القاهرة– في خطوة أثارت غضبا واستياء واسعيْن، قرر “جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة” في مصر إلغاء عقود حق الانتفاع لعدد من الجهات والمؤسسات الحكومية التي تعتبر جزءا من نسيج القاهرة القضائي والثقافي والتعليمي على ضفاف النيل.
ويمهد هذا القرار المفاجئ -الذي استند إلى تعليمات رئاسية- إلى إخلاء مقار قضائية وثقافية وتعليمية وترفيهية امتزجت بتاريخ المدينة العريقة على طول شريط نهري يمتد لأكثر من 30 كيلومترا من شمال إلى جنوب العاصمة.
وتلقت تلك المؤسسات والهيئات، في الآونة الأخيرة، خطابات من جهاز مشروعات القوات المسلحة بإلغاء وعدم تجديد عقود حق الانتفاع بجميع أراضي طرح نهر النيل من شبرا إلى حلوان، وإخلاء ما عليها من منشآت فورا.
واعتبرت المؤسسات المتضررة، ومنها نادي قضاة مجلس الدولة ونادي مستشاري النيابة الإدارية، وكلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، ونادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وحديقة أم كلثوم، والمسرح العائم التابع لوزارة الثقافة، أن القرار يمثل ضربة قاسية لتاريخ طويل يمتد لعقود.
وحتى الآن، لم تستجب تلك المؤسسات والهيئات إلى خطابات تسليم الأراضي بما عليها من مبان ومنشآت عديدة إلى اللجنة المشتركة التي تضم جهاز المشروعات وإدارة حماية النيل بوزارة الري، مناشدين رئيس الجمهورية بالتدخل لوقف القرار.
ولم تعلق الحكومة حتى الآن، ولكنها أشارت في بيان صادر عن مجلس الوزراء، الثلاثاء الماضي، إلى عقد اجتماع برئاسة وزير الموارد المائية والري، وبحضور وزير السياحة والآثار، ومدير عام جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة لمتابعة إجراءات التعامل مع أراضي طرح النهر في القطاع من شبرا حتى حلوان بالقاهرة الكبرى.
وتطرق الاجتماع، بحسب البيان، إلى مراعاة كافة المعايير الفنية للحفاظ على القطاع المائي للنهر وحماية جسوره، والحفاظ على الاستثمارات القائمة بما يراعي الاشتراطات والقوانين المتبعة. واستعرض موقف المنظومة الإلكترونية لحوكمة التعامل على أراضي طرح النهر، وأكد الإسراع في دراسة طلبات التراخيص حفاظا على الاستثمارات القائمة والمستقبلية، واستمرار أعمال إزالة التعديات على مجرى نهر النيل وفرعية.
النقل للقوات المسلحة
آلت إدارة أراضي طرح نهر النيل بالقاهرة الكبرى إلى جهاز مشروعات القوات المسلحة منذ صدور قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2637 لسنة 2020، وتوقيع بروتوكول مع وزارة الري لإدارة تلك الأراضي والانتفاع بالمسطحات المائية شرق وغرب النيل من شبرا إلى حلوان.
ومنذ ذلك التاريخ، طرح جهاز مشروعات القوات المسلحة عددا من تلك الأراضي في مزادات للاستثمارات السياحية والتجارية.
وفي عام 2022، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارا بالموافقة على تخصيص 36 جزيرة نيلية، بالإضافة إلى جزيرة بحرية واحدة على ساحل البحر المتوسط لصالح الجيش.
وبحسب الموقع الإلكتروني لجهاز أراضي القوات المسلحة، فإن من بين مهامها تأسيس الشركات بكافة صورها سواء كان منفردا أو بمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي، واستغلال أراضي القوات المسلحة بالبيع أو الإيجار بعد التصديق، وإدارة أراضي طرح النهر والعائمات في القطاع من شبرا حتى حلوان.
الرفض يتسع
بمرور الوقت اتسعت دائرة الرفض لتنفيذ ما جاء في خطابات الإلغاء والإخلاء والتسليم، وقال مستشار برئاسة النيابة الإدارية إن “هناك رفضا واسعا لقرار إخلاء وتسليم مقار النيابة على نهر النيل”.
