في 18 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي 2023، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تصريحاً مثيراً للاهتمام. قالت فيه “رأينا السلطة الفلسطينية تلعب دوراً بنّاءً في الحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول”.
وفي 6 من الشهر الذي سبقه، شكر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على الدور “البالغ الأهمية” الذي تلعبه السلطة في ضبط الضفة ومنعها من أن تكون جبهة اشتعال أخرى في ظل معركة طوفان الأقصى.
تُجيب هذه التصريحات بشكل مقتضب جداً عن قسطٍ لا بأس به من سؤال أين الضفة الغربية من الذي يجري؟
مع أن من يتابع تطوّرات المشهد في الضفة (أكثر من 412 شهيداً في الضفة منذ بداية الطوفان) وتحديداً في مدن الشمال منها، يعرف أنها تغلي في قدر مُغطّى، ويعرف كذلك أن هذا الغطاء سرعان ما قد يطير نتيجة الضغط. وهو أمر يدركه الاحتلال جيّداً، إذ أرسل خلال يناير/كانون الثاني الماضي وحدة دوفدوفان من المعارك في قطاع غزة إلى الضفة الغربية، ربما استجابة لتقديرات جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك” بأن الضفة على وشك الانفجار.
عوامل كثيرة، ذاتية وموضوعية، تساعد في فهم مشهد الضفة، لكنّ أيّاً منها بإمكانه الشرح أكثر ممّا بإمكان دور السلطة الفلسطينية أن يفعل.
لذا فإن السؤال الذي تحاول هذه المقالة الإجابة عليه هو:
ما الدور الذي لعبته السلطة في ضبط حالة المقاومة ومحاولة منع تطوّرها؟ وكيف عملت وتعمل خلال الطوفان على السيطرة على المشهد ومنعه من الانفجار؟
لقد تدرّجت وتنوّعت السياسة التي تعاملت بها السلطة مع مجتمع الضفّة الغربية خلال الطوفان، انطلاقاً من مداراتها واحتوائها غضب الشارع قبل تنفيسه، ثمّ القمع المفرط لمن جرّب التعبير عن غضبه سلميّاً ولم يستجب للسياسة الأولى، وصولاً إلى السعي لتفكيك وضرب بنى المجموعات المسلحة التي تنشط في عدة مناطق في الضفّة.
أولاً: سياسات الاحتواء والتنفيس
بعد أكثر من أربعة أشهر على تعطّل نحو 200 ألف عامل من الضفة الغربية عن العمل في مستوطنات الاحتلال ومدنه، وعلى تراكم رواتب نحو 4 أشهر ونصف لأكثر من 140 ألف موظف عمومي في السلطة الفلسطينية، التقى سرّاً في 7 فبراير/ شباط الماضي أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، برئيس جهاز الأمن القومي الإسرائيلي ورئيس الشاباك ومنسق أعمال الحكومة الإسرائيلي في الضفة الغربية.
كالعادة، وكما هو واضح من الرُتب الإسرائيلية الحاضرة، فلم يجرِ مع ظلّ رئيس السلطة الفلسطينية نقاش سياسيّ، بل طلب الإسرائيليون وبكل وضوح مَهمة أمنية من السلطة تقتضي منع التصعيد في الضفة الغربية قبل شهر رمضان؛ الشهر الذي ترتبك السياسات الإسرائيلية أمامه.
أما حسين الشيخ، فقد طلب بالمقابل “توسعةً” اقتصادية، محورها الأساسي السماح بعودة عمّال الضفة إلى الداخل المحتل، كجواب على سؤال انفجار الأوضاع في الضفة، وهو ما وعد الإسرائيليون بالتعامل معه.
هكذا، فإنّ القِربة المضغوطة التي تُدعى الضفة الغربية، ستعمل السلطة ومن ورائها “إسرائيل” على تنفيسها قليلاً، بحلول على شكل “تسهيلات” اقتصادية. هذا بعد أن لم تجد نفعاً دعوة رئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل محمد اشتية عمّال الداخل المحتل بالتوجّه نحو الأرض، بعد أن سأله مذيع “تلفزيون فلسطين” في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2023 عمّا إذا ما كان لدى السلطة خطط لاستيعاب هؤلاء العمّال في السوق الفلسطيني، فأجابه: “العمال الذين كانوا يعملون في إسرائيل، يعودوا للزراعة في الأرض… نذهب جميعنا إلى الأرض للزراعة، لأن هذه فرصة تاريخية أن نأكل ممّا نُنتج”.
