في صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبينما كنت أوصل ابنتي إلى روضة الأطفال بالقرب من منزلي في المدينة التي أقيم فيها بالمملكة المتحدة، صادفتُ أحد أساتذة الجامعة الأوروبيين من المختصين بالشأن الفلسطيني وكان يوصل ابنه كذلك.
كان عبور المقاومين الفلسطينيين إلى مستوطنات غلاف غزة قد تم وملأ الدنيا وشغل الناس، وكان الغزيون قد اخترقوا الحاجز، ومع ذلك لم يكن الإسرائيليون قد استفاقوا من هول الصدمة، ولم يكونوا قد شرعوا في حرب الإبادة بعد.
كنت مفعمًا بالأمل، سألت الأستاذ إن كان قد شاهد الأخبار، إذ رأيت في الحدث فرصة لإقامة بعض العدل، وإحقاق بعض الحق، أجابني بهدوء حزين: “سيحرقون غزة عن بكرة أبيها”.. وافقته بأسى، لكنني استدركت بأن ما يحدث في غزة في تلك اللحظة سيكون من شأنه أن يغيّر وجه العالم. أعاد الأستاذ حديثه عن الرد الإسرائيلي وخوفه الصادق من وحشيته التي ستنصبّ على المدنيين، وحاولت أن أرغّبه في المستقبل الذي سيصنعه هذا الحدث من حراك قد ينهي إسرائيل كما نعرفها؛ دولة احتلال استيطاني ونظام فصل عنصري.. لكننا افترقنا من غير أن يأفل أملي، ولا أن يتبدد قلقه.
بعد ذلك بأيام، ولم يكن الاجتياح البري الإسرائيلي لغزة قد بدأ بعد، كنت في لقاء مع عدد من مستشاري السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، حينها قال أحد أمهر الصحفيين والباحثين المختصين في شؤون الشرق الأوسط، الذي عاش في بغداد والقاهرة وبيروت، ونشر كُتبا منها ما كان عن حزب الله.. قال إن إسرائيل ستقضي على حماس مثلما قُضي على تنظيم الدولة (داعش).. أخبرته، وأنا المختص في دراسة الحركات الإسلامية، أن هذا يخالف كل توقعاتنا طبقا لما نعرفه عن حركة المقاومة الإسلامية، وعن حاضنتها الشعبية، وعن طريقتها في الحشد والتعبئة، وحتى يتناقض مع ما نعرفه عن الشخصية الفلسطينية التي أسست المقاومة حتى قبل تأسيس إسرائيل.
لم أتوقع أن يفهمني صديقي الصحفي الأميركي، على مهارته ومعرفته بالمنطقة، كما لم يفهمني صديقي الأستاذ الجامعي في بريطانيا، لا لشيء إلا لأننا نتكلم بلغات مختلفة، وكان هذا ما أدركته قبل ذلك بوقت طويل.
أدركت أن العلم متحيز، ليس موضوعيا، وأن تحيزه لا يعيبه، فواضعوه بشرٌ لهم مصالح وشهوات، لكن يعيبنا ألا ندرك ذلك. وقد يصلح هذا العلم في بيئته بجدارة، لكن استيراده دون تبصر عميق من شأنه ألا يجعلنا نبصر أصلا، فالتصورات المادية لا ترى القيم المبنيّة على الروح والإيمان الغيبي إلا باعتبارهما سلوكا مَرضيا هستيريا، وهي ترى أن تَعلق المسلم بالجنة مثلا، أو حديثه عن الحور العين والنعيم المقيم للشهداء، ما هو إلا تعبير عن مكنونات النفوس المكبوتة، وولع بالجنس يستغله عشاق السلطة لتحريك الحشود، وهذا أبعد ما يكون عن المسلم، لكنه أقرب ما يمكن فهمه لعقل يؤمن إيمانا مطلقا بالعلم المادي وليس مستعدا للقبول بقصوره.
أدركت أيضا أنه رغم خضوع شعوب كثيرة للاستعمار العقلي، فإن هذه الأمة، وهذه المنطقة، ترفض الاستسلام، لا لكثير عُدة وعتاد، بل لشيء وقر في قلبها غير قابل لقياس العلم الذي يدّعي إحاطته بكل شيء. أدركتُ أيضا أن هذا القلب هو المجتمع، وروابطه العائلية والقبلية والثقافية والدينية، ومؤسساته الشعبية والجماعات غير النظامية، خاصة بعد استسلام الدولة التي صُنعت على عين الاستعمار نفسه الذي صنع إسرائيل.
كما أدركت أن هذا القلب قد صمّم مقاومته الشعبية، ليس في مواجهة نموذج الهيمنة العسكري فحسب، بل والعقلي كذلك. ومع اختلاف طرق التعبير، وفعاليات المقاومة، واستعداد كل مكوّن وفرد للتضحية، تظل هذه المقاومة هي ما وقر في قلب شعوب المنطقة، وصدّقه عملها. وإذا كان النظر إلى الكلفة البشرية الهائلة في فلسطين، وإلى غزة التي تباد بقوة عسكرية مخيفة؛ باعثا على الخوف، فإن ما يبعث على الرجاء ليس أنها تحارب عن الأرض، بل لأنها ترفض الاستسلام والتصالح مع النموذج الاستعماري الاستيطاني.
