تعيش الجيوب الفلسطينية بين الأراضي التي يحتلها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون دوامة من الاضطرابات والفوضى والعنف اليومي تمنع أي إمكان للمصالحة أو الحل السياسي، وها هو الأمل يتضاءل في تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين، بعد مرور 30 عاما على توقيع اتفاقيات أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول 1993.
بل بات احتمال التوصل إلى حل الدولتين مجرد وهم، ولم يبق سوى الجانب الفني من الاتفاقية، كإدارة تدفقات العمال وتحصيل الضرائب والتعاون الأمني، وبالتالي فقدت السلطة الفلسطينية المعزولة والضعيفة، مصداقيتها في نظر الشعب الفلسطيني، في وقت يتزايد تأثير المستوطنين الإسرائيليين، ليصبح الكفاح المسلح الخيار الوحيد لجيل من الشباب الفلسطيني.
بهذه المقدمة افتتحت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية -تقريرا بقلم غيوم دي ديولفو- سجل فيه رحلة على طول الطريق 60 بالضفة الغربية سماها “مسار الدم”، وصف فيها هذا الشارع الذي يعبر الضفة من الشمال إلى الجنوب، من جنين إلى الخليل عبر القدس، وهو أحد أكثر الشرايين ازدحاما في هذه المنطقة التي تحتلها إسرائيل عسكريا منذ حرب 1967، وهو مع ذلك أكثرها إثارة للخوف لدى كل عابر.
وقالت الصحيفة إن هذا الشارع مخيف، لأنه يعبر هذه المنطقة الضيقة المقطعة الأوصال، حيث يتداخل عالمان مغلقان كلاهما يتحدى الآخر، ليلتقي فيه الإسرائيليون من المستوطنات “القانونية” و”غير القانونية” مع الفلسطينيين من المدن ومن القرى الزراعية ومن مخيمات اللاجئين لأنهم جميعا مضطرون إلى عبوره.
لوحة خاصة لكل شخص
في هذه السنة تزايد العنف على كلا الجانبين، ووصل عدد الضحايا إلى نسب مماثلة لتلك التي وقعت في الانتفاضة الثانية، حيث قُتل ما لا يقل عن 238 فلسطينيا و28 إسرائيليا، فالمستوطنون يطاردون الرعاة في مراعيهم، والمراهقون يلقون الحجارة على سيارات إسرائيلية، والهجمات على نقاط التفتيش بالبنادق أو بالسكاكين، وللمستوطنين يداهمون القرى الفلسطينية والعمليات العسكرية وتدمير المنازل معظمها يمر دون أن يلاحظه أحد، سواء في إسرائيل أو في أماكن أخرى.
وفي شمال الضفة الغربية على وجه الخصوص، في الجزء الذي يطلق عليه معظم الإسرائيليين الاسم التوراتي “السامرة”، يبدو العنف أكثر حضورا، فبعد أن تركنا وراءنا القدس ورام الله “عاصمة السلطة الفلسطينية”، سلكنا الطريق 60 الذي يعبر التلال باتجاه نابلس وجنين، حيث تشير لوحات الترخيص إلى الجهة التي تنتمي إليها كل مركبة، وهي باللونين الأصفر والأسود للإسرائيليين، والأبيض والأخضر للفلسطينيين، ويوجه جنود الاحتلال، من داخل صناديق الحراسة الخرسانية، أسلحتهم نحو جميع السيارات، وتروح المركبات المدرعة التابعة للجيش الإسرائيلي بلوحاتها السوداء، وتعود على طول الطريق.
وقد رأينا العديد من الإسرائيليين عند محطة وقود إيلي مع عدد لا يحصى من الأعلام الإسرائيلية -ونحن نأكل في مطعم حمص الياهو- وعرفنا أن الفلسطينيين يتجنبون هذا المكان، خاصة منذ أن قام شابان فلسطينيان بهجوم هنا قتل فيه 4 إسرائيليين وأصيب 4، كما قتل المهاجمان، ورحبت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بذلك دون أن تعلن مسؤوليتها عن العملية، كما نظم المستوطنون بعد بضعة أيام، مداهمات عنيفة في القرى الفلسطينية المحيطة، مما أدى إلى مقتل شخص وإصابة 12 آخرين، وفق وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية.
