يعتبر لجوء الإدارة الأميركية إلى تعليق أو إبطاء إرسال بعض شحنات الأسلحة لإسرائيل هو الإجراء الثاني من نوعه في تاريخ العلاقة بين الجانبين، وسبق أن فرض الرئيس رونالد ريغان عام 1982 حظرا مؤقتا على توريد طائرات، وحظرا لمدة 6 سنوات على مبيعات القنابل العنقودية لإسرائيل بعد أن توصل تحقيق أجراه الكونغرس إلى أن القوات الإسرائيلية استخدمتها في مناطق مأهولة بالسكان خلال حرب لبنان.
ويأتي الإجراء الأميركي بعد سلسلة طويلة من التحذيرات التي لم تستجب لها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وتعتبر هذه الخطوة رسالة سياسية أكثر منها خطوة ذات قيمة عملية، فهي تتعلق بتجميد إرسال شحنة تتكون من نوعين من القنابل، الأولى 1800 قنبلة زنة الواحدة منها ألفا رطل أي (907 كيلوغرامات)، والثانية 1700 قنبلة تزن الواحدة منها 500 رطل أي (حوالي 226 كيلوغراما).
وقد استخدمت إسرائيل هذه القنابل والقنابل التوجيهية المرافقة لها التي تجعلها ذكية بشكل واسع في غزة، وأدت لاستشهاد آلاف الفلسطينيين، ومن أمثلتها القنبلة التي ألقيت على المستشفى المعمداني.
ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من القنابل التي أُسقطت على قطاع غزة أميركية الصنع، في حين يؤكد خبراء الأمم المتحدة أن “الضغط الناتج عن انفجار هذه القنابل التي استخدمها الكيان بكثافة في غزة قادر على تمزيق الرئتين وتفجير تجاويف الجيوب الأنفية وقطع الأطراف على بعد مئات الأمتار من موقع الانفجار”، وهو الأمر الذي أدى في السابق إلى انتشار مناظر مروعة للمدنيين الفلسطينيين.
تراجع إدارة بايدن
ومن المهم الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية عادت وتراجعت بعد جملة من الاحتجاجات في الكونغرس تمت بتحريض من اللوبي اليهودي، وقالت إنها لم تتخذ قرارا نهائيا بعد بشأن شحنة الأسلحة التي تم تجميدها، مع تأكيد مسؤولي الإدارة الأميركية أن التزامهم بأمن إسرائيل ثابت ولا يتزعزع.
بل إن الرئيس جو بايدن طلب من كل الإدارات والمؤسسات الأميركية أن تبذل ما في وسعها لضمان أن تهزم إسرائيل حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وتزامنت هذه الخطوة مع تقرير صدر عن الخارجية الأميركية، بمساهمة من البنتاغون والبيت الأبيض، أكد أن شبهة مخالفة القوات الإسرائيلية القوانين الأميركية والدولية والإنسانية باستخدام السلاح الأميركي “ليست مؤكدة”.
وزيادة في تجهيل القرار وتمييعه لتجنب إدانة إسرائيل، زعم التقرير أن الإدارة الأميركية لم تتوفر لديها “المعلومات الكافية” للتأكد مما إذا كانت إسرائيل استخدمت الأسلحة الأميركية في هذه الانتهاكات.
ورغم أن هذا التقرير حاول استرضاء الكيان، والتخفيف من قرار حظر بعض أنواع الأسلحة، فإنه يتناقض مع الإقرار الصريح للرئيس الأميركي -في مقابلته مع شبكة سي إن إن- بأن الاحتلال استخدم الأسلحة الأميركية لقتل المدنيين بغزة.
ولا يتناسب ذلك أيضا مع تجاهل نتنياهو المستمر لتحذيرات الإدارة الأميركية، ولمحاولات بايدن لثني إسرائيل عن اجتياح رفح، والتوقف عن الاستهداف المكثف للمدنيين، والتجاوب مع الخطة الأميركية لما بعد الحرب، ودعم قيام دولة فلسطينية كخطوة سياسية تنهي الصراع القائم وتدخله في مسار التطبيع.