هل وحدها غزة تفعل ذلك؟ لا، فخلفها قوى في هذه الأمة تقاوم هذا النموذج ما استطاعت، وكلما اشتدت في مقاومته عاجلها الاستبداد بضربة، أو الاستعمار بطلقة، وما العام 2011 عنّا ببعيد. وحتى اللحظة، لم يفهم الاستعمار والاستبداد لماذا لم نستسلم، رغم أنهما يراقبان تعليمنا وإعلامنا ومناهجنا ونوادينا ومقاهينا ومساجدنا.. هل فشلت الاستخبارات الغربية أم فشلت النظرية الغربية في فهمنا؟ هذا هو السؤال الذي يشغل ذهني منذ صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
حوار في ليلة ممطرة
قبل أكثر من 10 سنوات، وفي أحد المساءات الممطرة من شتاء عام 2014 في قلب إسطنبول التاريخية، وبينما كان البروفيسور التركي الأميركي المرموق يشرح النظام السياسي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية أمام عدد محدود من طلاب الدراسات العليا في أقسام السياسة والعلاقات الدولية، تحدث عن أدوات التحليل الإستراتيجي التي تُستخدم في تفسير أو توقع تحركات الفاعلين السياسيين، وكان من ضمن ما ذكره من غير تفصيل؛ “نظرية الألعاب” (Game Theory)، وتُترجم أيضا إلى “نظرية المباريات”، التي قال إنها توفر قدرة معقولة لفهم دوافع الفاعلين وتوقع تحركاتهم في حالة تضارب المصالح، للوصول إلى أفضل النتائج الممكنة في ظل الظروف المعطاة والمعرفة المتوفرة لكل طرف عن الطرف الآخر.
كان الأستاذ، واسمه صبري صياري، قد تخرج في جامعة كولومبيا الأميركية في الستينيات، قبل أن يعمل محللا في وزارة الخارجية الأميركية ومع مراكز أبحاث مرتبطة بوزارة الدفاع (البنتاغون)، مثل مؤسسة راند، وكان مدافعا شرسا عن أدوات التحليل تلك، التي توفر قدرات هائلة لمعرفة المستقبل بقدر كبير من الدقة. ولنظرية الألعاب تاريخ جيد في هذا المضمار، فعلى الرغم من وضع أسسها بشكل غير نظامي على مدار القرون السابقة، فإنها تحولت إلى علم له اسمٌ وحدّ ورسمٌ في الأربعينيات، واستُخدمت بكفاءة عالية في الإستراتيجيات العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية، وما بعدها.
أما الأستاذ، فكان تاريخه في الولايات المتحدة وتركيا، وحتى تعليقاته شديدة النباهة لتفسير الوضع الاقتصادي والسياسي في تركيا، وعلاقتها بالشرق الأوسط، وتوقعاته للأزمات الاقتصادية المستقبلية فيها -والتي تحققت بدقة كبيرة في السنوات التالية- كل ذلك كان يؤهله لأن يتمتع بهذه الثقة. لذلك، وبرعونة لم تخفِها محاولتي لأبدو مثقفا، وكل معلوماتي حينها عن نظرية الألعاب لا تتعدى ما شاهدته في فيلم “عقل جميل” (A beautiful mind) عن حياة أحد رواد النظرية، سألته عن قصور هذه النظرية في تفسير دوافع الفاعلين التي لا تتماشى بشكل دقيق مع النموذج المادي العقلاني في حسابات المصالح والخسائر.
لم يُعر الأستاذ صياري سؤالي اهتماما كبيرا، وعاد ليؤكد على القدرة الجيدة للنماذج النظرية على تبسيط الظواهر المعقدة لمحاولة فهمها، وعندما حاولت أن أستكثر من النقاش حول هذه النقطة، نظر الأستاذ صياري إلينا وقال بسخرية ممزوجة بقدر من الفخر والأسى لم يحاول أن يخفيهما: “هذا ما جنيته بعد 20 عاما من العمل بجوار فرانسيس فوكوياما، أن أدخل في جدالات مع طلاب من عمر أحفادي في مساء السبت، بدلا من أن أقضي عطلة نهاية الأسبوع هانئا مع عائلتي”.. ضحكنا جميعا، وانتهت الليلة بسلام.
لكن بعد أشهر قليلة، عندما اختطف مستوطنون إسرائيليون الطفل محمد أبو خضير من أمام منزله في حي شعفاط بالقدس المحتلة، وحرقه حيًّا في بداية يوليو/تموز 2014، ومع رد الفعل الفلسطيني الغاضب، وكذلك خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار في غزة، والذي كان مستمرا قبل ذلك لنحو عامين، اندلعت حرب عام 2014. كانت الحرب مختلفة بعض الشيء هذه المرة، فقد وصلت صواريخ حركة حماس إلى تل أبيب وجنوب حيفا، وفُتحت الملاجئ لسكان قلب إسرائيل في المنطقة المعروفة باسم “غوش دان”.