لكن هذه “الفرصة التاريخية” بحسب اشتية لم يرها العمّال كذلك، فهم يعلمون أنّ النسبة الأكبر من الأراضي في الضفّة الغربيّة (61% = مناطق “ج”) يجري بشكل يومي سرقتها والعربدة عليها وتهديد من يعمل فيها من قبل المستوطنين، كما يمنع الاحتلال أي تطوير يقوم به أهلها فيها، ومن ضمن ذلك الزراعة، دون أن تفعل السلطة شيئاً تجاه ذلك.
وبحسب منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية، وافق الاحتلال من عام 2009 وحتى عام 2018 على 98 رخصة فقط لأغراض السكن والصناعة والزراعة وخدمات البنى التحتية. ووفق منظمة “بمكوم – مخططون من أجل حقوق التخطيط” الإسرائيلية، فإنه بين عامي 2016 و2020 صودق على 24 رخصة فقط.
وبحسب منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية، فإن الذرائع الإسرائيلية لمنع الفلسطيني من استخدام أرضه تتنوع بين الحجج التالية: “أراضي دولة” – نحو %35 من المنطقة (ج)، مناطق تدريبات عسكريّة (مناطق إطلاق نار) – نحو %30 من المنطقة (ج)، محميات طبيعية وحدائق وطنية – نحو %14 من المنطقة (ج)، أو مناطق نفوذ تابعة للمستوطنات – نحو %16 من المنطقة (ج)”.
هذا الواقع الذي تمشي “إسرائيل” في خطه على قدم وساق، تحاول السلطة احتواءه بخطابات شعبويّة لا يمكن تنفيذها، أو بطلبات “تسهيل اقتصاديّ” تزيد من التبعية للاحتلال، وذلك في سياق ألا تلتحق الضفّة بحرب الطوفان.
مع ذلك، وتجنّباً للصدام ما أمكن، لم تأت رياح السلطة بالاتجاه المعاكس لسفينة الناس المؤيدة للطوفان، بل جرت في اتجاههم قبل أن تعمل على قيادة الوجهة. فمثلاً؛ لم تمنع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة للسلطة الخطابة عن غزّة والحرب الواقعة عليها، ولكنها حاولت ضبط ذلك وتوجيهه. إذ عمّمت مواضيع خُطب الجمعة بما يضمن التطرّق للحرب وأهوالها دون التطرّق لواجب التحرّك، حتّى أنها منعت عدداً من الأئمة عن خطبة الجمعة بسبب لغة الاستنهاض في خطبهم للمصلين، واكتفت وركزت في بدايات الطوفان على جمع التبرعات والدعاء لغزّة والصلاة على أرواح الشهداء.
لم تلغ السلطة فاعلية المسجد ودوره في تثوير الناس فحسب، بل ألغت أيضاً فاعلية أداة الإضراب. فبعد كل ارتقاء لشهيد في محافظة من محافظات الضفة، كانت تسارع السلطة عبر أذرعها إلى إعلان الإضراب، والذي كان يعني إغلاق المحال التجارية وجلوس الناس في بيوتها، فلم يكن يُرافق هذه الإضرابات أدنى نوع من الأنشطة والبرامج الوطنية العامة، فيما بدا كتشتيت وتنفيس لطاقة الناس وغضبها. كما استطاعت أن تحتوي حالة شلل الحياة الجامعية؛ وهي مصانع المواجهة مع الاحتلال، بتحويلها إلى نظام التعليم الإلكتروني.
أما ما تبقى للناس من مساحة التظاهر، فعملت السلطة تحت مسمى “القوى الوطنية” على احتواء الغضب الشعبي عبر تنظيم مظاهرات دورية ضمت خلالها مختلف الفصائل في مختلف محافظات الضفة، فضمنت بذلك توحيد الخطاب والشعارات وبقاء المظاهرة ضمن الحدود المقبولة للسلطة. وهي لما فعلت ذلك، حوّلت التظاهر إلى فعل روتينيّ مفرّغ من مضمونه، أقرب للمهرجان الفلكلوري من أي شيء آخر.
في المحصلة، لم تدخل السلطة بالعموم في صدام مع سكّان الضفة الغربية، بل استخدمت سياسات ناعمة للاحتواء والتنفيس، تُقدّم نفسها من خلالها كراعية لآمال الناس وطموحاتها، وفي الوقت نفسه تضمن عدم هبّتهم وخروجهم عن النظام نحو إشعال جبهة جديدة تُشغل “إسرائيل”.