دعم لا محدود
ولا تؤثر هذه الخطوة المحدودة على الدعم الأميركي المستمر للاحتلال خلال حرب غزة، إذ وافقت إدارة بايدن منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي على أكثر من 100 صفقة سلاح وسلمتها لإسرائيل بأوامر تنفيذية دون أن تمر على الكونغرس، بما فيها آلاف الذخائر الموجهة، والقذائف الخارقة للتحصينات، وغيرها من المساعدات الفتاكة.
كما وافق الكونغرس مؤخرا على تمويل عسكري طارئ بقيمة 26 مليار دولار لإسرائيل، بالإضافة لوجود مساعدات إستراتيجية عسكرية للكيان بقيمة 3.3 مليارات دولار سنويا، إضافة إلى 500 مليون دولار لتمويل الدفاع الصاروخي.
ويؤكد كل ذلك أن الإدارة الأميركية، التي تشارك فعليا الاحتلال في حربه على غزة، لن تقوم بأي إجراء يؤثر بشكل واضح على إمدادات السلاح الأميركي لإسرائيل.
إن ما يجري هو محاولة من الإدارة الأميركية لضبط مسار الحرب بما لا يتعارض مع مصالحها في المنطقة، ولا يضعف مكانة الرئيس بايدن في الانتخابات الأميركية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
خلفيات وتعقيدات
تتفق الولايات المتحدة وإسرائيل على أهداف الحرب على غزة، وهي القضاء على حماس واستعادة الأسرى وضمان ألا يشكل قطاع غزة تهديدا على إسرائيل.
ولكن مسار الحرب أثبت أن جيش الاحتلال أخفق في تحقيق مهمته في القضاء على حماس رغم المهل المتعددة التي منحته إياها الإدارة الأميركية، حيث باتت هذه الإدارة مقتنعة بأن مهمة القضاء على حماس مهمة مستحيلة.
لذا، فإنها ستكتفي بإضعاف الحركة وإدماجها في معادلة فلسطينية لا تكون هي القائدة فيها مع تسيسيها وإبطال مفعول مقاومتها، بحيث يتم هذا الأمر من خلال تمكين السلطة الفلسطينية ودعمها، وهو ما أُطلق عليه خطة ما بعد الحرب، على أن تركز قوات الاحتلال في المرحلة الحالية على إنجاز صفقة تبادل مع حماس تؤدي إلى وقف مستدام للنار.
ويهيئ ذلك المنطقة لعملية التطبيع، مع استمرار التعاون بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية لإضعاف القوة العسكرية لحماس ومنعها من أن تشكل تهديدا مستقبليا كبيرا على إسرائيل، وأن يكون حالها كما هي حال المقاومة الآن في الضفة الغربية.
غير أن حكومة الاحتلال -بقيادة نتنياهو- لم تتوافق من البداية مع هذه الخطة، وأصرت على الاستمرار في المعركة العسكرية تحت شعار النصر الكامل الذي يرفعه نتنياهو، مدعوما بالتيار اليميني المتطرف.
فأصر نتنياهو على اجتياح رفح مهما كلف الثمن، على الرغم من تأكيد عديد من قادة الأجهزة الأمنية -بمن فيهم رئيس أركان الجيش غادي آيزنكوت– أن حماس تعود لبناء قدراتها بعد كل ضربة تواجهها، وأنه بدون الاتفاق مع سلطة بديلة تحل محلها، فإن الجيش سيبقى في دوامة من العمليات العسكرية التي لا تنتهي.
ومن هنا جاء التضارب مع الإدارة الأميركية، خصوصا مع استمرار رفض حكومة الاحتلال التجاوب مع موافقة حماس على مقترح الوسطاء لوقف إطلاق النار، وتنفيذ صفقة تبادل للأسرى على 3 مراحل حازت على دعم واشنطن في البداية.
الذهاب لرفح
وبعد التقييد المحدود لوصول بعض القنابل للكيان، قال بايدن -في مقابلة مع شبكة سي إن إن- “إذا ذهبوا إلى رفح، فلن أقوم بتزويدهم بالأسلحة التي استخدمت تاريخيا للتعامل مع المدن”، مشددا على أن “الولايات المتحدة ستواصل تقديم أنظمة دفاعية حتى تتمكن إسرائيل من صد الهجمات الصاروخية”.