لكن حادثة أخرى وقعت خلال تلك الحرب، أعادت إلى ذهني التفكير في نظرية الألعاب، ودفعتني للتساؤل عما إذا كانت النظرية تحمل القدرة على تفسير أو توقع تصرفات المقاومين الفلسطينيين بنفس الكفاءة التي تفعلها مع الفاعلين الذين يتبنون رؤية مادية للعالم. كان هذا يوم 8 يوليو/تموز، عندما اقتحم 5 مقاتلين من وحدة “الكوماندوز البحري” التابعة لكتائب القسام؛ قاعدة زيكيم العسكرية بالقرب من عسقلان.. قاتل المقاومون الخمسة من المسافة صفر، واستُشهدوا جميعا أثناء عودتهم إلى قواعدهم في غزة.
كانت عملية زيكيم بطولية، بيد أنها كانت انتحارية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمن ناحية، كيف يمكن تفسير استعداد عدد من الشباب، المميزين غالبا وينتمون حرفيا إلى مجتمع النخبة سواء في غزة أو في المقاومة، لاقتحام موقع عسكري بلا أمل في العودة تقريبا؟
وإذا اعتبرنا فعلهم نوعا من “الانتحار الإيثاري” بحسب ما يسمى في علم النفس الغربي، من مصطلحات الاجتماعي إميل دوركايم، وهو نموذج قاصر عن الإحاطة بمعنى الاستشهاد، غير أننا مضطرون إلى استخدامه حتى يصل الغربيون إلى مصطلح أقرب لفهمهم.. فكيف يمكننا تفسير إقدام المقاومين على هذه العملية مع علمهم بأن جثثهم ستقع في أيدي الإسرائيليين، وحينها لن تسلم منازلهم، وعائلاتهم، وأطفالهم من الانتقام؟
هل تصلح النماذج الإستراتيجية التي طُورت بالأساس لتفسير وتوقّع تحركات اللاعبين بناء على حسابات الربح والخسارة للاستخدام هنا؟ أو أنها خارج العقل، ومن ثم خارج النظرية، وكل ما هو خارج العقل جنون وسلوك شاذ مرضي. والجنون في الثقافة الغربية يُقصى ويُقمع ولا يُفهم، كما يشير ميشيل فوكو، أحد أهم الفلاسفة المعاصرين. وهنا لا تدان النظرية التي تفشل في التفسير، بقدر ما تدان الثقافة التي تنتج تلك الأفعال الشاذة عن المعيار الغربي العقلاني المفهوم. ومن ثم يتم الخروج بتفسيرات تبسيطية عن السلوك غير العقلاني الذي يسود منطقة الشرق الأوسط، وبهذا تتملص النظرية الغربية من أي مسؤولية أخلاقية، وتستمرئ الجهل على الفهم، وتعفي نفسها من قصور التنبؤ الذي اعتراها، فالمجنون غير قابل للقياس والتوقع.
لماذا لا يفهموننا؟
استخدمتُ مثال عملية زيكيم وغيره من واقعنا، إذ كنا حديثي عهد بالربيع العربي وتضحيات شعوبنا وثوراتنا في سوريا ومصر واليمن وتونس، في نقاشات مع أساتذة آخرين في الفترة نفسها، ضمن دروس الاقتصاد وتحليل السياسات الخارجية العالمية، والسياسات الأوروآسيوية. ومع كل نقاش كانت تتأكد لدي هذه القناعة، أنه إذا كان لأدوات التحليل الإستراتيجية قدرة على التوقع والتفسير، فإنها تحتاج إلى إضافة نوع آخر من الطبقات الشارحة لفهم تحركات الفاعلين الذين يتبنون رؤية للعالم تختلف عن الرؤية الغربية له.
وبالرغم من أن أدوات التحليل الإستراتيجي شديدة التنوع، وأن نظرية الألعاب أعقدُ كثيرا من اختزالها في قصورها عن تفسير حادثة واحدة، خاصة مع قدرتها على حمل طبقات عدة من المستويات والنتائج والاحتمالات التي تتعقد أكثر مع كل معلومة جديدة تُضاف إلى بنك معرفة الأطراف المتقاتلة عن بعضهم البعض، فإن النظرية تنبني على افتراض تعريفات محددة للعقل، وللمصلحة، وللنتائج المرجوة، وكلها توصل إلى نقطة واحدة مفادها أن الفاعلين العقلانيين سيتصرفون بما يجلب لهم المصلحة المادية ويدفع عنهم الأذى المادي، وفق مبدأ اللذة والألم الذي قعّد له الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بينثام، وقال فيه إن كل الأفعال الإنسانية يمكن تفسيرها بالعودة إلى قيمتين أساسيتين: البحث عن اللذة، وتجنب الألم. والمفارقة أن بينثام هذا، الذي يُنسب إليه مبدأ النفعية، هو مَن صمم نموذج السجن الشهير، البانوبتيكون، الذي درسه كذلك ميشيل فوكو باستفاضة لفهم علاقات السلطة وتأثير الشعور بالمراقبة على نفسية السجين، وهو ما ينسحب على تطبيقات كثيرة لا مجال لذكرها.