ثانياً: يوم الدموع الأكبر
في مساء 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، الموافق لليوم الحادي عشر على حرب الإبادة، امتلأت سماء مدن الضفّة الغربية بالغاز المسيل للدموع. خرجت الناس، عائلاتٌ وشباب، في تظاهرات بأعداد كبيرة عمّت مدن الضفة، تنديداً بمجزرة الاحتلال الإسرائيلي في مستشفى المعمداني، والتي راح ضحيّتها نحو 500 شهيد. كانت مشاعر الغضب والحزن ظاهرة في وجوه الناس الذين توافدوا إلى مراكز المدن، وحدهم عناصر أجهزة الأمن الفلسطينية كانوا متسمّرين في صفوف استعداداً للقمع.
وفي هذا الوقت الذي ضاق فيه الأوكسجين على المتظاهرين في شوارع الضفّة، نتيجة عمليّات الكرّ والفرّ من الرصاص الحي والقنابل الصوتية وقنابل الغاز التي تطلقها الأجهزة الأمنية، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورجاله في العاصمة الأردنية في لقاء مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يُرتبون لقمّة رباعية، غير أنه أوقف زيارته هذه وعاد من فوره إلى مقر المقاطعة في رام الله بسبب المجزرة، وخطب في زمرته لمدّة سبع دقائق وعشرين ثانية فقط!
استمرّت مظاهرات المعمداني في الضفة لعدّة أيام، لم توفّر الأجهزة الأمنية فيها شيئاً من أساليب القمع المفرط. وبحسب “الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان”، وخلال أقل من أسبوعين، كانت السلطة قد قتلت 4 فلسطينيين في سابقة لم تلق احتجاجاً جاداً. كانت الأولى طفلة بعمر 12 عاماً، أصابها رصاص الأجهزة خلال تظاهرة سلمية في جنين، وكان الثاني في جنين أيضاً؛ شاب بعمر 20 عاماً. أما الثالث فشابٌ بعمر 18 عاماً، دهسته مركبة الأجهزة الأمنية المصفحة خلال تظاهرة سلمية في رام الله. والرابع شابٌ بعمر 19 عاماً، أصابه رصاص الأجهزة الأمنية خلال تظاهرة سلمية في طوباس.
وخلال أسبوع تقريباً، كانت أجهزة أمن السلطة قد اعتقلت في رام الله وحدها أكثر من 100 متظاهر. يقول المحامي مهند كراجة، مدير “محامون من أجل العدالة”في حديث للجزيرة نت إن نحو 50 منهم فقط حوّلوا للمحاكمة، فيما أفرج عن الجميع لاحقاً بكفالات مالية، ومنهم من تستمر محاكمته حتى الآن. وقد رُصد تعرّض المعتقلين للتعذيب وسوء المعاملة، أما تهم الاعتقال فقد تنوعت بين “الاعتداء على الممتلكات العامة” و”إثارة النعرات الطائفية” و”الذم الواقع على السلطة”.
ويشير كراجة إلى أن الاعتقالات على خلفية التظاهرات عمت مختلف محافظات الضفة الغربية، ولكنها تركّزت في رام الله، التي أطلقت فيها الأجهزة الأمنية مثلاً النار بشكل مباشر على الطالب ضياء زلوم خلال محاولة اعتقاله في واحدة من المظاهرات المنددة بالعدوان على غزة.
ينبّه كراجة أيضاً إلى تركيز الاعتقالات في نابلس على خلفية النشاط السياسي والتعبير عن الرأي، تحديداً بين صفوف الطلبة الجامعيين، وهو ما يتفق مع تقرير “لجنة أهالي المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية” التي ذكرت استمرار اعتقال ثلاثة من “عصيرة الشمالية” في قضاء نابلس (حمزة وأدهم وعماد الشولي) في سجون السلطة، ومواصلة اعتقال اثنين من نفس المدينة (محمد العزيزي ومنتصر سقف الحيط) منذ أكثر من أربعة أشهر، بالرغم من صدور ثلاث قرارات قضائية بالإفراج عنهما، ومواصلة اعتقال الشاب (نزار منى) في سجن الجنيد منذ نحو أربعة أشهر رغم حصوله أيضاً على قرار قضائي بالإفراج عنه.