وعلى بعد بضعة كيلومترات شمالا، تزايدت المطبات والحفر والدوريات العسكرية، بعد أن أصبحت قرية حوارة الفلسطينية نقطة توتر، وهي تقع على جانبي الطريق 60 في المنطقة “ب”، التي تديرها السلطة الفلسطينية حسب اتفاقيات أوسلو، ولكن يؤمنها الجيش الإسرائيلي، ومنها يمر يوميا سكان مستوطنات يتسهار وإيتامار وهار براخا المجاورة، ويعبرها المستوطنون في خوف، مع تزايد الهجمات على السيارات الإسرائيلية هناك.
وقد أثارت هذه الهجمات غضب المستوطنين، وفي أعقاب وفاة اثنين منهم في ظروف مماثلة، نزل مئات السكان من المستوطنات المحيطة إلى حوارة، وهو ما توقعه زياد الدوميدي الذي يقع منزله غير المحمي على مسافة قريبة جدا من الشارع 60، مما يجعله هدفا سهلا، ويقول هذا الرجل القوي الذي يعمل مصفف شعر ويعيش مع زوجته وأطفالهما الأربعة، إنه تعرض لـ4 هجمات في أقل من سنة.
ولد الدوميدي في الكويت، وقرر العودة إلى قرية العائلة “حبا لفلسطين”، وقد توقع الهجوم الأخير للمستوطنين، فاشترى طفايات حريق وأوقف سيارته بعيدا وأغلق أبوابها، موضحا “ثم جلسنا في غرفة المعيشة مع زوجتي، وانتظرنا ونحن نتابع الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي. سار المستوطنون في الشارع ووصلوا أمام المنزل. كانوا يعرفونه جيدا وأحاطوا بنا، وتمكنوا من تحطيم النوافذ، وألقوا الزجاجات الحارقة”، فاشتعلت النيران في المنزل ليلجأ الدوميدي إلى الحمام مع زوجته وأطفاله “لقد فهمنا أننا سنموت. تلونا الشهادة، وبعد دقيقتين سمعنا طرقا على الباب، فكان ضابط إسرائيلي هو الذي أخرجنا. تم إطفاء الحريق وتم ترميم المنزل”.
مفارقة مأساوية
وتساءل الكاتب عن تفسير هذا المستوى من العنف، ليرد عليه سفين كون فون بورغسدورف الذي كان ممثلا للاتحاد الأوروبي لدى السلطة الفلسطينية من بداية 2020 إلى وسط 2023، قائلا “خلال هذه الفترة، لاحظت تدهورا مستمرا في الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في فلسطين، مع ما يترتب على ذلك من تشويه سمعة السلطة الفلسطينية، ويعود ذلك إلى عدم دعم السلطات الإسرائيلية للرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي كان دائما مؤيدا لطريق الحوار من أجل إقامة دولة ذات سيادة، ولكنه في مواجهة الرأي العام الفلسطيني، غير قادر على الظهور ممثلا شرعيا، لأنه لم يختر طريق الانتخابات، السبيل الوحيد لخلق الوحدة السياسية بعد أن تم انتخابه عام 2005، ولم يعد من الممكن عزله منذ ذلك الحين.
ويعرب الدبلوماسي الألماني عن أسفه لهذه “المفارقة المأساوية”، موضحا “نحن بحاجة إلى قيادة تجعل القضية الفلسطينية أولوية مطلقة، فوق المصالح الخاصة لمن يديرون الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن هذين العاملين، الافتقار إلى الدعم الإسرائيلي ورفض عباس العمل مع شركاء سياسيين فلسطينيين آخرين، كان كل منهما يعزز الآخر، الأمر الذي ساعد في تشويه سمعة الحكومة الحالية وتحسين صورة حماس التي تتبنى رسميا نهج المقاومة.