لكن، إذا افترضنا عدم قدرة النظرية على توقع تصرفات الاستشهاديين الفلسطينيين لأسباب ما، أو لأنهم مجانين، غير عقلانيين، وأن الحالة الفلسطينية قد تكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فماذا عن تفسير التصرفات المشابهة من قبل الفيتكونغ في حرب فيتنام؟ وماذا عن الطيارين اليابانيين، الكاميكازي، الذين فجروا أنفسهم مع طائراتهم في سفن وموانئ أعدائهم في الحرب العالمية الثانية؟ وماذا عن تجارب المسلمين، بداية من بواكير التاريخ الإسلامي في حوادث مثل استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وحصار واستشهاد الصحابي عبد الله بن الزبير، على أيدي الأمويين، وحتى الانتهاء بتجربة مقاتلي حركة طالبان في أفغانستان، وبالطبع، عملية طوفان الأقصى، التي سيمر وقت طويل قبل أن ندرك كل آثارها وتداعياتها في أقطاب الأرض الأربعة.
وقبل المزيد من الاسترسال، لديّ ادعاء أسوقه قبل أن أقيم عليه الدليل.. إنني أدّعي أن فشل الإسرائيليين في توقع هجوم طوفان الأقصى، وفشل المحللين في توقع سير المعركة، لم يكن نتيجة البراعة الاستخباراتية والأمنية المذهلة التي أدارت بها قيادة المقاومة الفلسطينية تحضيرات الهجوم فحسب، ولا الخطط العسكرية التي وُضعت في سرية فائقة، بل هو فشل متأصل من قبل الإسرائيليين، ومَن وراءهم مِن داعميهم الغربيين، في فهم المنطقة واللاعبين فيها، وينبع بالأساس من الاعتماد على أدوات تحليل قاصرة في تفسير الظواهر، وتجاهل العوامل غير الملموسة التي تؤثر على هذه التصرفات، والتي لا توضع بشكل تلقائي في حسابات الربح والخسارة، ولا تخضع لمبدأ اللذة أو الألم.
وأزيد على هذا بالقول إن كلا من الفشل الإسرائيلي في توقع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتفاجؤ أجهزة الاستخبارات والتحليل الغربية باندلاع ثورات الربيع العربي، أو دهشتهم من نجاح الثورة الإسلامية في إيران، أو فشلهم في توقع عودة طالبان إلى حكم أفغانستان بعد رحيل المحتل، بل وحتى استعداد قطاعات واسعة بين المثقفين والصحفيين الغربيين، وذوي الهوى الغربي بين أظهرنا، لتصديق ادعاءات حرق الأطفال واغتصاب المستوطِنات أثناء هجوم المقاومة على غلاف غزة، كل هذا الفشل وجميع هذه المفاجآت التي لا يبدو أن هناك رابطا يجمعها، تخرج من مشكاة واحدة: إنهم لا يفهموننا، لأنهم لا يعرفوننا!
دليل الغربي إلى التنبؤ بما لا يعرفه
تقول القاعدة الأصولية إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، لكنْ ما علاقتها بالتحليل الإستراتيجي؟
في التحليل العسكري والسياسي، يتعامل المحللون مع ثلاثة نطاقات من المعلومات: حقائق نعرف بوجودها ونعرف أننا نعرفها، وحقائق نعرف بوجودها ونعرف أننا لا نعرفها، وأخيرا، حقائق لا نعرف بوجودها ولا ندرك أننا لا نعرفها! فمثلا، إذا أراد محلل أن يتوقع رد الفعل الإسرائيلي أثناء هجوم 7 أكتوبر، فإن هناك حقائق عن الجيش الإسرائيلي يعرفها ويعرف كنهها، مثل طبيعة الأسلحة التي استُخدمت في حروب سابقة، وتشكيلات الجيش، وأفرعه وسرعة حشد قوات الاحتياط وحركة المعدات، ويعرف كذلك التفاعلات داخل المجتمع الإسرائيلي، وأزماته السياسية التي أضعفت دولة الاحتلال.. هذا هو النطاق الأول.
لكن المحلل أيضا قد يعرف مثلا، أن اجتماعا جرى في الحكومة الإسرائيلية، ولا يعرف تفاصيل ما جرى فيه، أو صفقة أسلحة نُفذت، بلا تفاصيل عن أنواع الأسلحة التي تسلمتها إسرائيل، أو محادثة هاتفية تمت بين زعيم دولة عربية من دول الطوق ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكنه لا يعرف ما اتُفق فيها على تنفيذه. هذه المعلومات قد تدخل تحت النطاق الثاني، ما نعرف وجوده، لكننا نعرف أننا لا نعرف كنهه.
أما النطاق الثالث من المعلومات، فهو ذلك الذي لا يعرف المحلل بوجوده، ولا يعرف أنه لا يعرفه. مثلا، لم يكن بإمكان أي محلل عسكري أن يعرف أن نتنياهو يقضي إجازته في الجولان السوري المحتل قبيل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد لا يكون بإمكانه معرفة أن تحركات بعض أسلحة الجيش لا يمكن أن تتم إلا بموافقة مباشرة من نتنياهو، وأن تأخره في الرد أو إعطاء الأمر قد يؤخر الرد الإسرائيلي لساعات.
لعل هذه المعلومة، على أهميتها في التحليل، كانت غائبة، ولم يكن بإمكان أحد المحللين أن يعرفها ولا أن يدرك أنه لا يعرفها. لذلك فإن توقع سرعة رد فعل الجيش الإسرائيلي، سيكون قاصرا عن إدراك كل الزوايا، لكنّ جهد المحلل والمعلومات التي حصل عليها، تؤهله ليبني تخمينا ذا ثقة عالية بناء على المعلومات التي يمتلكها. يكون هذا بشكل خاص كلما قلت المعلومات في النطاق الثالث، وكثرت المعلومات في النطاقين الأول والثاني.
