غزة- في تسجيلات صوتية من داخل المستشفى الأوروبي في خان يونس، يروي طبيب فرنسي ـلم يرغب بالإفصاح عن اسمه لدواعٍ أمنيةـ تفاصيل الوضع الطبي والإنساني في غزة، الخاضعة دون توقف لقصف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
في كل صباح، يستوقفه مشهد الطائرات دون طيار المنتشرة في السماء، وصياح الديكة في الفجر، واستعداد زملائه للصلاة، قبل أن تستأنف صواريخ دبابات الاحتلال استهدافها للإنسان والحجر.
وأرسل الطبيب الفرنسي شهاداته المسجلة ومجموعة من الصور ومقاطع الفيديو، للجزيرة نت، رغبة منه في أن يشاهد العالم ما يحدث على أرض الواقع دون تزييف أو مبالغة في الحقائق. مطالبا العالم في الوقت ذاته بالتحرك، ورفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف إطلاق النار.
عبوات مياه والناس جوعى
في التاسع من فبراير/شباط الحالي، سجّل الطبيب الفرنسي تجربته في الليلة الماضية قائلا “هطلت أمطار غزيرة يوم الخميس 8 فبراير/شباط، وأغرقت الخيام الموجودة أسفل المستشفى الأوروبي بالمياه، حيث يعيش 25 ألف شخص. يمكنني سماع بكاء الأطفال والطلقات النارية ليست بعيدة جدا، ربما بضع مئات من الأمتار”.
ويضيف “شاهدتُ شاحنات مساعدات كثيرة، لكن أحد الموظفين بالمستشفى أخبرني أن 80% من هذه المساعدات التي وصلت كانت عبارة عن عبوات مياه فقط، ولا يُسمح بإدخال سوى القليل من الطعام بينما تتضور الناس جوعا”.
10 فبراير.. أطفال تحت القصف
الساعة تشير إلى 7:15 صباحا. يمكنني رؤية الشمس من وراء الضباب وسماع الطيور تغرد من فناء مدرسة التمريض المجاورة، لكن الليلة كانت صعبة جدا، ولا يزال مستشفى ناصر (مجمع ناصر الطبي بخان يونس)، ومدينة رفح المستهدفين الرئيسين بالقصف.
لم تصل المساعدات ولا نعرف حقا ما يحدث في شمال غزة ووسطها. وفي الجنوب، لم تُدفع الرواتب لمعظم الأطقم الطبية منذ 5 أشهر. أخبرني مدير التمريض هنا أنه حصل على 100 دولار شهريا بعد أن كان راتبه يصل إلى 1200 دولار.
واستقبلنا أمس ما لا يقل عن 4 أشخاص في غرفة العمليات أُصيبوا في البطن والرأس. وفي العناية المركزة، تعاني فتاة (تبلغ من العمر 7 سنوات) من حروق شديدة، وطفل آخر يعاني من نزيف في الجمجمة نتيجة إصابة في الرأس.
11 فبراير.. خيام مهترئة
الساعة العاشرة ليلا، أشاهد أشجار النخيل والأطفال يلعبون وغسيلا منشورا في الحديقة. تبدو الحياة هادئة عندما تنظر إليها من فوق وكأنها ساحة قرية صغيرة، لكن سرعان ما ستقع عيناك على خيام النازحين المهترئة.
أرفع رأسي فيُخيل لي أنني أرى النجوم، لكنها طائرات دون طيار تحوم في كل مكان، وقد تكون بعدد النجوم في السماء. وعلى بعد 400 متر تقريبا على يميني، تهدم دبابة إسرائيلية كل شيء أمامها، فقد كانت وتيرة القصف شديدة اليوم، ودمرت منازل على بعد حوالي كيلومتر واحد.
يصبح من الصعب مشاهدة كل هؤلاء الأطفال الرائعين الذين يلعبون ويرسمون في هذه الظروف. ويوم أمس، أعرت ورقة وقلم رصاص لفتاة صغيرة فرسمت علم فلسطين، ومنزلا تملؤه أشعة الشمس والأمل.
“إنه شعب جميل للغاية، ومن الصعب تخيل أن دولنا، ومنها فرنسا التي لديها أكثر من 5 آلاف جندي وأميركا وألمانيا، تدعم هذه الطائرات المقاتلة، وهذا الانجراف الفاشي لإبادة شعب يدافع عن الحرية والسلام”.
يضيف الطبيب “لقد شاهدتُ مدنيين مدمرين وممزقين ويموتون. واليوم، توفي 5 أشخاص في العناية المركزة، لكن الحياة تستمر وأصبحنا نسمع القصف والصواريخ وكأنها ألعاب نارية”.
13 فبراير.. القيم المرمية من النافذة
يكتب الطبيب “الساعة الآن 4:30 فجرا، وزميلي يجهّز نفسه للصلاة. وبعد مرور 5 ساعات من الهدوء في الليل، استأنفت الطائرات دون طيار القصف في شرق المستشفى وغربه”.
و”اليوم، استقبلنا أعضاء من فريق “بالمد” الموجود حاليا في رفح، من بينهم طبيب أعصاب وطبيب أورام. وقد أخبرني أحدهم ـ من أصول فلسطينيةـ أنه درس الطب في ألمانيا حيث تعلم حقوق الإنسان، لكنه لم يخطر بباله أن الدول الغربية سترمي قيمها من النافذة لإرضاء إسرائيل”.