بالإضافة إلى ذلك، استخدمت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، بحسب شهادة للجزيرة نت، أسلوب الضغط على الأهالي وتهديدهم بالغرامة المالية وتخريب المنازل، وذلك لإجبار أبنائهم على حذف المنشورات المكتوبة الداعمة للمقاومة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولم يكن هذا القمع وليد الطوفان، فسنة 2023 كانت مليئة باعتداءات أجهزة السلطة الأمنية بحقّ سكّان الضفة. وبحسب التقرير السنوي لـ”لجنة أهالي المعتقلين السياسيين – الضفة الغربية”، فإن السلطة قامت خلال هذا العام بـ 3062 انتهاكاً، وهو ما عنى في جزء منها: 5 حالات قتل، و900 حالة اعتقال، وأكثر من 500 حالة قمع للحريات، و277 حالة ملاحقة وقمع مظاهرات وانتهاكات أخرى. وقد طال ذلك جميع الشرائح الاجتماعية الفاعلة في الضفة، حتى طلبة المدارس الذين اعتدت أجهزة السلطة على 17 منهم.
هكذا، وفي ظلّ غياب أي تنظيم اجتماعيّ وسياسيّ للناس في الضفة، قضت السلطة مُبكراً على إمكانية تطور الاحتجاج الشعبي، والذي كان سيشكل نوعاً من أنواع الضغط على الاحتلال، الذي يخشى اشتعال الضفة وخروجها عن السيطرة. وهي بذلك لم تحتج إلى مجهود كبير، حيث قام الجيش الإسرائيلي بأخذ مهمة اعتقال الناشطين والمحسوبين على فصائل المقاومة على عاتقه، فمنذ أول يوم في الطوفان وحتّى 6 فبراير/شباط الماضي اعتقل الاحتلال 6870 فلسطينيّاً من الضفة، بحسب “نادي الأسير الفلسطيني.
ثالثاً: العبوة تحتاج إلى سلطة تفكّكها
في عام 2016، صرّح رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج في مقابلة صحفية مع موقع “ديفينس نيوز”، أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية أحبطت خلال أقل من أربعة أشهر 200 هجوم محتمل ضد “إسرائيل” واعتقلت أكثر من 100 فلسطيني. هذه الأجهزة التي يتفاخر بها فرج، يصل عدد عناصرها إلى حوالي 65 ألفاً، أي بواقع عنصر أمن لكل 49 فلسطينيّ تقريباً.
هذا التصريح النادر على لسان أحد رجالات السلطة، يُشكّل مفتاحاً لفهم الاهتمام الأميركي والأوروبي بالسلطة الفلسطينية ودورها في ما يسمونه “اليوم التالي للحرب”. فقبل أقل من شهر على الطوفان، وفي سياق توسع نشاط المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، أرسل الأميركيون للسلطة الفلسطينية مجموعة من المدرّعات والأسلحة، بلغت بحسب وسائل إعلام إسرائيلية ما لا يقل عن 1500 قطعة سلاح، منها أسلحة إم 16 موجهة بالليزر وكلاشينكوف، و10 مركبات مصفحة لفض التظاهرات.
ليس المستوى الدولي فحسب، فتصريحات الساسة الإسرائيليين تعبّر كذلك عن الحاجة الأمنية للسلطة الفلسطينية. فهذا وزير الدفاع في حكومة طوارئ الحرب يوآف غالانت، يقول في سياق تقييم الوضع الأمني للضفة الغربية خلال “طوفان الأقصى”، إن وجود “سلطة فلسطينية قوية هو مصلحة أمنية إسرائيلية”. وفي وقت سابق على الطوفان، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “نحن بحاجة للسلطة الفلسطينية.. لا يمكننا تركها تنهار”، وصرّح بيني غانتس: “نحن بحاجة للمحافظة على العلاقة مع السلطة من أجل أمننا”.
وفي هذا السياق، شنت السلطة حملتها على أكثر ما يهدد أمن جيش الاحتلال عند اقتحامه المدن والمخيمات الفلسطينية؛ العبوات المتفجرة. إذ رُصد خلال معركة “طوفان الأقصى” تفكيكها أكثر من مرة لعبوات في مدينة جنين وبلدة عزون شرق مدينة قلقيلية، فمثلاً؛ فككت الأجهزة الأمنية في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي 3 عبوات متفجرة كبيرة الحجم في بلدة عزون، مع مصادرتها لمجموعة من القنابل محلية الصنع، وهي عبوات وقنابل يجهزها المقاومون للتصدي لاقتحامات جيش الاحتلال.