النطاقان الأول والثاني من المعلومات يشكلان تصور المحلل الإستراتيجي عن الشيء. ولكي يصدق حكمه، يجب أن يكون تصوره شاملا ودقيقا. لذلك، فإذا انبنى التحليل على هذين النطاقين، ولم تكثر المعلومات أو تهمّ في النطاق الثالث، فإن ثقة أجهزة الاستخبارات والمحللين في مصداقية تحليلهم وصدق توقعاتهم ستناطح السماء. لذلك فإن أهم مهام أجهزة الاستخبارات والمحللين هي تقليل النطاق الثالث لأقل قدر ممكن.
ننتقل إلى إحدى أهم النقاط في الدليل الذي أقدمه على الادعاء، وهي ثقة المحلل في صدقية توقعاته. من أين تأتي هذه الثقة؟
هنا أتذكر أستاذا آخر، يُدعى مايكل كوكس، درّسنا السياسات الأوروآسيوية، ونعني بها، ببعض الاختزال، نطاق دول الاتحاد السوفياتي السابق، وقد كانت له حكاية! فقد عاش جلّ حياته الأكاديمية باحثا في شؤون الاتحاد السوفياتي. تعلّم كوكس الروسية، وزار موسكو وعاش فيها، وكان يُحضّر رسالة الدكتوراه عن مستقبل الاتحاد السوفياتي. ولسخرية القدر، كان مخططا أن يناقش رسالته في الفصل الدراسي الأول للعام 1989-1990. أنهى كوكس كتابة الرسالة، وقبل مناقشتها سقط جدار برلين في نوفمبر/تشرين الثاني، وخلال بضعة أشهر، كان الاتحاد السوفياتي قد تفكك وأُعلنت الجمهورية الروسية. أخبرنا كوكس أنه لم يشعر بهذا القدر من انعدام الهدف مثلما شعر به في ذلك الوقت. لكن كوكس عاش لاحقا حياة أكاديمية حافلة، غير أنه لم ينس المفاجأة التي مثّلها سقوط الاتحاد السوفياتي على رؤيته للعالم، والتي لم يتوقعها خبراء السياسة والاستخبارات في العالم. لكن لماذا كانت المفاجأة قوية لهذه الدرجة؟
من دون الاستطراد في التفاصيل المتعلقة بالاتحاد السوفياتي ودوله، في هذا الوقت، كان العالم يعيش في توازن ما، بين قوتين عظميين، وكان الاتحاد السوفياتي قادرا على البقاء ومقاومة القوة الأميركية، ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة تمتلك قدرة هائلة على تحصيل المعلومات في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي كان سقوط الاتحاد السوفياتي ضربة للثقة الأميركية في تفسير وتوقع المستقبل. لكن من ناحية أخرى، منح هذا التفكك الولايات المتحدة إمكانية غير مسبوقة، لا للهيمنة على عالم الحصول على المعلومات فحسب، بل وعلى صناعتها، وترويجها، والتأثير على مجريات الأحداث من خلالها.
آلهة العالم الجديد
ولأن المؤسسات العالمية، السياسية منها (الأمم المتحدة) والنقدية (صندوق النقد الدولي) والعسكرية (حلف الناتو) والاقتصادية (البنك الدولي) وحتى العدلية القضائية (محكمة العدل الدولية)، كانت قد صُممت بعد الحرب العالمية الثانية للحفاظ على الوضع القائم الذي خلصت إليه الحرب، فقد كان يعني ذلك، بطريقة أو بأخرى، ضمان الهيمنة الأميركية على عالم في ظاهره متعدد الأقطاب (بما يعطيه حق النقض للدول الكبرى).
ولعل أصدق إشارة إلى تلك الأهداف هو ما عبّر عنه أول أمين عام لحلف الناتو، هاستينغ إزماي، بقوله عن غرض الحلف العسكري: “هو أن نُبعد الاتحاد السوفياتي، ونُقرّب الولايات المتحدة، ونُحني رؤوس الألمان”. وفي هذا السياق نفسه تأسست إسرائيل في مايو/أيار 1948، لذات الأهداف التي تأسس من أجلها الناتو خلال أقل من عام في أبريل/نيسان 1949. لذلك كان انهيار الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات بمثابة الإعلان الرسمي، لا عن الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، بل كإله مقدس جديد في عالم صوّرته الرؤية الغربية خاليا من المقدس، ومطلقا منفردا في محيط كلُّ ما فيه نسبي.
هذا الوضع المستجد جعل الولايات المتحدة، وأجهزتها الاستخباراتية، ومحلليها، لا ينظرون إلى أنفسهم، باعتبارهم متأثرين بالأحداث، بل باعتبارهم صانعين لها. وإذا رأى أحد نفسه إلهاً، فهو يرى نفسه عالما بكل شيء، محيطا بكل شيء، قادرا على كل شيء، والأهم من ذلك، أن ثقته ستصل إلى حد تتحول معها إلى غرور يعمي وهوًى يصم. هذا تحديدا ما أراده فرانسيس فوكوياما، صاحب أستاذي الذي يغار منه، عندما قال قولته بنهاية التاريخ. فإذا كان التاريخ سُلما صاعدا، لا دولا ودورات كما فهمه المسلمون، فإن سقوط الشيوعية بالنسبة للأميركي يعني الانتصار النهائي لليبرالية الديمقراطية، وأنه لم تعد هناك فكرة يمكنها أن تقدم شيئا ينقص هذه الليبرالية الغربية، ولم يعد هناك شعب يمكنه أن يقدم منجزا يفوق ما قدمه الأوروبي الأبيض.