“ووصف لي زميل آخر ما لاحظه خلال عمله في المراكز الصحية بمدينة رفح التي يهدد الجيش الإسرائيلي باجتياحها، متنبئا بوقوع كارثة حقيقية إذا تم ذلك. وحول ما يتعلق بالنازحين، قال إنهم يعيشون في خيام وغرف بلاستيكية لا تستطيع حتى الحيوانات البقاء داخلها”.
14 فبراير.. قصة الطبيب عادل
“سأنام هذه الليلة برفقة الطبيب عادل وزملاء آخرين في غرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها 3 أمتار مربعة. في هذه الأثناء، حكى لي عادل، الذي كان يعمل أخصائيا للأمراض الباطنية المعدية في مستشفى الشفاء، عن رحلته الطويلة والمعقدة من رفح إلى خان يونس حيث ذهب لجلب 75 كيلوغراما من الطحين في ظروف تنقّل صعبة وخطيرة. ودفع 6 دولارات ـ وهو مبلغ كبير للأشخاص الذين لا يملكون أي دخل منذ أشهر عدة”.
و”أثناء محاولته استجماع قوته وتناول القليل من الخبز، أشار الطبيب الفلسطيني إلى وجود عائلات بأكملها دون كهرباء أو خشب على بُعد مئات من الأمتار من المستشفى. فقد أصبح العثور على الخشب مهمة صعبة وباهظة الثمن؛ إذ يصل سعر الكيلو الواحد منه إلى دولار واحد. كما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، حتى إن البيضة الواحدة تباع بدولار وكيلو السكر يصل إلى 40 شيكل، أي أكثر من 10 دولارات”.
ويتذكر عادل تفاصيل رحلته بالقول “لا ننام جيدا ونسمع القنابل المتفجرة كل ليلة. لا يوجد ما يكفي من الأدوية ومسألة انتشار العدوى وتعفن الجراح باتت أمرا محتوما”، كما روى للطبيب الفرنسي.
وفي ختام حديثنا، يقول الطبيب الفرنسي، “سألت عادل عن معنى كلمة “الحمد لله” ولماذا يقولها دائما، فأجابني قائلا “أشكر الله لأنني ما زلت أتمتع بالصحة والبصر والقدرة على مساعدة أبناء بلدي وأفراد عائلتي، وهذه نعمة لا تقدر بثمن”.
15 فبراير.. رحلة رفح السرية
في هذا اليوم، يقول الطبيب الفرنسي “كان الوضع معقدا جدا في مستشفى ناصر الذي تعرض للقصف اليوم، ولا تزال الفرق الطبية عالقة داخله. وهذا الصباح، ركبت سيارة إسعاف مع صديقي طبيب النساء والتوليد زهير، باتجاه رفح بسرية تامة بعد ترك الهواتف المحمولة”.
يقول “وكأنه عالم آخر بأجواء مختلفة”، ويضيف “رأيت بعض الأكشاك والمواد الغذائية حيث يقوم الناس بإعادة بيع التبرعات المقدمة من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي لا يستهلكونها، من أجل البقاء على قيد الحياة. لكن ما أدهشني بالفعل هو غياب الابتسامة، فقد كانت نظرات المارين حزينة والأطفال متّسخين ويركضون بأقدام عارية رغم الطقس البارد”.
و”عند وصولي إلى مستشفى رفح، التقيت بالأطقم الطبية والرئيس السابق لوحدة العناية المركزة في مستشفى الشفاء، الذي يعمل على تطوير العديد من البرامج؛ مثل: الوقاية من العدوى. وقد أعجبت بثقافة هذا الرجل وذكائه وسرعته في خدمة المرضى رغم فقدانه لزوجته وعدد من أطفاله خلال الحرب”.
“كما أذهلني التنظيم الجيد لهذا المستشفى الصغير الذي يجري 10 إلى 16 عملية ولادة قيصرية يوميا، وربما تضاعفت هذه العمليات 3 أو 4 مرات الآن”.
و”هناك رأيت إلى أي مدى الأطباء في حالة تعب وإعياء، وأعينهم مجهدة لقلة النوم؛ بسبب القلق والقصف والحالات المستعجلة التي قد تأتيهم في أي لحظة. لكنهم رغم كل الظروف، يرتدون ملابس نظيفة، ويؤدون واجبهم على أكمل وجه”.
و”قبل دخولنا إحدى المدارس، توقفنا على جانب الطريق لنجد أن تكلفة الخيمة الواحدة وصلت إلى 800 دولار. أما المدرسة فكانت عبارة عن فناء مساحته 100 متر مربع تحيطه 4 مبانٍ تسكنها آلاف العائلات وأطفالها، الذين اقترب بعضهم مني وأمسكوا بيدي بابتسامات لا تُنسى”.
وفي رحلة العودة، كتب الطبيب “تذكرت الشعارات التي كنا نرددها كل يوم أمام البرلمان الأوروبي “أطفال غزة، أطفال فلسطين، إنها الإنسانية التي تُقتل”.