الرباط– بعد سنوات من العلاقات الفاترة، وتأجيل متكرر، يبدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الاثنين، زيارة دولة إلى المغرب تستمر حتى يوم الأربعاء، في مؤشر على فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين كما يرى محللون.
وتأتي هذه الزيارة بعد إعلان باريس في يوليو/تموز الماضي اعترافها بالحكم الذاتي لمنطقة الصحراء كأساس وحيد لحل سياسي، وذلك في رسالة رسمية وجهها الرئيس الفرنسي للملك محمد السادس.
وينظر مراقبون إلى هذه الزيارة باعتبارها منعطفا تاريخيا في العلاقات بين البلدين، بعد حوالي عقد من البرود والتوتر الذي طبع العلاقات في محطات عدة.
برنامج متنوع
وكانت آخر زيارة دولة قام بها رئيس فرنسي إلى المغرب عام 2013 في عهد فرنسوا هولاند. وقام الرئيس ماكرون بزيارة الرباط مرتين، الأولى عند انتخابه رئيسا، والثانية عند تدشين القطار فائق السرعة “البراق” عام 2018.
ويرافق الرئيس الفرنسي وزوجته بريجيت ماكرون وفد رسمي كبير يتجاوز 100 شخصية، يضم أعضاء في حكومته، منهم وزير الدفاع والداخلية والاقتصاد والزراعة والتعليم والثقافة إلى جانب برلمانيين ومنتخبين ووزراء سابقين ورجال أعمال ومثقفين وأكاديميين وفنانين ورياضيين وصحفيين وفاعلين مدنيين وسياسيين.
ويلتقي الرئيس الفرنسي في اليوم الأول من زيارته الملك محمد السادس، حيث سيجريان مباحثات ثنائية، يتلو ذلك الإشراف على توقيع اتفاقيات ثنائية بين البلدين في مجالات الأمن والطاقة والمياه والتعليم.
ويتضمن برنامج الزيارة لقاءات مع رئيس الحكومة ورئيسي مجلس النواب والمستشارين ومثقفين وطلبة مغاربة. كما سيلقي ماكرون الثلاثاء خطابا في البرلمان المغربي.
فشل لعبة شد الحبل
وتأتي زيارة ماكرون للرباط بعد تشنج شاب العلاقات الفرنسية المغربية ازدادت حدته في السنوات الثلاث الأخيرة، مع توجيه السلطات الفرنسية اتهامات للمغرب بالتجسس على الرئيس الفرنسي ووزرائه، وتخفيض التأشيرات الممنوحة للمغاربة، وإنهاء المغرب مهام سفيره في باريس دون تعيين خلف له، ثم رفض المغرب تلقي مساعدات من عدد من الدول في زلزال الحوز ومن بينها فرنسا.
ويرى محمد العمراني بوخبزة، المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة، أن فرنسا كانت تتعامل مع المغرب قبل الأزمة بين البلدين تعاملا لا يرقى إلى مستوى تطلعات المغاربة، “إذ لم تكن العلاقة متكافئة، بل كانت فرنسا تحاول ما أمكن أن تستفيد دون أن تفيد، وأن تظل دائما في المنطقة الرمادية”، وفق تعبيره.
ويشير أستاذ العلوم السياسية إلى أن تحولات كثيرة حدثت على المستوى الجيوإستراتيجي في العقود الأخيرة، حيث لم تعد فرنسا قادرة على مسايرة التحولات الكبرى التي عرفتها القارة الأفريقية، وفقدت القدرة على الاستمرار في لعب دور مؤثر في مستعمراتها السابقة.
وأوضح أن المغرب استفاد من هذه التحولات، إذ تَموقع بشكل جيد، وأصبحت له الريادة على المستوى الأفريقي، وحظي بالثقة والمصداقية لدى شركاء كثر في القارة الأفريقية حتى أصبح يزاحم باريس في مناطق نفوذها.
وأضاف المتحدث ذاته أن هذا الوضع أثار انزعاج الكثيرين في فرنسا، ودفع هذه الأخيرة إلى شن حملة غير موضوعية ضد المغرب من خلال اتهامه بالتجسس وخلق عراقيل في البرلمان الأوربي وتشديد منح التأشيرات للمغاربة.
بيد أن فرنسا اتضح لها بعد عقد من لعبة شد الحبل مع المغرب أن استمرارها في هذا الأسلوب سيجعلها تخسر أكثر، خاصة مع تشبث المغرب بمطالبه المشروعة في إقامة شراكة قائمة على أساس منطق رابح-رابح وليس على شراكة غير متوازنة وغير عادلة، كما يشرح العمراني للجزيرة نت.