ليس تفكيك العبوات أمراً جديداً على السلطة، ففي 30 آب/ أغسطس 2023، أزالت الأجهزة الأمنية عبوات ومتاريس كانت تضعها “كتيبة طولكرم” في المخيم للتصدي لقوات الاحتلال، مما أدى لنشوب مواجهات بين شبان المخيم والأجهزة الأمنية أسفرت عن مقتل شاب برصاص السلطة. وفي عام 2018، اكتشفت السلطة حقلاً من العبوات الناسفة التي كانت مزروعة على طريق “علار” في مدينة طولكرم، فيما يبدو أنها كانت مجهزة للانفجار ضد دوريات جيش الاحتلال.
كما اتهمت كتيبة جنين بداية عام 2024 أجهزة السلطة الأمنية باغتيال أحمد هاشم عبيدي، أحد مقاتلي “كتيبة برقين”. وإضافة إلى ذلك، فإن السلطة تواصل اعتقال عدد من مقاتلي المجموعات المسلحة، كما جاء في بيانات سابقة لمجموعات مسلحة مثل “كتيبة طولكرم (الرد السريع)” و”كتيبة طولكرم – سرايا القدس”. وبحسب “لجنة أهالي المعتقلين السياسيين”، فإن السلطة كانت قد اعتدت خلال عام 2023 على 30 مطارداً للاحتلال. ولعل أبرز المعتقلين اليوم في سجون السلطة، هو مصعب اشتية من مجموعة “عرين الأسود” التي عملت السلطة على تفكيكها، والمعتقل منذ أكثر من عام، وقد جرى نقله بحسب “شبكة قدس الإخبارية” نهاية الشهر الماضي إلى العناية المركزة بسبب تدهور حالته الصحية.
واستمراراً لهذه الجهود في ملاحقة النشاط العسكري، اعتقلت الأجهزة الأمنية في 8 فبراير/شباط الماضي ثلاثة مطاردين للاحتلال من مخيم جنين، وهم: عبود الناطور ومحمد أبو عابد وقيس البيطاوي، وذلك أثناء تواجدهم خارج المخيم، وحوّلتهم إلى سجن الجنيد في مدينة نابلس بعد أن صادرت أسلحتهم. وبعدها بأيام قليلة، اعتقلت من جنين أيضاً المطاردين عدي الطروش وشريف أبو محمد بعد مصادرة أسلحتهم. كذلك، اعتقلت من مخيم الفارعة المطارد يوسف التايه. ثمّ بعدها، وتحديداً في 14 شباط من ذات الشهر، لاحقت أجهزة السلطة شباب كتيبة طوباس ومخيم الفارعة وأطلقت النار صوبهم، وهو ما أدى إلى اندلاع مواجهات.
خاتمة: صناعة العجز
خلال السنوات العشرين الماضية، عملت السلطة الفلسطينية، بقيادة عرّابي المرحلة رئيس السلطة محمود عبّاس ورئيس وزرائه سلام فياض، على إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، نتيجة لخلاصات أمريكية وإسرائيلية لضمان عدم تكرار الانتفاضة الثانية. وقد جرى التعبير عن ذلك، بتخصيص الولايات المتحدة بعد الانتفاضة الثانية (أي من 2007-2011) لأكثر من نصف مليار دولار من أجل تسليح وتذخير وتدريب 29 ألف عنصر من الأجهزة الأمنية، وقد عين لتنفيذ مهمة “إصلاح الأجهزة الأمنية” هذه الجنرال الأميركي كيث دايتون.
كان الهدف المعلن من ذلك “مواجهة وتفكيك البنية التحتية للإرهاب (المقاومة)”، بما يشمل الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية.
ومبكراً في 12 أغسطس/آب 2007، أصدر عباس مرسوماً جاء فيه: “تُحظر القوة التنفيذية والمليشيات المسلحة التابعة لحركة حماس (كتائب الشهيد عز الدين القسام) وتُعدّ خارجة عن القانون”، كما تُصادر أموالهم ويُعاقب كل من يساعد أو يُسلّح أو يُخفي أحداً منهم.
عنى ذلك على المستوى السياسي والأمني؛ ملاحقة فصائل المقاومة ومصادرة سلاحها، وكشف خلاياها العسكرية وضربها، إما بتصفية المطاردين، مثل القسّاميين محمد السمان ومحمد ياسين في قلقيلية عام 2009، وحتى تصفية الذي كان يأويهما، وإما باعتقالهم، مثل: أمين القوقا من نابلس (معتقل منذ 2007 وينتمي حماس)، وجاد حميدان من نابلس (معتقل منذ 2008 من الجبهة شعبية)، وعلاء زيود من جنين (معتقل منذ 2010 من الجهاد إسلامي)، وهادي دعدرة من بيت لحم (معتقل منذ 2011 من حركة فتح).
