلك استمروا في قصف المنطقة طوال الليل حتى اليوم التالي”.
سئمت من الحياة
وأوضحت نعيمة أن هذا النمط أصبح مألوفا في مخيم النصيرات للاجئين، حيث يأمر الجيش ببناء مجمع سكني لـ”تطهير” المنطقة، ثم يقصف المنطقة حتى تسويتها بالكامل بالأرض، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المبنى السكني التالي ويفعل الشيء نفسه مرة أخرى.
وأضافت نعيمة “إنهم يريدون تدمير المخيم بأكمله”، وتنهدت قائلة “لقد سئمت من هذه الحياة ومن محاولة الهروب من الموت عند كل منعطف، طوال حياتي عشت في حروب متواصلة، حرب تلو الأخرى، لكنني لم أواجه شيئا كهذا في حياتي كلها”.