في نجامينا الساخنة، تتدفق لغة جديدة غير متوقعة، المجرية، جنبا إلى جنب المزيج المعتاد من اللغتين العربية والفرنسية، مما يشير إلى وجود دبلوماسيين من الشريك الدولي الجديد لتشاد.
في العام الماضي وحده، افتتحت المجر بعثة دبلوماسية في الدولة الواقعة في منطقة الساحل، وأطلقت مركزا إنسانيا ووعدت بتقديم مساعدات بقيمة 200 مليون دولار. كما تخطط لإرسال جنود لمساعدة تشاد في محاربة الجماعات المسلحة.
ويقول الخبراء إن هذه المساعدة لفتة سخية من دولة في أوروبا الوسطى لم تكن لها علاقات جوهرية مع تشاد من قبل، لكنها أيضا مثيرة للدهشة، فالمجر هي واحدة من أفقر البلدان في أوروبا، وليست لديها حاليا أي ممتلكات اقتصادية في تشاد أو منطقة الساحل، كما لا توجد جاليات مجرية هناك.
ومع ذلك، أكد رئيس الوزراء فيكتور أوربان حاجة أوروبا إلى إقامة علاقات صداقة مع دول منطقة الساحل، إذ قال إن المزيج السام من الجماعات المسلحة والحكومات العسكرية يغذي الهجرة.
وقال أوربان في سبتمبر/أيلول الماضي: “لا يمكن وقف الهجرة من أفريقيا إلى أوروبا من دون البلدان من منطقة الساحل. لهذا السبب تقوم المجر ببناء شراكة تعاون مع تشاد”.
الفقر والجماعات المسلحة
قال مسؤولون في بودابست إن المركز الإنساني الذي تم بناؤه حديثا في نجامينا سيساعد في تنسيق ما بين 150 مليون إلى 200 مليون يورو (162 مليون إلى 216 مليون دولار) من المساعدات الإنسانية، التي ستستهدف قطاعي الزراعة والتعليم في الدولة القاحلة وتساعد في تعزيز النمو الاقتصادي.
وسيتم تخصيص مليون يورو إضافية (1.08 مليون دولار) من وكالة المساعدات الحكومية المجرية للمساعدة، لتمويل الرعاية الصحية. وقالت حكومة أوربان إن الهدف هو الاستجابة محليا لقضايا التنمية، بما في ذلك الفقر وعدم كفاية الرعاية الصحية، قبل أن يُطلب من الناس البحث عن حياة أفضل في أوروبا.
تشاد هي واحدة من أفقر البلدان في أفريقيا. ويعيش 42% من سكانها البالغ عددهم 20 مليون نسمة على أقل من 2.15 دولار في اليوم، وفقا لبرنامج الأغذية العالمي. وأدى تعطل التجارة مع جارتها السودان التي مزقتها الحرب إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، مما زاد الضغط على الاقتصاد.
علاوة على ذلك، فإنها استقبلت 1.2 مليون شخص فروا من الصراع في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. وترى المجر أن زعزعة استقرار تشاد قد تفتح “بوابة فيضان” من المهاجرين إلى أوروبا.
الشهر الماضي، وصل الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إتنو إلى مطار بودابست، مرتديا جلبابه الأبيض المميز، في زيارة دولة إلى المجر استمرت لمدة يومين. وهناك، وضع ديبي وأوربان اللمسات الأخيرة على شروط الحزمة الإنسانية، بمناسبة معاهدة الإسعافات الأولية التي أبرمتها المجر مع بلاده.
وأعلن أوربان أيضا أنه سيتم نشر 200 جندي مجري في تشاد لتدريب القوات المحلية ضد الجماعات المسلحة. وتواجه تشاد تهديدات متعددة من الجماعات التي تريد الإطاحة بديبي، بدءا من الجماعات المتمردة في جمهورية أفريقيا الوسطى التي تعمل على الحدود الجنوبية لتشاد، وحتى جماعة بوكو حرام، التي استقر مقاتلوها على طول بحيرة تشاد على الحدود مع نيجيريا.
ومن غير الواضح متى سيتم نشر القوات وإذا ما كانت ستلعب دورا نشطا أو داعما. ويتعين على الجمعية الوطنية التشادية أن توافق على هذه الخطوة، لكن هذا لم يحدث، وحتى الآن، لا يوجد جدول زمني واضح بشأن الموعد الذي سيصوت فيه المشرعون.
وفي الجمعية الوطنية المجرية، التي يسيطر عليها ائتلاف أوربان الحاكم المكون من حزبه فيدس وحزب الشعب الديمقراطي المسيحي، وافق المشرعون على الاتفاقية الأمنية عندما تم تقديمها لأول مرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بأغلبية 140 صوتا مقابل 30.