وأضاف المستشار، الذي فضل عدم ذكر اسمه، في تصريحات للجزيرة نت، أن القرار مفاجئ، ويثير غضب أعضاء الهيئة القضائية، ويثير علامات استفهام بشأن أسباب طلب تسليم المباني للقوات المسلحة وحرمان آلاف الأعضاء من مقر النادي وما يقدمه من خدمات وما يتميز به من إطلالة خاصة على نهر النيل.
وأشار إلى أن نادي مستشاري النيابة الإدارية يقع بالقرب من كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان ونادي قضاة مجلس الدولة، وأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وحديقة أم كلثوم والمسرح العائم، وجميعهم يمثلون منطقة فريدة من نوعها.
وبشأن الإجراءات المتوقع أن تتخذها هيئة النيابة الإدارية أو رئاسة نادي الهيئة، أوضح أن كل الطرق القانونية مفتوحة أمام الطعن في القرار، خاصة أن جميع المنشآت هي ملك الهيئة، إلى جانب محاولة الوصول إلى حلول توافقية، مؤكدا أن تنفيذ أو رفض القرار ليس سهلا.
نزاع طويل
وتُعد الكثير من هذه الأماكن المقار الوحيدة لغالبية تلك الهيئات وأهمها للأعضاء والمنتسبين إليها سواء على المستوى الاجتماعي أو التعليمي أو الترفيهي، بحسب تصريحات نائب رئيس مجلس الدولة للجزيرة نت.
وأضاف المستشار، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن رفض رئيس نادي قضاة المجلس تسليم مقر النادي إلى اللجنة المشتركة، هو الخطوة الأولى في نزاع طويل، ولكنه في نهاية المطاف لا يملك إلا الإذعان، لأن الأرض هي “حق انتفاع وليست ملكية”.
وتوقع أن يتم إرجاء الإخلاء وليس الإلغاء، مؤكدا أن أي استثناء للهيئات القضائية سيفتح الباب أمام طلبات مماثلة، ويعرقل جهود جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة في استلام جميع الأراضي.
وعلى المستوى البرلماني، قالت عضو مجلس الشعب مها عبد الناصر إنها “تقدمت بطلب إحاطة موجه لرئيس مجلس الوزراء، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، ووزير الثقافة، وذلك بشأن إلغاء وعدم تجديد عقود حق الانتفاع لكافة أراضي النهر الممتدة من شبرا حتى منطقة حلوان وما عليها من منشآت، وبانتظار رد الحكومة”.
وأوضحت -في تصريحات للجزيرة نت- أن المسألة ليست مسألة قانون فقط، بل إن هناك أبعادا تاريخية واجتماعية وثقافية ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند التعاطي مع هيئات ومؤسسات لها اسمها وتاريخها، مشيرة إلى أن “نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة على سبيل المثال هو المتنفس الوحيد لواحدة من أقدم وأعرق جامعات الوطن العربي”.
وقالت مها عبد الناصر إنها تريد من الحكومة أن تتعامل مع المسألة بقدر كبير من الشفافية، وأن تجيب عن تساؤلات المعنيين بالأمر بشأن مصير المنشآت التعليمية والقضائية والثقافية، وأسباب عدم تجديد عقود حق الانتفاع.
ومن الناحية الاقتصادية، أعرب الباحث في الاقتصاد السياسي ودراسات الجدوى والدراسات التنموية، مصطفى يوسف، عن اعتقاده أن “الهدف الأساسي من تلك الخطوة هو استثمار تلك المناطق لما تتمتع به من موقع إستراتيجي على ضفتي النيل، والاستفادة منها بطرحها على المستثمرين المحليين أو الأجانب”.
وأكد في حديثه، للجزيرة نت، أن الأهداف الاستثمارية للحكومة المصرية في الوقت الراهن في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة تطغى على أي اعتبارات اجتماعية أو تنموية أخرى، حيث تسعى الحكومة لتعزيز مواردها من النقد الأجنبي بأي طريقة ممكنة، ولو كان ذلك عبر بيع أو تأجير أصول سيادية أو مشروعات حيوية.