موسكو– تخطت أحداث غزة والحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع ملف الحرب الأوكرانية، من حيث الأهمية وحجم التغطية لدى وسائل الإعلام الروسية، وذلك لأول مرة منذ عامين تقريبًا، أي منذ انطلاق ما تسميها روسيا “العملية العسكرية الخاصة”.
وأصبح من اللافت كثافة متابعة وسائل الإعلام الروسية التطورات في غزة على مدار الساعة، لكن الملاحظ بشكل أكبر هو حجم تفاعل المواطنين العاديين مع هذه الأحداث، لا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعد ظاهرة غير مسبوقة في تناول أحداث تدور خارج روسيا والفضاء السوفياتي السابق عمومًا أو خارج أحدهما.
سقوط سردية الدفاع
بالموازاة مع ذلك، تراجعت بسرعة السردية التي روجت لها بعض وسائل الإعلام الروسية في بداية الأحداث، والتي حاولت الإيحاء بأن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي التي بدأت الحرب على إسرائيل، وأن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس، إذ اتجهت البوصلة بعد ذلك إلى تسليط الضوء على “تحيز” وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل والتغطية على الجرائم التي تقوم بها ضد سكان القطاع والبنى التحتية.
ومن الجدير بالذكر كذلك أن وسائل الإعلام في روسيا ركزت على هذه المعطيات لأسباب عدة، من بينها توضيح منطلقات الموقف الروسي وأسبابه، لا سيما في أروقة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى، إضافة إلى كشف انحياز وسائل الإعلام في الغرب لإسرائيل، وفي ثنايا ذلك أعطت “أدلة جديدة” على أن هذه الوسائل كانت على الدوام منحازة في تغطيتها للحرب لصالح كييف.
لكن المقاربة والتفاعل يبدوان أكثر قوة بعيدًا عن وسائل الإعلام الرسمية، حيث القيود والاعتبارات السياسية، تحديدًا في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى ساحة حرب رقمية حقيقية بين المؤيدين للفلسطينيين من جهة والمؤيدين لإسرائيل من جهة أخرى.
وتشير عينات كثيرة من المواد المنشورة وحجم التعليقات وتوجهاتها على هذه الوسائل إلى أن نسبة التأييد للفلسطينيين تزداد بشكل واضح وباتت هي الأكبر.
ولا ينحصر ذلك في مواقف سكان الجمهوريات ذات الأغلبية الإسلامية في روسيا، حيث تجاوزت أشكال التضامن مع الفلسطينيين هامش التفاعل المعنوي والخطابي والتعليقات المؤيدة، لتنتقل إلى أشكال جديدة ميدانية، بل وفي مواقف شرائح واسعة من المواطنين الروس غير المسلمين.
أسباب التغير
من جانبه، يوضح محلل الشؤون السياسية سيرغي بيرسانوف التغير في الرأي العام الروسي لمجموعة من الأسباب، أبرزها الدور الذي لعبته المقاطع “الفظيعة” التي تظهر وحشية الجيش الإسرائيلي في التعدي على المدنيين واستهداف البنى التحتية، لا سيما المستشفيات ودور العبادة، التي لا يمكن للعقل تقبلها في أي حال من الأحوال، حسب تعبيره.
ويشير بيرسانوف، في حديث للجزيرة نت، إلى أن الأجيال الأكثر تقدمًا في السن تملك معرفة “أوسع” بالتاريخ وقدرة أكبر على فهم الأحداث السياسية، بحكم أنها عايشت مرحلة الدعاية الإعلامية السوفياتية، التي كانت على مدى عقود معادية للصهيونية ومؤيدة للقضية الفلسطينية.
ومن بين الأمور التي أشار إليها المحلل السياسي نفسه موقف إسرائيل من الحرب في أوكرانيا والتردي غير المسبوق في العلاقات بين موسكو وتل أبيب الذي نشأ نتيجة له، والذي لم يعد سرًا أو من “المحرمات”.
ويأتي ذلك على الرغم من أن أغلب العاملين في الصحافة الروسية من جيل مرحلة “التسعينيات” المقربين فكريًا إلى المواقف الغربية، حسب المحلل الروسي الذي أشار أيضا إلى أصحاب “المواقف القومية المسبقة” الذين شكلوا لسنوات طويلة حاجزًا أمام معرفة المتلقي الروسي لحقيقة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، و”قاموا بخلط متعمد وغير بريء، استمر لسنوات طويلة، بين حركات التحرر الوطني والمنظمات الإرهابية”.
تقرير المصير
وفي الحديث عن أشكال التفاعل الشعبي في روسيا مع الأوضاع في غزة، لا بد من الإشارة إلى قيام أفراد ومجموعات روسية بترجمة أفلام وثائقية ومقابلات مع مسؤولين وخبراء عرب وأجانب من لغات أجنبية إلى اللغة الروسية تتناول وتوضح المسار التاريخي لنشوء الاحتلال الإسرائيلي.
وتظهر نماذج من التعليقات اعتراف أعداد كبيرة من المشاركين بأنهم -لأول مرة- يطلعون على وجهات نظر وحقائق تخالف تلك التي نشؤوا عليها في السابق، والتي كانت في جلها شبه متطابقة مع الرواية الإسرائيلية.
ويشير الباحث في علم النفس الاجتماعي فلاديمير كوشول، في حديثه مع الجزيرة نت، إلى مجموعة من الأسباب أسهمت في التأثير على رأي المتلقي العادي وصياغة مواقفه، من بينها ما يتعلق بمبدأ حق تقرير المصير، إذ إن أغلبية الروس -وفق تقديره- ترى أن ما يعانيه أهالي قطاع غزة يلتقي في هذه الجزئية مع ما كان يعانيه لسنوات طويلة سكان الدونباس، ومن ثم فإن مقاومة أهالي القطاع للاحتلال تعد شرعية من وجهة نظر هؤلاء.
“عدو عدوي صديقي”
ويلفت فلاديمير كوشول كذلك إلى “السقوط المهني والأخلاقي لوسائل إعلام غربية”، وكيف ترك بصماته على المتلقي الروسي، الذي تمثل في بث أخبار ومقاطع فيديو مزوّرة أو مغلوطة، مثل الزعم بقيام عناصر المقاومة بقطع رؤوس أطفال إسرائيليين، قبل أن يتكشف أن الحادثة عبارة عن تزوير حقائق وسياسة منهجية لدى تلك الوسائل، تسببت ليس في تورط رئيس أقوى دولة في العالم (جو بادين) بتصديق أكاذيب فقط، بل في فقدان مصادر الأخبار الغربية مصداقيتها.
علاوة على ذلك، يعتقد كوشول أن ربط وسائل الإعلام الأوكرانية والغربية على حد سواء بين الحرب في غزة والحرب في أوكرانيا لعب دورًا عكسيا لدى المتلقي الروسي “المحايد أو اللامبالي”، الذي بات جزء منه ينطلق في الموقف من الأحداث في غزة من مقولة “عدو عدوي صديقي”.