وبالإضافة إلى الانتشار العسكري، قالت المجر إنها “بدأت” تحويل مبلغ إضافي قدره 14 مليون يورو (15 مليون دولار) من مساهماتها في مرفق السلام الأوروبي إلى تشاد. ويسمح صندوق الطوارئ الأوروبي، الذي تم تشكيله عام 2021، لأعضاء الاتحاد الأوروبي بتجميع المساهمات وتقديم المساعدات العسكرية بشكل مشترك للدول الشريكة.
وقد ذهب جزء كبير من التمويل إلى أوكرانيا رغم أن أوربان -حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يشن حربا في أوكرانيا- أحبط مرارا وتكرارا جهود أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين لإرسال مزيد من الأموال إلى كييف.
وطلبت المجر رسميا في سبتمبر/أيلول الماضي من أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين الموافقة على عمليات نقل المساعدات إلى تشاد. ولا توجد موافقة صريحة ولم تنضم الكتلة الأوروبية بعد، لكن في ذلك الوقت قال أوربان إن المجر تتوقع انضمام أعضاء آخرين إليها.
“التقاء الاستقرار والصراع”
خلال زيارة ديبي في سبتمبر/أيلول الماضي، قال أوربان إن الهدف من التعاون التنموي والعسكري مع تشاد هو وقف الهجرة من أفريقيا، وهي ظاهرة تعدها عديد من الدول الأوروبية تهديدا وسط ارتفاع مستويات الهجرة في السنوات الأخيرة.
وقالت بيفرلي أوتشينغ، المحللة في شركة كونترول ريسكس، وهي شركة استخبارات مقرها في المملكة المتحدة، “لقد بدا الأمر وكأنه خيار عشوائي إلى حد ما، ولكن عند النظر إلى الماضي، كان الأمر منطقيا بالفعل”.
وأضافت للجزيرة أن “تشاد لديها أحد أقوى الجيوش في المنطقة. ورغم التهديدات التي تواجهها، فإن الحكومة تحافظ على استقرار قوي وقبول قوي للجيش هناك”.
في العقد الماضي، واجهت منطقة الساحل -وهي المنطقة التي تقع تحت الصحراء الكبرى- مستويات متزايدة من العنف من جانب الجماعات المسلحة، ونتيجة لذلك، كانت الهجرة.
وفي مالي وبوركينا فاسو في منطقة الساحل الغربي، تسيطر الجماعات المسلحة على مساحات من الأرض بينما تواجه النيجر أيضا تهديدات متزايدة. ورغم أن الجيوش هناك استولت على السلطة في انقلابات وطردت القوات الأجنبية -بما في ذلك القوات الفرنسية والأميركية وقوات الاتحاد الأوروبي- فإنها أخفقت إلى حد كبير في الوفاء بوعودها باستعادة السلام.
تواجه تشاد ضغوطا من الصراعات في البلدان المجاورة، لكنها لا تزال آمنة إلى حد كبير، بعد أن دُفعت الجماعات المتمردة التشادية إلى الهامش بعد مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي عام 2021.
وتستخدم عديد من منظمات الإغاثة البلاد قاعدة للاستجابة للأزمة في السودان. وتتوافق الصفقة الجديدة مع طموحات أوربان. ولطالما دعا رئيس الوزراء إلى فرض ضوابط أكثر صرامة على الأشخاص القادمين إلى الاتحاد الأوروبي.
ففي يوليو/تموز، تولت المجر الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، مما سمح لأوربان بتعزيز أجندته، إذ ضغط هذا الأسبوع على الاتحاد لتقديم طلبات اللجوء في دول خارج الكتلة.
صراع على النفوذ؟
وقال بعض المحللين إن أوربان ربما يسعى أيضا للانضمام إلى لعبة القوة المستمرة في أفريقيا، حيث التنافس على النفوذ من طرف القوى الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي.
إن الموارد الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها القارة، وتزايد عدد السكان، والوزن الجماعي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تجعلها جذابة. وقد استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التداعيات بين فرنسا وحلفائها السابقين في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
ومع انسحاب القوات الفرنسية والغربية الأخرى من منطقة الساحل منذ عام 2022، انتقلت إلى هناك قوات فاغنر شبه العسكرية الروسية، التي تسمى الآن “فيلق أفريقيا”، وتوجد القوات الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ عام 2018، وتتمثل مهمتها في دحر الجماعات المسلحة وحماية الرئيس فوستان آرشانج تواديرا.
وكشفت تحقيقات -أجرتها صحيفة لوموند الفرنسية- عن أن غاسبار أوربان، نجل رئيس الوزراء المجري، كان أحد الدبلوماسيين الذين قاموا برحلات مكوكية بين تشاد والمجر العام الماضي. وقد أثار هذا تكهنات حول نهاية لعبة أوربان الأب، إذ تساءل البعض عما إذا كانت الصداقة الجديدة مع تشاد تهدف إلى تأمين فوائد خاصة لرئيس الوزراء.