ولفت الأكاديمي المغربي إلى أن الرباط ترغب في دخول مرحلة جديدة في علاقتها مع باريس وهو ما ذهبت إليه فرنسا في النهاية، فكان الإعلان عن الموقف الجديد من قضية الصحراء.
وأكد أن باريس ستحاول تنزيل موقفها الجديد على أرض الواقع من خلال إجراءات ستكون محفزة لبناء هذه العلاقة الجديدة في ظل وجود قواسم مشتركة وإمكانات متكاملة للانطلاق نحو آفاق جديدة، خاصة أن فرنسا لا ترغب في خسارة شريك موثوق به ومستقر ويقدم الكثير لمصالح فرنسا.
الاقتصاد حاضر بقوة
بدوره، يضع الخبير الاقتصادي والمالي، زكرياء كارتي، لزيارة ماكرون للمغرب -والاستقبال الكبير والدافئ الذي من المتوقع أن يحظى به خلال 3 أيام من إقامته بالرباط- في إطار التغير الذي طبع الموقف الفرنسي من قضية الصحراء.
وقال كارتي للجزيرة نت إن القرار الفرنسي كان تاريخيا بالنظر لأهمية الدور الفرنسي في قضية الصحراء.
وأكد أن سياسة الند للند التي نهجها الملك محمد السادس منذ توليه العرش عام 1999 آتت أكلها، مشيرا إلى أن العاهل المغربي أكد دائما ضرورة بناء علاقة شراكة بين البلدين وليس علاقة أبوية ووصاية كما كانت ترغب فرنسا.
ويرى أن زيارة ماكرون مع وفد كبير يمثل مختلف الحساسيات والمجالات في فرنسا، تفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد تعثرها منذ 2014.
ويحضر الاقتصاد بقوة في زيارة الرئيس ماكرون إلى المغرب من خلال الوفد الذي يشاركه الرحلة، والذي يضم 44 من ممثلي ورؤساء شركات فرنسية كبرى ووزيري الاقتصاد والزراعة والانتقال الطاقي. وينتظر أن يتم التوقيع على اتفاقيات مهمة تفتح المجال للمستثمرين الفرنسيين للاستثمار في المغرب وخاصة في منطقة الصحراء.
ويرى كارتي أن الفرنسيين يزورون المغرب وعينهم على عدد من المشاريع بعضها في الأقاليم الجنوبية، مشيرا إلى مشروع خطوط الكهرباء عالية الجهد بين الداخلة والدار البيضاء، والذي سيمتد على طول 1400 كيلومتر بقدرة طاقية تصل إلى 3 آلاف ميغاوات، والذي ترغب شركة فرنسية في الحصول على حصة فيه.
وأضاف أن شركة الطيران “إيرباص”، ومقرها في تولوز الفرنسية، تسعى لتوقيع شراكة مع الخطوط الجوية الملكية المغربية التي تريد تعزيز أسطولها ليصل إلى 130 طائرة في غضون عام 2037.
وقال كارتي “هذه فرصة ممتازة لإيرباص لتعود إلى الخطوط الجوية الملكية، خاصة مع وجود خطة لبيع 50 طائرة إيرباص في السنوات المقبلة للمغرب”.
ولفت إلى مشاريع أخرى تفتح شهية المستثمرين الفرنسيين، خاصة تلك المتعلقة بالتحضيرات الجارية لتنظيم كأس العالم 2030، ومنها خط القطار فائق السرعة بين الدار البيضاء ومراكش ومشاريع البنية التحتية.
استثمارات فرنسية
وتصدرت فرنسا قائمة المستثمرين الأجانب بالمغرب عام 2023 بتدفق صاف قدره 6.8 مليارات درهم (ما يقارب مليار دولار) مقابل 3.8 مليارات درهم (حوالي 400 مليون دولار) في سنة 2022، أي بارتفاع بلغت نسبته 79.5%، وفق بيانات مكتب الصرف التابع لوزارة المالية، لعام 2023.
وحسب المصدر نفسه، فإن هذا التدفق يمثل حصة 61.4% من إجمالي صافي تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر.
بالمقابل، يعد المغرب أكبر مستثمر أفريقي في فرنسا، حيث بلغت الاستثمارات المغربية المباشرة في فرنسا سنة 2022 حوالي 6.1 مليارات درهم (حوالي 600 مليون دولار)، كما يعتبر المغرب المستفيد الأول من تمويلات الوكالة الفرنسية للتنمية.
ويمثل الفرنسيون المقيمون بالمغرب أكبر جالية أجنبية في المملكة بحوالي 54 ألف مواطن فرنسي.
وحافظت فرنسا على مكانتها باعتبارها المستثمر الأجنبي الأول في المغرب إلى غاية 2022 بحصة قدرها 30.8% ومبلغ مستحق قدره 204.1 مليار درهم (حوالي 20.7 مليار دولار).