قبل 4 أشهر من الآن، بدأ قصف إسرائيلي عنيف على قطاع غزة، وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن “حصار كامل” على 2.3 مليون فلسطيني، وصفهم بأنهم “حيوانات بشرية” وأمر بأنه لن يصلهم “لا ماء ولا غاز ولا كهرباء” ولا طعام أيضا، ثم طلبت إسرائيل من سكان شمال القطاع الفرار إلى الجنوب.
وفي الوقت ذاته، حذرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من “نكبة ثانية” مع أن النكبة لم تتوقف في الحقيقة أبدا، فماذا يفعل سكان غزة؟ وأين يذهبون؟
بهذه المقدمة افتتحت لاكروا حوارا مطولا على واتساب بين صحفيتها فينسيان جولي وشاب فلسطيني يدعى أحمد تعرفت عليه عبر صديق مشترك لقيته في بيت لحم، فحدثها أحمد عن حياته اليومية تحت القنابل، لتشكل مراسلاتهما وثيقة فريدة من نوعها عن هذه الحرب.
13 أكتوبر/تشرين الأول
تبدأ المراسلة بين الصحفية وأحمد بعد 6 أيام من بدء العدوان، حول ماذا سيفعل بعد أن أمرت إسرائيل بمغادرة الفلسطينيين إلى جنوب قطاع غزة، ليرد “أبقى في غزة” مضيفا “حتى لو أردنا المغادرة فلا يمكننا ذلك، لا توجد وسيلة نقل وجميع الاتصالات مقطوعة، أولئك الذين ليس لديهم سيارة عالقون. أتحدث إليكم تحت صوت القنابل التي تنفجر باستمرار. لم تعد هناك كهرباء ولم يعد لدينا ماء”.
ينقطع هاتف أحمد، ولكنه يرسل لاحقا 3 رسائل مختصرة ليقول “هذا الأمر الإسرائيلي نكبة جديدة وطرد قسري جديد لطردنا نحو مصر. والعالم يتحدث عن الإنسانية؟ أتمنى أن تتوقف هذه الحرب القاسية التي نعانيها ونحن نعيش آخر أيامنا. سوف نشكو الدنيا إلى الله حين نلقاه. الآن يمكنك التحدث إلينا، وغدا يمكنك البكاء علينا”.
وتمر الأيام والليالي بأخبارها الكارثية عن قصف مخيمات اللاجئين، وانتظار وقف إطلاق النار الذي لا يأتي، وسلبية الدول العربية ولامبالاة الغرب، ثم يأتي الغزو البري ومعه التعتيم التام، وتهاجم إسرائيل المستشفيات والمدارس وسيارات الإسعاف والجامعات والأسواق والمساجد والكنائس فـ”لا يوجد مكان آمن” كما تقول الأمم المتحدة.
وبعد 4 أشهر من الحرب، تقول صحفية لاكروا إنها أدركت، عندما أصبح أحمد تحت النار في خان يونس التي لجأ إليها، أن هذه المحادثة وثيقة كانت تتتبع حربا مكبوتة من خلال عيون شاب محاصر، يروي حياته اليومية ويشارك مخاوفه وحزنه، وبالتالي “أردنا أن نجعل هذا الصوت الفريد مسموعا، لنعلي من خلاله أصوات الفلسطينيين المخنوقة في غزة، ولنسترجع إنسانيتهم التي تمحوها الاعتبارات السياسية أحيانا”.
11 نوفمبر/تشرين الثاني
بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي إنذارا بأن كل فلسطيني يبقى “شمال وادي غزة” سوف “يعتبر متواطئا مع منظمة إرهابية” قررت أن أكتب إلى أحمد الذي لم يكن يريد أن يهرب من بيته، فرد بأنه سلك طريق المنفى وهو في خان يونس، حيث تستضيفه عائلة يعرفها، مع أصدقاء آخرين، وعليه الآن أن يبحث عن الطعام.
وينقطع الاتصال قبل أن يعود في 6 ديسمبر/كانون الأول، ليقول أحمد السبب هو فقدان الإنترنت وصعوبة شحن الهواتف مع انقطاع الكهرباء. ويتواصل الحوار، يصف فيه القصف والقتلى والمصابين في خان يونس، وتقول الكاتبة “أسمع ضجيج التفجيرات في التسجيل الذي يرسله لي، وكأن القنابل تمطر من حوله”.
