طهران- على النقيض من المحاولات الحثيثة التي بذلتها أوساط إعلامية واستخبارية لمعرفة طبيعة الانتقام الإيراني على هجوم قنصليتها في دمشق، تبيّن عقب عملية فجر الأحد الماضي أن أطرافا عديدة كانت مطلعة على توقيت الهجوم، مما أسهم في تغطيته إعلاميا وبثه مباشرة على أبرز المحطات الإخبارية العالمية.
فعلاوة على الرسائل المتبادلة بين واشنطن وطهران، أكدت الأخيرة أنها قد أبلغت دول الجوار قبل 72 ساعة من تنفيذ الهجوم، مما أثار تساؤلات عن أسباب تسريب إيران توقيت العملية وتحويلها إلى مشاهد يتابعها العالم بأكمله عبر البث المباشر.
ومع ادعاء الجيش الإسرائيلي أنه اعترض 99% من المسيّرات والصواريخ الإيرانية، ألقت شريحة من الإيرانيين باللائمة على سلطات بلادها، ورأت أن تأجيلها الانتقام طويلا منح الطرف المقابل فرصة كافية لتعبئة كل ما لديه ولدى حلفائه من أنظمة الدفاع الجوي، بينما كان للمراقبين والخبراء رأي آخر.
دلالة رمزية
تقول الشريحة الثانية إن بلادها تعمّدت نهج سياسة شفافة ومسؤولة على غرار القوى الكبرى، ودخلت الصراع المباشر مع عدوها اللدود من بوابة العملية التي أسمتها “الوعد الصادق” وشعارها “يا رسول الله” للدلالة على أنها صادقة مع جمهورها فيما تعده، وأنها تستهدف “الكيان المحتل للأراضي الإسلامية نيابة عن الأمة الإسلامية”.
و”بعد أن راهنت بعض الأوساط السياسية والإعلامية على أن إيران لن تنفذ تهديدها، زاعمة أنها لم ترد أصلا على أي من الهجمات الإسرائيلية، أرادت طهران هذه المرة تدشين معادلة ردع وقواعد اشتباك جديدة على مرأى العالم ومسمعه”، وفق الصحفي المتخصص في الشؤون الدولية رضا بردستاني.
ويوضح بردستاني للجزيرة نت أن بلاده وعدت ونفذت هجومها من داخل أراضيها خلافا “للكيان الصهيوني” الذي يضرب المصالح الإيرانية من أجواء دولة ثالثة، فعمدت على تحدي أحدث الأنظمة الدفاعية لدى إسرائيل وحلفائها الذين يتخذون من أسلحتهم الذرية عاملا للغطرسة واضطهاد الشعوب، على حد قوله.
وقد تكون الرسائل العملية المرسلة من خلال الهجوم الأخير أهم من النتائج التي أرادت لها طهران أن تكون سياسة، فحذّرت في سياق التغطية الإعلامية “إن ضربتم ضربنا وإن عدتم عدنا، مع الفارق أن الضربات المتتالية ستكون أشد وأفتك مما سبق”، يضيف الصحفي الإيراني.
تدمير الأسطورة
أما العوامل الأخرى التي حفزت إيران على رفع السرية عن عمليتها وإلغاء عنصر المباغتة، يلخصها بردستاني في “حرص طهران على طمأنة الرأي العام بشأن تحكيم العقلانية في سلوكها مع المجتمع الدولي، رافضة استهداف المقرات الدبلوماسية واستخدام أسلحتها الأكثر تطورا واللجوء إلى تحريك القوى النيابية”.
وبرأيه، وفّرت التغطية الإعلامية مساحة كبيرة للخطاب الإيراني الداعم للقضية الفلسطينية والمعارض للاحتلال، مما أدى إلى تعاطف الشعوب لاسيما العربية والإسلامية مع طهران.
ويتابع “وبذلك عزفت طهران على وتر الحرب الإعلامية التي كانت قد خسرتها تل أبيب في غزة منذ أكثر من نصف عام، مما مهد لإيران أن توجه صفعة لإسرائيل في الزمان والمكان المناسبين لطالما انتظرها الرأي العام العالمي”.
ويضيف بردستاني أنه بعد أن روجت تل أبيب على مدى العقود السابقة أنها تتربع على عرش الصناعات العسكرية بالمنطقة، وأنها قادرة على ضمان أمن الدول الأخرى وحمايتها من التهديدات المحدقة بها، جاء الهجوم الإيراني الذي حظي بتغطية إعلامية مباشرة ليرسل رسائل ناعمة للدول المطبعة بإسقاط “أسطورة الجيش الذي لا يُقهر” وأظهر أنه بحاجة ماسة للدعم الأميركي والغربي.
وفي سياق الحرب الناعمة، يشير الباحث السياسي بوريا آستركي إلى أن إيران استغلت بث عمليتها على المحطات “لتثبت للعالم أنها القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط، وليس كيان الاحتلال، فتصرّفت بمسؤولية كقوة عسكرية كبرى، وبذلك بعثت رسائل مقصودة إلى القوى العالمية الكبرى”.
ويضيف أن النوايا الإيرانية من الكشف عن توقيت عمليتها تتجاوز الحرب النفسية، لتمنح إسرائيل وحلفاءها فرصة كافية لتعبئة كل ما لديها من أنظمة للدفاع الجوي لكشفها وجمع بيانات مهمة عنها عبر الكاميرات التي كانت مركبة على بعض المُسيّرات والعمل الاستخباري داخل الكيان الإسرائيلي.
تجارب سابقة
وبرغم إحجام الباحث الإيراني عن الحديث عن دور البرنامج الفضائي الإيراني في هذه العملية، فإن هناك من يرى أن الأقمار العسكرية والاستكشافية الإيرانية من شأنها لعب دور أكبر في جمع البيانات والصور و”تفويت الفرصة على العدو الذي اعتاد التعتيم على خسائره”.
ويستشهد آستركي -في حديثه للجزيرة نت- بالتباين الكبير في الإحصاءات المعلنة على لسان المتحدثين باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتل أبيب بشأن خسائر إسرائيل في عدوانها المتواصل على غزة.
ويقول و”لولا التغطية الإعلامية الشاملة ومشاركة الشعوب في توثيق مشاهد تحليق الصواريخ والمُسيّرات في أجواء فلسطين المحتلة واستهداف أراضيها، لأنكرت تل أبيب وصول أي منها، أو قد تدعي أن الصواريخ والمُسيّرات التي تجاوزت دفاعاتها الجوية سقطت على رؤوس الأبرياء”.
وانطلاقا من المثل القائل إنه “من جرب المجرب حلت به الندامة” استغلت إيران تجربتها في استهداف قاعدة عين الأسد التي تؤوي جنودا أميركيين بالعراق، ردا على اغتيال الإدارة الأميركية السابقة مطلع عام 2020 القائد السابق في فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، فحينها تم التستر على إصابة عشرات الجنود بارتجاج دماغي، خلال أكثر من شهر.
وأشار آستركي إلى أن إعلان تل أبيب أن الهجوم الإيراني لم يخلف ضحايا وخسائر داخل إسرائيل يفضحها أكثر من أن يثبت ضعف الهجوم الإيراني، ويظهر دقة الأسلحة الإيرانية ومسؤولية القوات المسلحة الإيرانية بتجنب التجمعات البشرية، لا سيما المدنية منها.
وخلُص إلى أن هناك معلومات دقيقة حول إصابة أكثر من 50 صاروخا في القواعد العسكرية الإسرائيلية التي تتمتع بأكبر قدر ممكن من الدفاعات الجوية.