ولهذا السبب يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري في مذكراته إنه قد صار مقتنعًا “أن الإنسان الذي يؤمن إيمانًا أعمى بالنموذج الحضاري الغربي ، عادةً .. ينتهي به الأمر بتقبل الدولة الصهيونية”. ويكمل المسيري قائلًا إنه “ليس من قبيل الصدفة أن نظام الانفتاح على الغرب في مصر، هو نفسه نظام التطبيع مع إسرائيل”.
انتشر هذا القول، على ما فيه من تبسيط واختزال، انتشار النار في الهشيم، لكنه لم يصمد طويلا إلى أن تهاوى مع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والهزائم الأميركية الإستراتيجية المتلاحقة في أفغانستان، وأمام أعدائها التقليديين مثل روسيا، والجدد مثل الصين. ما لا يمكن تجاوزه هو أن فوكوياما، القادم من أصول يابانية، كان أبوه ممّن حُبس في معسكرات الاعتقال الأميركية إبان الحرب العالمية الثانية، ضمن اليابانيين الذين كانوا يعيشون في الولايات المتحدة آنذاك. لذلك فإن حديث فوكوياما عن نهاية التاريخ، وانتصار الغربي، قد يكون نابعا من مأساته الشخصية، وهزيمته الخاصة التي رأى فيها اليابان تُسحق تحت وطأة قنبلتين نوويتين وحرب مدمرة، قبل أن يرى عائلته تُحبس في معسكرات الاعتقال، إلى أن اطمأن الأميركيون إلى أميركيّتهم.
وهذا يطرح تساؤلا يحضّ على التفكير، هل كان فوكوياما ليبشر بنهاية التاريخ لو لم تستسلم الأمة اليابانية بعد هزيمتها؟ أم أنه في تفسيره لنهاية الحرب الباردة، كان يحاول أن يوجِد لأمته عذرا لاستسلامها قبل خمسة عقود، فقد سقط السوفيات وهم أكثر عددا وأمضى قوة من اليابانيين. ولذلك رأى فوكوياما أن شرط التقدم -وهو الذي لم يعرف في حياته منذ مولده عام 1952 سوى صعود النموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي وانتصاراته المتلاحقة- يعني الالتحاق بركب هذا النموذج ومفارقة ما سواه.
لكنْ بعيدا عن فوكوياما، الذي استبطنت رؤاه أجهزة الأمن والاستخبارات والسياسة الأميركية، والغربية، واطمأنت إلى انتهاء التاريخ في صالحها، فقد ارتفعت معدلات الثقة في المنتج التحليلي الغربي لأعلى درجة ممكنة. واستطاع الأميركي دوما أن يقول إن نموذجه في تفسير العالم قادر على رؤية كل شيء وتوقع كل شيء، وكانت المفاجآت الكثيرة جدا، تُصنف على أنها استثناءات للقاعدة، أو “بجعة سوداء” لا يمكن توقع وجودها قبل رؤيتها رأي العين، وقلّما تساءل الغربيون عن قصور هذا النموذج التفسيري نفسه، والذي ينبع من قصور في الرؤية للعالم بأكمله.
لو نظر أحدهم إلى قدميه لرأى طوفان الأقصى .. فلماذا نباغتهم كل مرة؟
تحدث الإسرائيليون مرارا عن إشارات مختلفة وتحذيرات ومعلومات استخباراتية وحتى تنبيهات من بعض الحلفاء الإقليميين وصلت إلى القيادة الإسرائيلية بشأن حدث كبير على وشك الحدوث في غزة، لكن ما الذي منع دهاة الاستخبارات الإسرائيلية وآلهة المعلومات الأميركيين من رؤية غزو حركة حماس للأراضي الفلسطينية المحتلة؟
لعلها نفس الثقة، أو قل الغرور، الذي منع مشركي قريش من رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق في غار ثور، وقد كانت رؤوسهما، كما قال أبو بكر رضي الله عنه، عند أقدام المشركين. إن الثقة التي رأى بها العرب الأقحاح معرفتهم بالصحراء لم تدفعهم للشك في حقيقة ما يرونه، ولعل هذا بالضبط هو ما حدث.
فعلى مدار سنوات، توهم الإسرائيليون صورة عن الفلسطينيين في غزة، لا تمثل الحقيقة، بل ما أرادوا أن يروه. فمثلا، اعتمد المحللون على ما اعتقدوا أنه يمثل الشخصية الحقيقية لزعيم حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، وكيف أنه صعب المراس، لكنه كذلك براغماتي يسعى للسلطة. تحدث الإسرائيليون عن تصفية القضية، فهم يعلمون ما يجري في كل العالم إن لم يكونوا يسهمون في تشكيله، يعلمون تحالفاتهم العربية إلى أين وصلت، وكل حركة في غزة فوق الأرض، وينسقون أمنيا مع أعدائهم في الضفة الغربية، ومعلوماتهم الاستخبارية المتشاركة مع حلفائهم في الإقليم وخارجه ترسل لهم نفس الرسالة: استقرار إسرائيل على مرمى حجر. لم يضع الإسرائيليون أو الأميركيون في حساباتهم أي احتمال لوجود قدر هائل من المعلومات عظيمة الأهمية في النطاق الثالث المذكور آنفًا. ومن هنا جاءت المشكلة.