وفي يوم 12 ديسمبر/كانون الأول، يكتب أحمد “أنا لست بخير. تم قصف الغرفة التي كنت أنام فيها مع إخوتي وأصدقائي. لدي شظايا صاروخ في جميع أنحاء جسدي. أخي في العناية المركزة. لقد فقد ساقه. يد أبي مكسورة وأصيب في رأسه وعينه. ومن بين الأصدقاء الذين كانوا معنا، توفي بعضهم والبعض الآخر في المستشفى”.
وتمر رسائل عديدة يطلب أحمد في بعضها من الكاتبة مساعدته في إخراج أخيه للعلاج بالخارج، ويصف حياته الموزعة بين رعاية أخيه في خان يونس وتفقد باقي عائلته في رفح، وكيف بدأ يتعافى من إصاباته.
ويأتي الرد من الصحفية بأنها تحدثت مع السفارتين الفرنسيتين بالقدس والقاهرة لتفهم سبب عدم إحراز أي تقدم في قضية شقيق أحمد، ويبدو لها أن إسرائيل لديها حق النقض على من يدخل ومن يخرج عبر معبر رفح، كما أنه يمنع خروج العديد من المصابين، ولهذا لا يعلم أحد متى سيمكن إدراج اسم شقيق أحمد في قائمة الإخلاء.
ويقول أحمد “ما زلت أعتقد أنه يمكن أن يخرج قريبا. أخي ليس له أي انتماء سياسي أو حزبي، ولا ينتمي إلى أي تنظيم. إنه رجل عادي يعيش فقط من أجل زوجته وابنه. فهو لا يطمح إلا للعمل والعيش معهم بسلام. للأسف، سرقت الحرب أمله وشغفه وحبه وحياته.. وبدون أن يكون مذنبا لا بد من بتر ساقه. ومن الآن فصاعدا سوف نسميه شخصا معاقا”.
1 يناير/كانون الثاني
بعد التهنئة ببدء 2024 وتمني أن يكون عام خير وأمن وسلام لكل من فقد الأمل والأمن والسلام في العالم المنصرم، يذكر أحمد أن الأشعة السينية أظهرت أن شظية صاروخية على يسار عينه، وأنه بالتالي سيخضع لعملية جراحية خفيفة، معبرا عن خوفه من ذلك.
وبعد الجراحة التي قال أحمد إنها مؤلمة واستمرت 1.5 ساعة، تسأله الكاتبة عن أحواله يوم 9 يناير/كانون الثاني ولكنها لا تتلقى الرد إلا يوم 16 مع الاعتذار بغياب الإنترنت لمدة 6 أيام، كما أرسل صورة لوجهه الشاحب وعيونه الحبرية وضمادة على جبهته وجفنه المصاب بكدمات، وقال إن الجميع هنا أصيبوا بالفيروس. الجميع مريض أو يسعل أو يعاني من الحمى أو الصداع.
ويكتب الشاب يوم 17 يناير/كانون الثاني أن “الوضع حول المستشفى خطير للغاية. نحن محاطون بالقتال والتفجيرات، القصف لا يتوقف أبدا. وهناك أسمع صوت انفجار القنابل. لقد غادرت بالفعل العديد من العائلات التي لجأت إلى المستشفى. أخشى أن يأتي وقت يُطلب منا فيه إخلاء المستشفى. وبعد ذلك، إلى أين سنذهب؟
ويوم 19 يكتب احمد “نحن نعيش مأساة. الإنترنت والاتصالات مقطوعة. نحن معزولون عن بقية العالم كما لو كنا على كوكب آخر. لا نعرف ما يعرفه العالم عما يحدث هنا، وعن المأساة التي نعيشها. لذا انشروا هذه الرسالة، نأمل أن تنتهي الحرب قريبا. ونأمل أن نعود إلى حياتنا قبل الحرب. لا شيء آخر. نتمنى أن ننام ونستيقظ سالمين غانمين. ونأمل أن يتعاطف هذا العالم مع ما نمر به. نأمل أن نعامل كبشر”.
وكانت آخر رسائل الشاب الفلسطيني تعود إلى 2 فبراير/شباط، والقصف الإسرائيلي لا يتوقف، ولا يزال القتال محتدما في خان يونس، وخاصة حول المستشفيات. يقضي أحمد أيامه في رفح حيث يقدم الخدمات للمنظمة غير الحكومية التي كان يعمل بها في غزة. يعود إلى خان يونس مساءً (يحاول) النوم مع شقيقه مجد الذي لا يزال في المستشفى، وينتظر العلاج بالخارج.