وأضاف أنه “مستعد لحجب أسلحة إضافية، بما في ذلك قذائف المدفعية، إذا شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملية برية كبيرة في رفح”.
وبالوقوف عند هذا التصريح، فإنه يعني أن الإدارة الأميركية تهدد أولا بخطوة إضافية لوقف الصواريخ الثقيلة التي ذكرناها في البداية، حيث إن القرار حتى الآن تأخير وصولها فقط، كما يهدد بايدن بتوسيع الحظر ليشمل قذائف المدفعية، وهي الخطوة التي يمكن أن تضر فعلا بقدرات جيش الاحتلال إن تم تنفيذها.
ولكن يبدو أن هذا التهديد لن ينفذ، في ضوء معارضة له في الكونغرس، وعلى الأخص من قبل الجمهوريين، فضلا عن أن نتنياهو لم يقرر حتى الآن شن حملة شاملة تستهدف مدينة رفح، إذ يقوم بتقسيط وتجزيئ الهجوم إلى مراحل حتى لا يثير غضب الإدارة الأميركية.
وربما يكون هناك نوع من التنسيق بين الطرفين لتجنب التناقض والتضارب بين سياساتهما، وربما يفسر هذا ما أوردته صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مصادر من أن الولايات المتحدة عرضت على إسرائيل “تقديم مساعدة قيمة إذا تراجعت عن غزوها الواسع لمدينة رفح، تشمل تقديم معلومات استخبارية لتحديد موقع قادة حماس والعثور على أنفاق مخفية، وبناء مدن خيام مجهزة للفلسطينيين الذين سيتم إجلاؤهم من رفح جنوبي غزة”.
اجتياح وقيود
ونشير هنا إلى أن المطلب الأميركي هو تجنب هجوم واسع على رفح يتضمن إيقاع خسائر فادحة بالمدنيين، وتهجير نحو 1.4 مليون ساكن في المدينة، بما يؤدي إلى إثارة الرأي العام العالمي، وزيادة حجم الاحتجاجات لدى الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، وتسعير الاحتجاجات الطلابية داخل الجامعات بما يضر بفرص بايدن الانتخابية. كما أن أي تهديد من هذا النوع سيسعر الحملة التي يقوم بها الجمهوريون واللوبي اليهودي في الكونغرس ضد قرارات بايدن.
إلا أن تشبث نتنياهو بالسلطة واستمراره في تجاهل المطالب الأميركية سيستمر في خلق التناقضات مع الإدارة الأميركية، بل ربما راهن على سقوطها في الانتخابات القادمة، لأنه يجد أنه من الأسهل عليه التعامل مع ترامب، وإن كان هذا التعويل ربما لا يتحقق في ضوء المواقف التي أعلنها ترامب منه.
ولكن نتنياهو نفسه ليس في سعة من أمره، في ضوء معارضة قادة الأمن، وكذلك زعيم معسكر الدولة وعضو مجلس الحرب بيني غانتس، لاستمرار الحرب بهذه الوتيرة، وتأجيل بحث صفقة التبادل تتعاظم، بما يهدد استقرار الحكومة.
كما أن اتساع رقعة احتجاجات أهالي الأسرى وانضمام عدد مهم من أهالي الجنود لهم للمطالبة بوقف الحرب وإجراء عملية تبادل مع حماس، تعاظم من الضغوط الداخلية على نتنياهو الذي لا يزال يرجح كفة اليمين المتشدد في حكومته.
وربما شجع التقييد الأميركي لتسليح الكيان دولا مثل ألمانيا (الثانية في الأهمية بعد أميركا في تسليح الكيان) وبريطانيا للقيام بخطوة مماثلة قد تمثل كابحا جديدا لجموح نتنياهو.
على الأرجح أن تمضي عملية رفح قدما وعلى مراحل، ولكن خروج نتنياهو عن الخط المرسوم له أميركيا يبقى واردا لأنه رجل مغامر، بما يبقي صفقة التبادل على الرف إلى أن يحين دورها في ضوء التطورات الداخلية في حكومة نتنياهو، وتطورات العلاقة مع إدارة بايدن، ومسار الهجوم في ظل مقاومة فاعلة ستكلف الاحتلال أثمانا ربما تكون عالية، قبل أن يقرر إنهاء العدوان.