وأضاف الدبلوماسي الألماني أن هذا العام شهد أكبر عملية ضم فعلية بعد عام 1967، حيث تمت الموافقة على 13 ألف وحدة سكنية جديدة، علما أنه عند توقيع اتفاقيات أوسلو لم يكن هناك سوى 90 ألف مستوطن في الضفة الغربية، أما اليوم فهناك 450 ألفا و300 ألف في القدس الشرقية، ووعد بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والمسؤول عن إدارة المستوطنات ضمن وزارة الدفاع، بمليون مستوطن، ورغم ذلك لا يزال “الاتحاد الأوروبي يعمل على هذا الأمر، ويفضل مسار الدولتين”.
وفي طريقه إلى الشمال بعد حوارة، يقع مدخل مدينة نابلس بعلامة حمراء كبيرة، مكتوب عليها بالعبرية والعربية والإنجليزية “هذا الطريق يؤدي إلى بلدة فلسطينية. الدخول يشكل خطرا على المواطنين الإسرائيليين”، وبمجرد عبور اللافتة، تمتلئ الممرات بملصقات تمجد “الشهداء” الذين سقطوا في المعركة، حيث مخيم بلاطة على مدخل المدينة وهو أحد مراكز المقاومة، ويقطنه 33 ألف شخص، وفي زوايا الشوارع، يجلس المراهقون ويقفون للحراسة مسلحين ببنادق، ويقوم آخرون بلحام قضبان معدنية كبيرة لسد الشوارع ليلا، يقول أبو عطان وهو عضو سابق في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)يعلم أنه مطلوب من قبل الجيش الإسرائيلي “نحن مجاهدون. نحن نقاتل من أجل كل فلسطين، من أجل القدس بأكملها وحيفا والناصرة.
عرين الأسود
وعلى بعد بضع مئات من الأمتار في البلدة القديمة في نابلس، تصدرت مجموعة مقاتلين يطلقون على أنفسهم اسم “عرين الأسود”، كثيرا من الأخبار في الأشهر الأخيرة، وقد قُتل أو اعتقل بعض أعضائها على يد الجيش الإسرائيلي، وبعضهم مختبئون، لكن عملها غير الرسمي وغير المنتمي إلى “الفصائل” التاريخية، ينتشر بين الشباب المنبهرين بفيديوهات المقاتلين المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وتوسعت شهرة “عرين الأسود” إلى كل المناطق حتى الهادئة منها، ففي جنوب الضفة الغربية قرب الخليل، وفي مخيم العروب للاجئين، الواقع هو الآخر على جانب شارع 60، قتل الطفل ميلاد الراعي (15 عاما)، برصاص القوات الإسرائيلية عندما كان يلقي زجاجات حارقة على الحصن الإسرائيلي المقام مقابل المخيم، وقد وضع البقال الذي يسكن بجانبه ملصق “عرين الأسود” من نابلس “تكريما لميلاد”، وعلى واجهة منزله لوحة جدارية تمجّد “الشهيد”، وفي الداخل، يدخن علق منذر، والد الشهيد صورة لابنه على الحائط ووضع “وصيته في إطار” وهي تقول “إذا مت غطوني بالعلم الفلسطيني ووزعوا الحلوى على الأطفال”، ثم يقول “دعوت أن أصبح شهيدا، ليس لأنني أحب الموت، بل لأصبح رمزا للنصر”.
ويقول شقيق ميلاد (18 عاما) “لقد أخطأ كبار السن في إيقاف المقاومة”، وبعد ذلك بقليل يجلس في الشارع مع أصدقائه، وهو يشاهد مقاطع فيديو للمقاتلين على هاتفه الخلوي، وهم يقولون بكل شجاعة “كل مساء، سنشتبك مع الجنود، ولسنا خائفين من الموت”، وهذا –حسب الكاتب- ما يدركه الجيش الإسرائيلي، يقول ضابط إسرائيلي “بالنسبة لهؤلاء المراهقين، أفضل شيء هو أن يحملوا سلاحا ويطلقوا النار على الإسرائيليين”، وهم لا يدركون عواقب أفعالهم.