وعلى المستوى الاجتماعي، فقد جرى مثلاً حلّ أكثر من 90 لجنة زكاة في الضفة الغربية، وجرى معها تفكيك أكثر من 130 جمعية خيرية، بين لجان وأندية رياضية واجتماعية، والتي كانت جميعها تشكّل رافداً خيريّاً مهماً؛ اجتماعيّا واقتصاديا، لإسناد الناس وتعزيز صمودها، وذلك بتهم “الإرهاب” و”غسيل الأموال”. كما جرى في ذات الفترة، وفي عهد وزيري الأوقاف جمال بواطنة (2007-2009) ومحمود الهباش (2009-2014)، السيطرة على الجامع في الضفة كفضاء اجتماعيّ وسياسيّ، يمارس فيه الناس أنشطتهم ويطلقون منه مظاهراتهم.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد تركت سياسات سلام فياض في ما سمّي بـ “الإصلاح الاقتصادي” المجال أمام البنوك لإغراق الناس بالقروض، خالقة نوعاً من الرفاه الاقتصادي المتوهّم. فبناء على “سلطة النقد الفلسطينية”، ارتفعت نسبة الإقراض بين عامي 2007 و2017 إلى أكثر من 460%؛ الجزء الأكبر منها كانت قروضاً لأغراض استهلاكيّة.
ويشير كتاب “قبل الأزمة بقليل: سياسات إغراق الضفة الغربية بالديون” إلى ملامح ذلك، فالسيّارات على سبيل المثال بلغت قيمة قروض تمويلها عام 2008 نحو 40 مليون دولار، لكن هذا الرقم مع نهاية عام 2013 وصل إلى أكثر من 130 مليون دولار، وكانت نسبة السيارات المسجلة لأول مرّة عام 2018 والمرهونة لصالح البنوك 22%. أما فيما يخص الرفاه المصطنع، فبحسب “وزارة النقل والمواصلات”، دخل عام 2023 إلى سوق الضفّة الغربية نحو 3 آلاف سيّارة فارهة (من أنواع: مرسيدس، بي إم دبليو، لاند روفر، جاكوار، ألفا روميو، وبورش) لم يسبق لها أن رُخصّت في الضفة من قبل، أي ما نسبته 10% من مجمل السيارات المرخصة لأول مرة في هذا العام.
وبحسب “جمعية البنوك في فلسطين”، بلغت قيمة التسهيلات الائتمانية حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أكثر من 11 مليار دولار، أي بنسبة نمو 5% عن العام الذي قبله. ولتلبية هذه الحاجات الكبيرة التي خُلقت للناس في التسهيلات الائتمانية والإقراض، تزايدت أعداد الفروع والصرّافات المقدمة للخدمات البنكية في فلسطين، فوصلت إلى 378 فرعاً و724 صرّافاً آلياً تتبع 13 بنكاً.
في المحصلة، أدى العمل على هذه المستويات الثلاث خلال هذه السنوات إلى صناعة العجز في الضفة، والذي ضربت جذوره بعيداً في أعماق الأرض. فمن جهة صودر حقّ الناس بالانتظام ضمن أطر اجتماعية فاعلة تقوّي من نسيجهم الاجتماعي فتركوا عُزّلاً أمام سياسات الاحتلال والاستيطان، ومن جهة أخرى صودر حقهم في التعبير السياسي عبر ابتزازهم بالأمور المعيشية فتركوا عُزّلاً أمام توحش البنوك إذ جرى ربطهم بمقصلة الديون، ومن جهة ثالثة، جرى العمل على تفكيك المقاومة المسلحة بضربها وضرب حاضنتها الاجتماعية.
وبينما يحدث ذلك على شريحة جيلية بأكملها، جُرّبت عليها سياسات ما بعد الانتفاضة الثانية، كان ثمّة جيل يكبُر لم يخضع لهذه السياسات، فلا يقيّده قرضٌ ولا لجَمَه قمعٌ، ولم يضرب لنفسه أوتاداً من العجز في الأرض؛ هذه بعض سمات شباب الكتائب المسلّحة في الضفة اليوم، الذين لم يثّاقلوا إلى الأرض في سبيل أن تلتحق الضفة…