ففي هذا النطاق، لا تقع فقط المعلومات عن القدرات العسكرية لكتائب القسام والمقاومة الفلسطينية المجهولة للاحتلال، لكن تقع أيضا جوانب أخرى من المعلومات المتعلقة برؤية حركات المقاومة الإسلامية للعالم، والعلاقات بين الأفراد في هذه الحركات، ورؤيتهم لأنفسهم، وإيمانهم بمفاهيم مثل: الأمة، والشهادة، وتصورهم لموقعهم من الزمان والتاريخ.
يمكن توقع أن يقول الخبراء والمحللون الإسرائيليون إن نظرياتهم ونماذجهم التفسيرية لفهم وتوقع سلوك حركات المقاومة قد أثبتت نجاحها في مرات عديدة، وإن حالة حماس وطوفان الأقصى هي الاستثناء لا القاعدة. لسوء الحظ، تدعم هذا القول الحربُ الإسرائيلية على لبنان، التي أثبتت فيها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قدرة على اختراق المقاومة الإسلامية، وإمكانية هائلة لمعرفة المعلومات السرية، واختراق سلاسل التوريد، واستهداف مقرات القيادة، ومواقع تخزين الأسلحة بدقة كبيرة. وعلى الرغم من أن بداية المعركة تدفع الإسرائيليين إلى مزيد من الثقة بقدراتهم، فإن ما يُعضّد ادعائي بعدم إمكانية توقع سلوك حركات المقاومة، هو مآل الصراع إلى الآن، وما ستؤول إليه هذه الحرب نفسها، والتي لا تزال في بدايتها.
ففي تاريخ الصراع العربي مع إسرائيل، بدأت المقاومة ضد البريطانيين أثناء الانتداب، وتصاعدت إلى أن بلغت ذروتها، قبل أن تُهزم الجيوش العربية في حرب فلسطين، وتتأسس الدولة اليهودية. تأسست الدولة، وتوسعت بالحرب تارة وبالاستيطان تارة، إلى أن تصالحت معها حكومة مصر، قبل أن يتصالح معها آخرون. وفي اللحظة التي أدرك فيها الإسرائيليون تأمين حدودهم الغربية مع مصر، سعوا إلى تأمين حدودهم الشمالية مع لبنان، فكان اجتياح لبنان وإبعاد منظمة التحرير إلى تونس والشتات. لكن لم تمض سنوات قليلة بعد خروج ممثلي الدولة الفلسطينية من المواجهة، حتى فوجئت النظرية ومعتنقوها بأن المقاومة الشعبية ظهرت من رحم المجتمع الذي لا يمكنه إلا أن يرفع راية العصيان، لتندلع انتفاضة الحجارة، وتتأسس معها حركة المقاومة الإسلامية التي عُرفت اختصارًا باسم حماس.
استخدم الإسرائيليون كل وسائلهم، ما نعرفه وما لا نعرفه، من أجل ضمان الاستقرار في إسرائيل، فأزاحوا كل من يمكنهم إزاحته، إما بالقتل أو السجن أو الإبعاد أو الاستمالة. ورغم ذلك ظل مسار المقاومة في تصاعد. تصالحت السلطة الفلسطينية في أوسلو، وتصالح الأردن في وادي عربة، لكن المقاومة لم تتوقف بل ازداد أوارها، وحاولت السلطة الوصول إلى حلول لم ترغب فيها إسرائيل، رغم إجحافها للحق الفلسطيني في كامب ديفيد عام 2000، قبل أسابيع من اندلاع انتفاضة الأقصى. ويمكننا تتبع الضربات القاسية التي افترضت فيها إسرائيل إمكانية تحييد المقاومة، قبل أن تعود المقاومة أقوى أضعافا منها في تارتها الأولى.
وحتى قبل أشهر وسنوات من عملية طوفان الأقصى، كانت إسرائيل تفترض أن قيادة المقاومة في غزة تسعى إلى ما يسعى إليه الناس في العالم الذي تعرفه إسرائيل وتعرف كيف تحلل تصرفاته وتوقع تحركاته، وحاولوا إشباع ما ظنوه رغبات المقاومة في الحكم والسيطرة والاستقرار الاقتصادي “بالدولار والسولار”، حسب تعبير زعيم حماس يحيى السنوار حينها. غير أن الأمور سارت كما نعرف لا كما أراد الإسرائيليون.