وتجدر الإشارة إلى أن أوربان الأصغر ليس مسؤولا حكوميا ولم يقم في السابق بمهام دبلوماسية.
صورة ديبي في الداخل
من جهتها، تقول أوتشينغ إن التباهي بصديق عسكري أوروبي جديد يمكن أن يساعد الرئيس الحالي ديبي على تعزيز مصداقيته على الجبهة الداخلية، وهو الأمر الذي ناضل من أجل القيام به منذ توليه السلطة بعد وفاة والده الرئيس إدريس ديبي في أثناء قيادة الجنود في ساحة المعركة ضد جماعة متمردة.
وبموجب القانون التشادي، كان من المفترض أن يتولى رئيس البرلمان السلطة، لكن ديبي الأصغر سنا، وهو جنرال عسكري بـ4 نجوم، شكل مجلسا عسكريا لقيادة البلاد. واتهمه منتقدوه بتنفيذ انقلاب في القصر، وشكك أعضاء حزب المعارضة في تشاد في مطالبة ديبي بالرئاسة.
عندما خرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج في أكتوبر/تشرين الأول 2022، قتلت قوات الأمن أكثر من 200 متظاهر. ورغم أن ديبي مضى قدما في تنظيم الانتخابات والفوز بها مايو/أيار الماضي، فإن تساؤلات حول شرعيته لا تزال قائمة، ويبدو أن الحكومة قلقة من احتمال حدوث انقلاب من جانب الجيش أو جماعات المعارضة.
وأثار استيلاء ديبي على السلطة وفشل حكومته في إدانة قوات الدعم السريع شبه العسكرية في السودان غضب النخب العسكرية والسياسية. ويشترك كثيرون في أصولهم مع قبائل الزغاوة في دارفور، حيث تكثر التقارير عن مذابح قوات الدعم السريع وانتهاكات حقوق الإنسان.
وفي فبراير/شباط، قال الجيش التشادي إن زعيم المعارضة يايا ديلو (وهو ابن عم ديبي) شن هجوما على مقر الجيش. وأدى تبادل إطلاق النار الناتج إلى مقتل ديلو وعديد من أعضاء حزبه. وقالت أوتشينغ للجزيرة إن أكبر التهديدات هي تلك الانقسامات الداخلية. وأضافت أنه “لسوء الحظ، هذا ليس شيئا يمكن للقوات المجرية المساعدة فيه حقا. في حالة حدوث انقلاب أو شيء من هذا القبيل، وهو أمر غير مرجح، سيضطر هؤلاء الجنود إلى الانتظار والرؤية ماذا سيحدث بعد ذلك”.
ومع ذلك، فإن المساعدة العسكرية الإضافية من المجر أو أي مكان آخر يمكن أن تساعد ديبي في تعزيز صورته لدى الجيش، صاحب القوة المطلقة في تشاد.
وقالت أوتشينغ إن هذه المساعدة توفر أيضا مزيدا من النفوذ على المستوى الدولي، حيث تعمل نجامينا على تقديم نفسها طرفا محايدا في التوترات بين روسيا والغرب.
وتعد تشاد حاليا المرسى الوحيد لمنطقة الساحل للغرب بعد التداعيات بين فرنسا وتلك الدول.
وينتشر نحو ألف جندي فرنسي في تشاد إلى جانب نحو 100 جندي أميركي رغم أن الخلاف حول العمليات الأميركية دفع السلطات في مايو/أيار إلى طرد بعض الوحدات الأميركية.
واعتبر المسؤولون الأميركيون عمليات الطرد بأنها مؤقتة. ويقول الخبراء إن هناك قلقا كبيرا في الدول الغربية بشأن المدة التي سيستمر فيها جنودهم في تشاد. وقد عزز ذلك زيارة ديبي في يناير/كانون الثاني إلى الكرملين، حيث عرض بوتين “المساعدة الأمنية”، ورحلة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تشاد في يونيو/حزيران.
وفي الوقت نفسه، لم تتردد تشاد في اعتقال 4 روس اعتبرتهم خطرين على أمنها في سبتمبر/أيلول عندما وصلوا إلى نجامينا لأسباب غير واضحة. منهم اثنان (مكسيم شوغاليغ وسامر سويفان) معروفان بأنهما يعملان ضمن آلة الدعاية لموسكو في الدول الأفريقية، وسبق أن اعتقلا في ليبيا. وقالت أوتشينغ “كان هذا هو قول ديبي: لن نتسامح مع وجود روسي أكثر إثارة للجدل في بلادنا”.