هذا بشأن مسار الصراع إلى الآن، أما ما يعضد ادعائي مما ستؤول إليه هذه الحرب الجارية الآن، فرغم رجحان كفة القدرة العسكرية والاستخباراتية لإسرائيل، لا يمكن لأي طرف أن يدّعي الفوز من غير مواجهة مباشرة تسيطر فيها القوات المنتصرة على الأرض. وفي لحظات الالتحام تلك، تبرز القيم والعوامل التي نعيشها ولا يفهمونها. فبينما يتحدث الاقتصاديون عن تكلفة الفرصة الضائعة وأرباح التطبيع مقابل ثمن المقاومة، ويتحدث علماء الاجتماع عن كل تضحية باعتبارها “انتحارا إيثاريا”، يظل هناك فرق بين الاستشهادي المقاوم والانتحاري الإيثاري، فكلٌ من الفيتنامي والياباني والكوبي والأرجنتيني عندما قاتل، كان يقاتل متعلقا بالشرف والفناء في المجموع، بينما يتقدم المقاتلون المؤمنون بمنظومة تضمّ تلك المعاني، لكنها لا تقف عندها أبدًا.
تضم هذه المنظومة معايير مختلفة، وألفاظا مختلفة، لا يمكن قياسها بالأدوات التحليلية الغربية، لكن لا يمكن تجاهلها لمن يعرف أهل هذه الأرض، ومنطقهم، ودينهم، وقيمهم. فالاستشهادي يبحث عن خلاصه الفردي بالفعل، لكنه لا يرى هذا الخلاص في دفع الألم وجلب اللذة، بل في رضا الله، الذي لا يتحقق إلا بأن يؤدي ما عليه من مهام. فحتى الآن، لم يستطع المحللون الغربيون إيجاد وسائل لقياس مفاهيم مثل الثبات، أو وضع معايير لتحديد قدر الصمود، أو ما يعنيه مجتمع الرباط، أو طبيعة أهل الثغور. فكيف يمكن تفسير هذه المقاومة في ظل هذه الأثمان؟ ولماذا ترسل الأم أولادها إلى حتفهم وهي توقن أنها لن تراهم ثانية؟ وكيف يفتح الجد عيون حفيدته يقبّلها بعدما قتلها الاحتلال قبل أن يودعها بهدوءِ مَن يوقن أنه سيلتقيها بعد هنيهة. فمع كل الحروب الطاحنة، وكل الأنظمة الحليفة لإسرائيل، وكل الحكومات التابعة لحلفاء إسرائيل، وخشية قادة ورؤساء من انتصار مشاريع قد تغري أهل بلادهم بالمثل، يظل هناك شيء ما يرفض الإذعان.
ولمن يجهل كل هذا، فلن يكون مستغربا أن يروّج لادعاءات حرق أفراد المقاومة للأطفال واغتصاب النساء، فكيف يمكن لمن يصدق أو يروّج أن يكون هذا من فعل المقاومة الإسلامية، التي يدرك أفرادها أنهم لا يقاتلون انتقامًا لأنفسهم ولا جلبًا للذة، أن يستطيع تَوقّع تصرفات أفراد هذه المقاومة في الظروف المختلفة؟
أدرك تماما أن هذه المقارنات، واستحضار حوادث التاريخ وقصص السيرة، بهذه الألفاظ العامة، قد لا تكون مقبولة في المجال الأكاديمي، وربما بين بعض المسلمين أنفسهم. أما من الناحية الأكاديمية، فإن هذه المعايير غير قابلة للقياس، ويصعب كثيرا وضع أوزان لها في نظرية الألعاب أو أي نموذج رياضي للتحليل السياسي أو الإستراتيجي، لكنْ هنا بالتحديد يكمن الإشكال، فجسر الهوة بين النموذجين يقتضي عقد مثل هذه المقارنات، ولا أدّعي القدرة على وضع تصور يضع في الحسبان العوامل غير المادية، بل التأكيد على قصور النماذج المستخدمة حاليا في التحليل والتنبؤ.
إن الحرب الجارية ليست حربا على الأرض، وليست معركة بين مجموعات مسلحة وجيش نظامي، ولا بين جند مقابل جند، لكنها حرب حضارية، أي أن النموذج الذي سينتصر فيها سيكون هو النموذجَ القادر على أن يكون الأعلى صوتا في المرحلة القادمة من عمر البشر. وإن كنا قد أفنينا أعمارنا في العيش تحت نير حضارة صنعها أصحاب الأطماع في بلادنا، وفي ظل نموذج لا يفهمنا، وأدوات لا تنطبق علينا، ومعايير لا تفسّر غضبنا ومطالب لا تحسّن واقعنا، فإن المقاومة في هذه الحرب، ليست مقاومة عسكرية فحسب، بل مقاومة حضارية بالأساس.
ولا سبيل إلى هذه المقاومة إلا بإنتاج رؤية للعالم، نضع فيها أنفسنا وبلادنا وشعوبنا في موقع الفاعل، وأن نبني نماذج تفسيرية وأدوات تحليل نفهمها وتفهمنا، تخدم قضايانا، وتعيد ترتيب أولوياتنا، وعلى أساسها تنتظم تحالفاتنا وتُتخذ قراراتنا. وإن البشرية التي تقف بالفعل على حافة الهاوية، لن يعصمها من الفناء المعلق على رأسها إلا أن تُطوى هذه الصفحة من تاريخ الإنسانية لأجل صفحة جديدة، تسطر فيها هذه المنطقة وشعوبها شروطها لحياة كريمة. وإلى أن تُطوى تلك الصفحة، لن يستطيع العدوّ، ولا المحللون، ولا خبراء الاستخبارات الإجابة على سؤال: لماذا لا تتوقف شعوبنا عن الزحف نحو الموت الكريم؟